كشفت مأساة الطفل ريان سهولة التوافق العربي على القضايا الإنسانية، والدور المهم الذي يمكن أن تقوم به منصات التواصل الاجتماعي في الحشد والدفع. وهو ليس أمراً جديداً للمتفاجئين، فهذه المنصات أطاحت بحكومات أربع دول، وكادت أن تكتب التاريخ العربي من منظور شعوبي نابض قائم على الحرية والعدالة؛ قبل أن تتجمع حكومات الإقليم الهرمة المنتفخة بأموال النفط السوداء لتعيد الأمور إلى المربع صفر، وتفرض حكومات عميلة تأتمر بأمرها، وتضع قوانين مستبدة وسياقات قمعية كادت في لحظة تاريخية حالمة أن تغادر المنطقة بلا رجعة.
لكن قضية الطفل ريان كشفت أيضاً عن انتقائية وسائل الإعلام الجماهيري والمهني والفاعلين والمتلقين والوسائل، وسطحيتهم.. فمئات الآلاف من الضحايا في المنطقة الموبؤة بالقمع، المريضة بالاستبداد، المسكونة بالديكتاتوريات، لا ينُظر إليهم ولا يهتم بهم أحد، ولا يلفت الانتباه لمعاناتهم..
قصة طفل عالق في مقر أمني
في 9 آذار/ مارس 2019 اختطفت قوة أمنية أسرة كاملة من منزلها بالإسكندرية؛ الزوج عمر عبد الحميد أبو النجا، والزوجة منار عادل أبو النجا (27 عاماً) وطفلهما البراء أبو النجا البالغ من العمر وقتها عاماً واحداً. واختفت الأسرة لمدة 23 شهراً.. وفي 20 شباط/ فبراير 2021، ظهرت الزوجة منار عادل، مدرسة الرياضيات في كلية العلوم بجامعة طنطا بمحافظة الغربية، بصحبة ابنها الذي أصبح في عامه الثالث بينما لم يظهر زوجها حتى الآن.
قضى الطفل 714 يوماً؛ عالقاً في مقر مظلم للأمن الوطني بالقرب من محل سكنهم بمحافظة الإسكندرية.. لا يدري أحد كيف كان يأكل أو يعالج حين يمرض أو يلبس أو يستحم شتاءً!
خرج الطفل بذكريات المكان دون ما عداها، يعيش في هلع بعد أن سجنت أمه بالقانون وحال القضاء بينهما، يصرخ حينما يرى بشر، يحن إلى الغرفة المظلمة العارية من مقومات الحياة، يجري إلى الحائط كلما فُتح الباب يقف على استقامته ويداه متشابكتان وراء ظهره وعينه للأسفل.
وحينما خرج الطفل من قبره أو بئره، أثناء نقل أمه إلى سجن القناطر، تم الإفراج عنه وتسليمه لخالته.
وبحسب أشخاص حضروا جلسة نيابة أمن الدولة فقد أصيب الطفل بالذعر بعد أن انفصل عن والدته وصرخ بأنه يرغب في العودة إلى "الغرفة"، في إشارة إلى احتجازه بأمن الدولة، التي قضى بها الشطر الأكبر من طفولته.. بعد تحرره وخروجه سالماً معافى، لم يستقبله أحد ولم يسانده أو يدعمه أحد، فيما بقيت أمه مجرد رقم في السجون، وأبوه رهن الاختفاء القسري في صمت للعام الثالث على التوالي.
تضج السجون وقاعات المحاكم والنيابات بهكذا قصص مروعة لا ريان لها، لم يستحِ
عبد الله بومدين
في آذار/ مارس 2021، وثقت منظمات حقوقية إقدام الطفل عبد الله بومدين (من مواليد 12 كانون الأول/ ديسمبر 2005)، على الانتحار، أثناء اختفائه قسرياً داخل مقر الأمن الوطني في العريش..
واعتقل بومدين في 31 كانون الأول/ ديسمبر 2017، وهو في الثانية عشرة من عمره، ليختفي قسريا داخل أقبية الأمن الوطني في العريش والكتيبة 101، لمدة سبعة أشهر، أخفي خلالها والده قسرياً، وتم تصفية أخيه الكبير بعد اعتقاله وتعذيبه.
ثم عرض عبد الله على النيابة في 2 تموز/ يوليو 2018، وصدر قرار بإيداعه قسم شرطة الأزبكية ليقضي هناك ما يقرب من 100 يوم في الحبس الانفرادي، حيث تعرض لانتهاكات مضاعفة وسط ظروف احتجاز بالغة السوء؛ أسفرت عن ظهور دمامل في كافة أنحاء جسده، نتيجة منعه من الاستحمام لعدة أشهر، فضلاً عن تدهور حالته الصحية نتيجة اقتصار غذائه على الخبز والجبن. ثم حصل على حكم بإخلاء سبيله في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2018، وبعدما وصل إلى قسم شرطة العريش رفض ضابط الأمن الوطني إطلاق سراحه، ودخل في دوامة الإخفاء القسري مجدداً، مع تعذيبه والتنكيل به بدنيا ونفسيا، ما تسبب في إصابته بإصابات بالغة فقدَ معها القدرة على الحركة. ومع مرور السنوات أصيب بصدمة نفسية شديدة، حاول خلالها الانتحار بتناول كمية كبيرة من أقراص الدواء..
بخلاف حالتي البراء عمر أبو النجا وعبد الله بومدين فإن هناك 60 ألف معتقل عالق في السجون منذ ما يقارب العقد، في ظروف بالغة السوء، لم يسمح لهم بالزيارة منذ سنوات، وانقطعت السبل بينهم وبين أسرهم منذ العقد، لا يعرفون من مات ومن على قيد الحياة ومن تزوج ومن أنجب..
لا يلتفت الإعلام المهني أو الجماهيري إلى هؤلاء، بينما استُنفروا في قضية البراء، وكأنه لا معاناة غيرها ولم يتعرض للتهديد سواه..
تقف النظم القمعية فوق معاناة مئات الآلاف وآلاف الجثامين لمن قتلوا غدراً بالرصاص أو بالإهمال الطبي، مع صكوك حماية إقليمية، وأموال خليجية تقايض بها الأسلحة مع الدول الغربية مقابل صمتها..
إذا كان الإعلام المهني يوجه تبعاً للمصالح، فما الذي يوجه الإعلام الجماهيري أو منصات التواصل الاجتماعي؟!
إذا كان الصمت أو التغطية أو التجاهل والتناول يرتبط بمزاج الدول والرقيب وحارس البوابة الإعلامية، فمن يكبل الإعلام الجماهيري والمنظمات الحقوقية؟!
جميع هؤلاء مدعوون للقيام بواجب وقف الانتهاكات وتقديم مرتكبيها إلى يد العدالة.. قضية الطفل ريان أثبتت أن كل ذلك ممكن طالما الإرادة موجودة..
لكن قضية الطفل ريان كشفت أيضاً عن انتقائية وسائل الإعلام الجماهيري والمهني والفاعلين والمتلقين والوسائل، وسطحيتهم.. فمئات الآلاف من الضحايا في المنطقة الموبؤة بالقمع، المريضة بالاستبداد، المسكونة بالديكتاتوريات، لا ينُظر إليهم ولا يهتم بهم أحد، ولا يلفت الانتباه لمعاناتهم..
قصة طفل عالق في مقر أمني
في 9 آذار/ مارس 2019 اختطفت قوة أمنية أسرة كاملة من منزلها بالإسكندرية؛ الزوج عمر عبد الحميد أبو النجا، والزوجة منار عادل أبو النجا (27 عاماً) وطفلهما البراء أبو النجا البالغ من العمر وقتها عاماً واحداً. واختفت الأسرة لمدة 23 شهراً.. وفي 20 شباط/ فبراير 2021، ظهرت الزوجة منار عادل، مدرسة الرياضيات في كلية العلوم بجامعة طنطا بمحافظة الغربية، بصحبة ابنها الذي أصبح في عامه الثالث بينما لم يظهر زوجها حتى الآن.
قضية الطفل ريان كشفت أيضاً عن انتقائية وسائل الإعلام الجماهيري والمهني والفاعلين والمتلقين والوسائل، وسطحيتهم.. فمئات الآلاف من الضحايا في المنطقة الموبؤة بالقمع، المريضة بالاستبداد، المسكونة بالديكتاتوريات، لا ينُظر إليهم ولا يهتم بهم أحد، ولا يلفت الانتباه لمعاناتهم
قضى الطفل 714 يوماً؛ عالقاً في مقر مظلم للأمن الوطني بالقرب من محل سكنهم بمحافظة الإسكندرية.. لا يدري أحد كيف كان يأكل أو يعالج حين يمرض أو يلبس أو يستحم شتاءً!
خرج الطفل بذكريات المكان دون ما عداها، يعيش في هلع بعد أن سجنت أمه بالقانون وحال القضاء بينهما، يصرخ حينما يرى بشر، يحن إلى الغرفة المظلمة العارية من مقومات الحياة، يجري إلى الحائط كلما فُتح الباب يقف على استقامته ويداه متشابكتان وراء ظهره وعينه للأسفل.
وحينما خرج الطفل من قبره أو بئره، أثناء نقل أمه إلى سجن القناطر، تم الإفراج عنه وتسليمه لخالته.
وبحسب أشخاص حضروا جلسة نيابة أمن الدولة فقد أصيب الطفل بالذعر بعد أن انفصل عن والدته وصرخ بأنه يرغب في العودة إلى "الغرفة"، في إشارة إلى احتجازه بأمن الدولة، التي قضى بها الشطر الأكبر من طفولته.. بعد تحرره وخروجه سالماً معافى، لم يستقبله أحد ولم يسانده أو يدعمه أحد، فيما بقيت أمه مجرد رقم في السجون، وأبوه رهن الاختفاء القسري في صمت للعام الثالث على التوالي.
تضج السجون وقاعات المحاكم والنيابات بهكذا قصص مروعة لا ريان لها، لم يستحِ
تضج السجون وقاعات المحاكم والنيابات بهكذا قصص مروعة لا ريان لها، لم يستحِ وكيل نيابة يوماً مما يسمع، ولا قاضي بلغ من العمر عتيا، ينتظر الموت على أحر من الجمروكيل نيابة يوماً مما يسمع، ولا قاضي بلغ من العمر عتيا، ينتظر الموت على أحر من الجمر.
عبد الله بومدين
في آذار/ مارس 2021، وثقت منظمات حقوقية إقدام الطفل عبد الله بومدين (من مواليد 12 كانون الأول/ ديسمبر 2005)، على الانتحار، أثناء اختفائه قسرياً داخل مقر الأمن الوطني في العريش..
واعتقل بومدين في 31 كانون الأول/ ديسمبر 2017، وهو في الثانية عشرة من عمره، ليختفي قسريا داخل أقبية الأمن الوطني في العريش والكتيبة 101، لمدة سبعة أشهر، أخفي خلالها والده قسرياً، وتم تصفية أخيه الكبير بعد اعتقاله وتعذيبه.
ثم عرض عبد الله على النيابة في 2 تموز/ يوليو 2018، وصدر قرار بإيداعه قسم شرطة الأزبكية ليقضي هناك ما يقرب من 100 يوم في الحبس الانفرادي، حيث تعرض لانتهاكات مضاعفة وسط ظروف احتجاز بالغة السوء؛ أسفرت عن ظهور دمامل في كافة أنحاء جسده، نتيجة منعه من الاستحمام لعدة أشهر، فضلاً عن تدهور حالته الصحية نتيجة اقتصار غذائه على الخبز والجبن. ثم حصل على حكم بإخلاء سبيله في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2018، وبعدما وصل إلى قسم شرطة العريش رفض ضابط الأمن الوطني إطلاق سراحه، ودخل في دوامة الإخفاء القسري مجدداً، مع تعذيبه والتنكيل به بدنيا ونفسيا، ما تسبب في إصابته بإصابات بالغة فقدَ معها القدرة على الحركة. ومع مرور السنوات أصيب بصدمة نفسية شديدة، حاول خلالها الانتحار بتناول كمية كبيرة من أقراص الدواء..
بخلاف حالتي البراء عمر أبو النجا وعبد الله بومدين فإن هناك 60 ألف معتقل عالق في السجون منذ ما يقارب العقد، في ظروف بالغة السوء، لم يسمح لهم بالزيارة منذ سنوات، وانقطعت السبل بينهم وبين أسرهم منذ العقد، لا يعرفون من مات ومن على قيد الحياة ومن تزوج ومن أنجب..
لا يلتفت الإعلام المهني أو الجماهيري إلى هؤلاء، بينما استُنفروا في قضية البراء، وكأنه لا معاناة غيرها ولم يتعرض للتهديد سواه..
إذا كان الصمت أو التغطية أو التجاهل والتناول يرتبط بمزاج الدول والرقيب وحارس البوابة الإعلامية، فمن يكبل الإعلام الجماهيري والمنظمات الحقوقية؟!
تقف النظم القمعية فوق معاناة مئات الآلاف وآلاف الجثامين لمن قتلوا غدراً بالرصاص أو بالإهمال الطبي، مع صكوك حماية إقليمية، وأموال خليجية تقايض بها الأسلحة مع الدول الغربية مقابل صمتها..
إذا كان الإعلام المهني يوجه تبعاً للمصالح، فما الذي يوجه الإعلام الجماهيري أو منصات التواصل الاجتماعي؟!
إذا كان الصمت أو التغطية أو التجاهل والتناول يرتبط بمزاج الدول والرقيب وحارس البوابة الإعلامية، فمن يكبل الإعلام الجماهيري والمنظمات الحقوقية؟!
جميع هؤلاء مدعوون للقيام بواجب وقف الانتهاكات وتقديم مرتكبيها إلى يد العدالة.. قضية الطفل ريان أثبتت أن كل ذلك ممكن طالما الإرادة موجودة..
شارك
المزيد حول هذا الموضوع
المزيد من هذا الكاتب
