يوجد مستقبل لتونس بعد الانقلاب، وهذه جملة متفائلة لكنها يتيمة فلا مكمل لها حتى الآن، فالمؤشرات تتراكم على أن النخبة السياسية لم تع الدرس ولم تتقدم
في اتجاه الديمقراطية فعلا، رغم كثرة الكلام حول لزوم إنهاء الانقلاب.
عقدت النقابة مؤتمرا خارج القانون وفرضت
القيادة القديمة نفسها كفاعل رئيس في مشهد ما بعد الانقلاب، وهي تحاول فرض خيارها القديم عبر حوار وطني. يقسّم
اليسار الاستئصالي نفسه فيضع ساقا من الانقلاب وأخرى ضده، مستعملا كالعادة ودون أي تغيير في التكتيكات النقابة. نعاين بالتوازي وعن قرب تشكل كتلة تاريخية (وهذه مبالغة مني) ترفض الانقلاب وتتحرك في اتجاه التجميع السياسي. وقد سُمع حديث عن جبهة خلاص وطني، لكن يبدو أن هذا الائتلاف الناشئ لا يقوم بنفسه، إذ نراه يبحث عن سند من شيوخ استنفدوا حياتهم السياسية. ودون استباق نقول إن مشهد النخبة لم يتغير ولم يتعلم شيئا من الانقلاب لنفصل.
لا زال الانقسام الاستئصالي يشق الساحة
الانقسام حول الانقلاب هو نفسه الانقسام حول الديمقراطية، ومن لم يتفقوا حول الديمقراطية قبل الانقلاب لا يزالون يعيدون إنتاج نفس المواقف ونفس التبريرات بعده، كأن الانقلاب لم يحدث ولم يخرب البلد. إن ظاهر الموقف كباطنه.. كان التعايش على قاعدة الديمقراطية قبل الانقلاب يعني التعايش مع الإسلاميين بصفتهم ركنا مؤسسا لا ضيوفا على المجتمع
التونسي. ولقد كررنا في نصوص كثيرة أن وجود الإسلاميين في عملية ديمقراطية هو شرط لنجاحها، وخروج البلد من معارك الاستئصال إلى معارك التنمية. وكان ذلك يعني القبول بالتغيير السياسي والصبر عليه حتى ينتج ديمقراطية اجتماعية؛ لا يمكن لأي فرد مهما كان عبقريا أن ينقلب عليها.
وجود الإسلاميين في عملية ديمقراطية هو شرط لنجاحها، وخروج البلد من معارك الاستئصال إلى معارك التنمية. وكان ذلك يعني القبول بالتغيير السياسي والصبر عليه حتى ينتج ديمقراطية اجتماعية؛ لا يمكن لأي فرد مهما كان عبقريا أن ينقلب عليها
قراءتنا للسنوات العشر من
الثورة إلى الانقلاب تكشف أمرين: أن الثورة لم تغير مواقف النخبة ذات الهوى الاستئصالي وأن الانقلاب لم يفعل أيضا، لذلك لا نزال ندور رغم
تأثيرات الانقلاب على الدولة نفسها في نفس الدائرة المفرغة. ولا يبدو أن هناك أفق للخروج إلا إلى الاحتراب الأهلي، فالمنقلب يعيش من هذه المعركة وهو يستثمر فيها، وذلك آخر ما بقي له ليتنفس في الوضع الخانق الذي مهد له فعمقه ولا يزال يحرض عليه؛ إذ يستنصر بالاسئصاليين.
إن الانقلاب الثاني الذي حصل على لوائح النقابة وفرض التمديد للقيادة الاستئصالية المسيطرة عليها منذ نصف قرن؛ يأتي في سياق نفس المعركة المعادية للديمقراطية داخل النقابة وداخل البلد. ونعتبر مؤتمر النقابة خطوة إضافية في هذا المسار، فهذه القيادة ستواصل بلا خجل وضع النقابة ضد كل حل ديمقراطي ينتظر الناس أن يكون لما بعد الانقلاب. يعرف كل مراقب للوضع التونسي أن اليسار المتطرف خارج الآلة النقابية الشرسة لا وجود له ولا وزن، خاصة إذا عرض على صندوق انتخابي ولو بأكبر البقايا، لذلك رأيناه يخوض معركته ضد القانون ليحتفظ بوسيلة الضغط التي منع غيره بكل الحيل من دخولها. لقد كان مؤتمرا استئصاليا يستعد لما بعد الانقلاب، ليواصل معركة الاستئصال في أي مشهد قد يكون فيه إسلاميون.
خلاص وطني بشيوخ مستنفدين
لقد أطلقت الجملة في الساحة. ائتلاف المبادرة الديمقراطية (
مواطنون ضد الانقلاب) يصل الليل بالنهار لبناء جبهة سميت حتى الآن بجبهة خلاص وطني (كم عرف العرب من جبهة خلاص وطني؟)، لكنه وهو يجمع يحسن النية بالمعيقات القديمة. وأسمي هنا الجيل الأول من السياسيين الذين عارضوا بورقيبة وابن علي، ولكنهم عجزوا عن إحداث تغيير حقيقي حتى جاءت الثورة من خارجهم، وقد أفلحوا في التسرب إلى قيادتها وكانوا سببا في فشل كثير بعدها.
لا يبدو أن هناك أفق للخروج إلا إلى الاحتراب الأهلي، فالمنقلب يعيش من هذه المعركة وهو يستثمر فيها، وذلك آخر ما بقي له ليتنفس في الوضع الخانق الذي مهد له فعمقه ولا يزال يحرض عليه؛ إذ يستنصر بالاسئصاليين
يظن مواطنون ضد الانقلاب أن الاستناد إلى هذه الشخصيات الاعتبارية يزيدهم قوة (بالنظر إلى الثقل الرمزي المتوهم لهؤلاء)، لكني أجد في الاستنجاد بهؤلاء مضيعة للجهد والوقت. وأجد فيه خاصة هشاشة النخبة الوحيدة التي قامت فعلا ضد الانقلاب منذ ساعاته الأولى، فهي لم تحدث اختراقا حقيقيا في الشارع لتقوم بنفسها دون هذا السند المستنفد. هذا السند نفسه ما زال يسوق تاريخه القديم، متجاهلا دوره في تفريغ الثورة من مضامينها.
خطاب هؤلاء جاء مجاملا دون أن يقدم أي نقد ذاتي للأدوار السابقة بعد الثورة، وهو ما يبعدنا عن كل وهم أن هؤلاء قد فهموا الانقلاب وأسبابه، وأن لديهم وعيا باللحظة التاريخية التي تقتضي التجاوز النهائي لما جرى. لقد توهمنا أن سيأتي هؤلاء وراء الشباب ليدفعوا بهم إلى قيادة المرحلة القادمة، فإذا هم ماكثون حول نرجسيتهم يتصدرون المجالس لقيادة المستقبل، ونستشف من حديثهم القديم المتكرر أن البلد لا يصلح إلا بهم (ودورهم في المستقبل حيوي وضروري).
هنا نجد أن دروس الانقلاب قد ذهبت سدى، وأسمي بالجرأة الكافية نجيب الشابي و
راشد الغنوشي ومنصف المرزوقي. لم يقل أي من هؤلاء أن زمنه السياسي انتهى، بل سمعنا منهم حديث الزعيم الضرورة، وتكفي أسماؤهم ليستنكف كثير من معارضي الانقلاب ليتقربوا من جبهة الخلاص المزعومة. أنا أحد القائلين بأن قيادة ما بعد الانقلاب لا تكون بهؤلاء ولن تكون.
المنظومة القديمة لا تزال تستثمر في الانقلاب
المشهد نفسه.. اليسار الاستئصالي يستقوي بنقابته المقرصنة، ويقف ضد فكرة جبهة الخلاص الوطني ما دام فيها طرف إسلامي، فيلتقي موضوعيا مع مكونات المنظومة القديمة التي تعمل على العودة بالبلد إلى ما قبل الثورة، لا فقط ما قبل الانقلاب؛ رأس المال الفاسد الرافض لكل محاسبة (مستورد المزابل المسمومة من إيطاليا) وحزب الفاشية الذي يكرر نسخة ابن علي دون شخصه وبوليس ابن علي بنقاباته، وهي خلطة فاشية يسارية استئصالية. مجتمعة كلها خلف الانقلاب تظهر له النقد المهذب، ولكنها تمسكه أن يقع على وجهه وتدفعه إلى المزيد من التخريب، حتى يصير حديث الثورة والتغيير جريمة لا يود أحد استعادته أو التعرض لذكره في مجلس علني.
أفضل الحديث عن تخفيض سقف التفاؤل ولو غضب أصدقائي الذين يعملون على بناء جبهة خلاص وطني؛ وهم يعرفون أني من جنودهم دون ادعاء بأني الجندي الضرورة
هذه المكونات احتفت
بحل المجلس الأعلى للقضاء وتخرب موقف المحاماة المتماسك عبر عميد منها يخون القطاع. ويكفي أن نقيس حجم الإضرابات التي قادتها النقابة ضد حكومات ما بعد الثورة إلى صمتها المطبق بعد الانقلاب لنعرف من خرب الثورة، ومن لا يزال يعمل على تخريب كل أمل في الخروج من الانقلاب واستعادة المسار الديمقراطي. هؤلاء وحدهم استفادوا من درس الانقلاب، إنه انقلاب على الثورة وليكن طريقا لنسف مكتسبات قليلة ثابتة.
لنختصر تلك الجملة المتفائلة التي لا تزال يتيمة، فمكملات النص المتفائل لا تزال متناثرة لم تتشكل في سياق سياسي. هل نسيء الظن بالمستقبل؟ أفضل الحديث عن تخفيض سقف التفاؤل ولو غضب أصدقائي الذين يعملون على بناء جبهة خلاص وطني؛ وهم يعرفون أني من جنودهم دون ادعاء بأني الجندي الضرورة.