الكتاب: "الفساد والدولة الفاشلة: تونس أنموذجًا"
الكاتب: د. رابح الخرايفي
الناشر: دار الكتاب، تونس، الطبعة الأولى 2021
(311 صفحة من القطع الكبير)
على الرغم من أنّ الانتقال الديمقراطي الذي عرفته تونس يُعَّدُ ناجحًا نسبيًا، فإنّ كلَّ الحكومات المتعاقبة المنبثقةعن الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في سنوات 2011، و2014 و2019، لم تكن تمتلك استراتيجية وطنية لمحاربة الفساد المستوطن في جل مفاصل الدولة التونسية، وإدارتها.
ولعل تأخر تناول موضوع الفساد، وكشف مظاهره وسُبل محاربته سوسيولوجياً، وقانونياً، وسياسياً وثقافياً، يعود في بعض أسبابه إلى فشل الدولة التونسية ورخاوة أجهزتها المتمظهرة في الإهمال المتعمّد من قبل الماسكين بالقرار السياسي، وفي نفس الوقت إهمال النخب الفكرية لأدوارها المطلوبة.
ورغم وجود نظام استبدادي على قمة السلطة في عهد الرئيس السابق بن علي، فإنّه لم يكن من الممكن وصف تونس بالدولة الفاشلة، على نقيض ما تعيشه البلاد منذ سنة 2011 ولغاية الآن، في إطار ما يمكن وصفه بِـ"سراب الدولة" وليس الدولة الحقيقية.
في المقاربات الغربية لمفهوم الدولة الحقيقية، يمكن أن نستحضرالمقاربة التي قدمها الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، الذي يعرف الدولة بعدّها الوحدة القادرة على احتكار العنف، وممارسة الضبط على كامل إقليمها. ويركزهذا الفهم على الركيزة الأساسية لوجودالدولة. في حين يقدم عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، مقاربة أخرى عن مفهوم الدولة الحقيقية، حين يقول: إنّ "الدولة هي محصلة تركيز مختلف أنماط رأس المال، رأس المال الإكراهي (الجيش والشرطة)، ورأس المال الاقتصادي، ورأس المال الثقافي أو المعلوماتي، ورأس المال الرمزي. ويمنح هذا التركيز الدولة نوعًا من رأس المال الفريد، الذي يمنحها سلطة على كل أنماط رأس المال الأخرى وحائزيها".
وإذا كان ممكنًا أن نجد الدولة بالمعنى الإكراهي الاحتكاري الذي قدمه ماكس فيبر وبيار بورديو، في عهد الرئيسين السابقين (الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي) اللذين حكما تونس طيلة أكثر من نصف قرن ،فإنّ الدولة التونسية في مرحلة ما بعدالثورة عجزت عن الانتقال من دولة كانت تمتلك القدرة الإكراهية أوالاحتكارية لوسائل العنف التي تؤمن بصورة معينة الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، إلى دولة وطنية ديمقراطية تعددية. فكانت الآزمات الاقتصادية والاجتماعية، والرهان على تيارات الإسلام السياسي من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحادالأوروبي كبديل للنظام الديكتاتوري السابق، فضلاً عن التدخلات الإقليمية والغربية في الشأن الداخلي التونسي، أهم العوامل الأساسية في تكريس نسق الانحدارلفشل الدولة التونسية، من دون إنكار أثر الاستسلام للأحزاب السياسية التي وصلت إلى السلطة منذ سنة2011، لهذه العوامل في إدامة فشل إعادة بناء الدولة الوطنية.
في تعريف الدولة الفاشلة
قد يتساءل المرء، هل أنّ تونس منذ عام 2011 ولغاية اليوم، تقع في منطقة الدول الفاشلة،أو المتجهة إلى الفشل؟
يُعَّدُ استخدام مفهوم الدولة الفاشلة من الناحية الأكاديمية حديثا جدّا، إذ يعود إلى عقد التسعينيات من القرن الماضي، ومن أشهر التعريفات العديدة المقدمة حول الدولة الفاشلة، يمكن الاستئناس بتعريف الأستاذ إيرا وليام زارتمان مؤسس ورئيس مجلس الإدارة الحالي للمعهد الدولي للسلام والأمن، للدول الفاشلة، بأنها تلك الدول التي تعجز عن أداء وظائفها ولا ينحصر هذا في الدول التي تشهد حرياً أهلية لتكون في فوضى، ولكنها تشير أيضاً إلى الدول التي تنخفض قدرتها على تحمل مسئولياتها.
ما يجعلنا نركزعليه بعيدًا عن استعراض هذا الكم الهائل من الكتابات الاكاديمية والتصريحات السياسية حول تعريف الدولة الفاشلة، هوواقع الدولة التونسية التي لم تشهد صراعات داخلية (سوريا، وليبيا، واليمن، والعراق)، لكنها تحتوي على العوامل الداخلية المشجعة لظهور حالة الدولة الفاشلة بالمعنى المتعارف عليه والسابق توضيحه .
من أخطر عوامل فشل الدولة التونسية، استشراء الظواهر الخطيرة التي باتت تشكل أمراض هيكلية للاقتصاد التونسي، ومنها ظاهرة الفساد وسرقة المال العام وتجاوز السلطة والاعتداء على أملاك الدولة، ممّا نتج عنه وجود شبكة مصالح أوجدت لوبيات بشكل حتمي لهاارتباطات قوية فيما بينها للدفاع عن وجودها، فبقائها، فتطوّرها وانتشارها ،فاتساع رقعتها، وأصبحت تلك الارتباطات تنشط خارج إطار الدولة من خلال التهريب والتهرب الضريبي، الأمر الذي تحوّل بمرور الزمن إلى ثقافة عامة تسرّبت حتى إلى مؤسسات الدولة.
تُعَّدُ العوامل الداخلية الأكثر حسماً في تحديد إمكانية تعرض الدولة التونسية للفشل، فرغم الدور المهم الذي يقوم به العامل الخارجي، فإنّه يستثمر ما هو قائم من عوامل فشل هيكلية، ويوجدها في ذاتها. لقد تعرضت تونس لهزات وخضات عنيفة خلال العقد الماضي (2011- 2021)، ورغم وجود عوامل فشل هيكلية في الدولة التونسية، إضافة إلى عوامل الإفشال الخارجية ، فإنّ فشل الدولة التونسية ليس قدراً مقدوراً لا يمكنه الفكاك منه، لكن التخلص من عوامل الفشل الداخلية، ومقاومة عوامل الإفشال الخارجية، تحتاج إلى استراتيجية وطنية تعتمد على القوى الذاتية للخروج من هذه الحالة.
يحاول هذا الكتاب الجديد ، الذي يحمل العنوان التالي: "الفساد والدولة الفاشلة"، و يتكون من مقدمة طويلة، وأربعة أجزاء تحتوي على ثمانية فصول طويلة، ويتضمن 311 صفحة من القطع الكبير، لمؤلفه الدكتور رابخ الخرايفي عضو المجلس الوطني التأسيس سابقًا، والمحامي لدى محكمة التعقيب، والأستاذ الجامعي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والتصرف بجندوبة، أن يقدم مقاربة حول موضوع الفساد، وأسبابه، ومظاهره، وطرق مكافحته سوسيولوجياً، وقانونياً، في علاقته بفشل الدولة التونسية، لا سيما بعد أن أصبح الفساد خطراً على المجتمع، وغداً عائفقاً أمام تنفيذ سياسات التنمية العمومية، وأمام تطبيق قواعد الممارسة الديمقراطية وسنن التداول على السلطة سلمياً، وكذلك لما أصبح الفساد مُتسبباً في نزيف المالية العمومية، ومخرباً لقيم النزاهة، والاستقامة والشفافية، والحكم الرشيد.
وربما قد يفسر هذا التأخر والإهمال، إما باستمرار انتفاع هؤلاء السياسيين من عائدات الفساد المالية والعينية، أو لجهلهم بآثاره المدمرة، وربما أيضاً لسوء تقدير مخاطره في بعض الدول العربية، والإفريقية. ويرجع هذا التأخر في الاهتمام بمكافحة الفساد إلى منع الخوض في أسبابه، وآثاره، واعتقال من يتجرأ على فتح ملفات الفساد. ويُمنع الحديث فيه والتنبيه إلى خطره في بعض الدّول بسبب تسلّط أنظمتها السياسية واستبدادها.
الأصل أن الديمقراطية حاضنة للشفافية ولا توفر إطاراً أو مكاناً للفساد. فالفساد إن نشأ وانتشر في المجتمع وأجهزة الدولة فهو مدمر للديمقراطية وعلامة من علامات مرضها، وهو مشوه لتطبيقها، والاستبداد هو حاضنة الفساد وليس الديمقراطية.
يقول الكاتب رابح الخرايفي في تحليله لعدم انخراط الدولة التونسية في محاربة الفساد، ما يلي: "أما الدولة التونسية، فلم تنتبه نخبها الفكرية، والسياسية المتعاقبة سواء التي حكمت أو التي كانت في المعارضة، منذ الاستقلال في 20 آذار/ مارس 1956 ـ إلى ضرورة مكافحة الفساد إلا مؤخراً، وخاصة لما وافقت الدولة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بالقانون عدد 16 لسنة 2008 المؤرخ في 25 شباط / فبراير 2008، ونشر هذا القانون بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية، ونفذ بوصفه قانوناً من قوانين الدولة. ولعل هذه الغفلة كانت عن جهل في سنوات الاستقلال الأولى، وإهمالاً فيما يليها من السنوات.
أما في السنوات العشرين الأخيرة من حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، فقد كان سبب عدم إثارة خطر الفساد ودوره في تدمير أسس الدولة عمداً وقسراً، هو استفادة الرئيس بصفة شخصية مباشرة، واغتنام مؤيديه حزبياً، وأقربائه عائلياً من ظاهرة الفساد وعائداته المالية، والعينية الضخمة.
وجدير بالتذكير أن تناول مواضيع من قبيل (علاقة الفساد بفشل الدولة وضعفها وارتخاء مؤسساتها" كان ممنوعاً تداوله والبحث فيه، وقبس على ذلك في علاقة الفساد بتبذير المال العام، وهتك مبادئ المساواة أمام القانون والمرافق العمومية وطال المنعُ كذلك تناوله في الإعلام العمومي أو الخاص نظراً لسيطرة النظام التسلطي عليه. كما كان النقاش محجراً وممنوعاً إدراجه في السياسات العمومية للدولة، وممنوع تناوله في البحوث الأكاديمية الجامعية، وممنوع الخوض في أسبابه، وأصنافه، وحجمه، وكشف المنتفعين بعائداته المالية، والعينية"، (ص7 من المقدمة الطويلة).
حين تكون الديمقراطية حاضنة للفساد في تونس
يبدو أن بحث العلاقة النظرية، أو العملية بين الفساد والديمقراطية غير مستساغ ومستبعد من برامج البحوث الأكاديمية والعلمية، لأنه لا يوجد رابط موضوعي بينهما لتضادهما وتنافرهما.
الأصل أن الديمقراطية حاضنة للشفافية ولا توفر إطاراً أو مكاناً للفساد. فالفساد إن نشأ وانتشر في المجتمع وأجهزة الدولة فهو مدمر للديمقراطية وعلامة من علامات مرضها، وهو مشوه لتطبيقها، والاستبداد هو حاضنة الفساد وليس الديمقراطية.
لكن يمكن أن تكون الديمقراطية غطاء للزبونية وإطاراً لنشأتها، وتشعبها باعتبارها مظهراً من مظاهر الفساد الذي يهدد مبادئ تكافئ الفرص، والمساواة أمام القانون، والمرافق العامة. غير أنه ينبغي الإقرار بأن هناك علاقة بين الفساد والديمقراطية في الدول التي مرت والتي مازالت بصدد المرور من أنظمة التسلط والاستبداد إلى أنظمة ديمقراطية، فتعيش مرحلة انتقالية توصف بمرحلة الانتقال الديمقراطي، وتونس من هذه الدول التي عرفت هذه المراحل والتي مازالت تعرف انتقالا ديمقراطياً.ينبغي أن نتحلى بالشجاعة العلمية والموضوعية فلا نتحرج أو نهمل حينئذ بحث وتحليل مسألة علاقة الديمقراطية بنمو الفساد وانتشاره في تونس بعد ثورة 17 كانون أول/ ديسمبر 2010 ـ 14 كانون الثاني/ يناير 2011، لاسيما خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي.
يقول الكاتب رابح الخرايفي: "وعليه، يمكن أن تكون الديمقراطية في أغلب الأحوال عاملاً من العوامل المقاومة للفساد، غير أن هذا الاستنتاج لا يحجب فرضية أن تكون الديمقراطية في ذات الوقت فاسدة وغطاء للفساد بحجبها له فينمو في ظلها وتنتشر ثقافته.
وجب علينا أن ننتبه للعلاقة ذات التأثير المتبادل مابين الديمقراطية والفساد غالباً ما يهملها، أو يتغافل عنها كثير من الباحثين، والسياسيين بحجة القناعات، والمعتقدات الراسخة لدى عموم الناس وهي أن الديمقراطية تقضي على الفساد، وتجفف منابعه، وتمنع انتشاره متغافلين على إمكانية أن تكون الديمقراطية غطاء للفساد"(ص170).
لقد انتشر الفساد في ظل الديمقراطية في تونس بعد الثورة لأنها تمثل الواجهة المطمئنة للناس بينما في عُمقها ينبت الفساد، الذي يمثل خطراً على الديمقراطية لأن بنية نظام الحكم الجديد الذي قطع مع نظام الاستبداد تقوم في العمق على الزبونية السياسية التي سيحتكر عبرها عديمو الكفاءة الوظائف العامة
والحال هذه فإن الحكومات المتعاقبة في تونس، التي تتالت في مرحلة الانتقال الديمقراطي، وفي ظل"الديمقراطية التوافقية"، عجزت عن إدارة منظومة الفساد، وتحليلها، لأنها لم تتجرأ عن فتح ملف الفساد، وبالتالي فهي بما تمثله كمنظومة حكم متكونة من السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، غير مؤهلة لتأسيس النظام الديمقراطي الذي يؤمن ببناء دولة القانون، والفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، وتحقيق العدالة الاجتماعية، بوصفها الانتظارات الاستراتيجية للشعب التونسي.
فبعدعشر سنوات على "ثورة الكرامة" التي رُفع فيها شعار "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق" كردّ عام على استشراء الفساد وتمدده في كل النواحي، يتأكد اليوم أن "إمبراطورية الفساد" في تونس لم تسقط، بل إن أباطرتها قد ازدادوا نفوذاً وباتوا يشكلون قوة مؤثرة تستفيد من "الديموقراطية الناشئة" وتتأقلم مع التحولات السياسية والاقتصادية القائمة، مستغلة الهوامش والمساحات الفارغة.
ويُمَارَسُ الفساد في تونس ضمن علاقة تبادلية مع النطاقات السياسية والإدارية والاقتصادية، إلى الحدّ الذي بات معه من الصعب فصل التشابك بينهم، وهو ما تؤكده فضيحة "أوراق باناما" العالمية، إذ يتصدّر سياسيون تونسيون يرفعون شعارات "مقاومة الفساد" قائمة مُهَرِّبِي الأموال إلى الخارج،في الوقت الذي تشيرفيه تقارير دولية ومحلية إلى تضخم حجم الفساد في تونس وتحوله إلى ظاهرة تخترق تفاصيل المجتمع، فيتبين أن البيروقراطية الإدارية تساعد على الرشوة بنسبة 56 في المئة، وأن 27 في المئة من التونسيين يعتقدون أن الرشوة هي الحل لمشاكلهم.
وقد بيّن تقرير دائرة المحاسبات لعام 2015 حجم الفساد المستشري في قطاعات الصحة العمومية والتعليم والبنية التحتية، وأنه صار يحظى بتغطية سياسية وبتواطؤ رسمي على الرغم من الشعارات المنادية بمقاومته وعلى الرغم من تعدد الهياكل الرقابية، الرسمية.
لقد انتشر الفساد في ظل الديمقراطية في تونس بعد الثورة لأنها تمثل الواجهة المطمئنة للناس بينما في عُمقها ينبت الفساد، الذي يمثل خطراً على الديمقراطية لأن بنية نظام الحكم الجديد الذي قطع مع نظام الاستبداد تقوم في العمق على الزبونية السياسية التي سيحتكر عبرها عديمو الكفاءة الوظائف العامة فينتهك من ثمة مبدأ المساواة أمام الدخول للوظائف العامة، وينهار آداء المرافق الإدارية فتتولد نقمة اجتماعية فتفرز عنفاً اجتماعياً.
أضف إلى تلك الزبونية السياسية كمظهر من مظاهر الفساد، تطبيع المواطنين مع افساد، والتسامح معه. وقبوله كممارسة يومية. فقد ذهبوا إلى اختيار الفساد مصعداً اجتماعياً لهم، لما يحققه من جميع ثروة سريعة، ويسيرة، ودون جهد.
العرب في استراتيجيات الهيمنة الأمريكية.. المقدمات والمآلات
النقابات المهنية في مواجهة الاستبداد في العالم العربي
قراءة في وثائق من تاريخ العلاقات السوفييتية-المصرية