كل ما يدور حول قضية
فلسطين وما يتصل بها، يستدعي قيام مصالحة فلسطينية من الناحيتين العملية والنظرية، والاستدعاء غير ممكن لكثير من الأسباب سنأتي لاحقاً على ذكر بعضها.
والمصالحة الفلسطينية تحديداً أصبحت موضع تندر وسخرية في الشارعين العربي والفلسطيني الذي يعيش هذه الأيام على وقع تحضير جولة جديدة من جولات
الحوار المزمع عقدها هذه المرة في الجزائر بمشاركة وفود عن حركتي فتح وحماس، والجبهة الشعبية، وحركة الجهاد الإسلامي، وتنظيم القيادة العامة.
ولأن تجربة ترتيب البيت الفلسطيني لا تنفع معها جرعات تفاؤل شعاراتية، تتجاوز مسائل أكثر عمقاً وبعداً من ترتيب اجتماعات فلسطينية- فلسطينية كل مرة في عاصمة عربية أو إقليمية، ولأن
الانقسام الفلسطيني أصبح لا يخص طرفي الانقسام من فتح وحماس بعد أكثر من 15 عاما على حدوث الشرخ الفلسطيني، بقدر ما يخص مراجعة حقيقية للتجربة الفلسطينية في حقبة ما بعد أوسلو، وفي هياكل المنظمة والسلطة والفصائل على حد سواء، فإن هذا الأمر غير مطروح على الأقل في المدى المنظور، ومن ذلك إحداث مصالحة فعلية تحمي ما تبقى من حركة التحرر الوطني الفلسطيني لمواجهة الاحتلال ومشروعه الاستعماري، وتنقذ ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية.
الانقسام الفلسطيني أصبح لا يخص طرفي الانقسام من فتح وحماس بعد أكثر من 15 عاما على حدوث الشرخ الفلسطيني، بقدر ما يخص مراجعة حقيقية للتجربة الفلسطينية في حقبة ما بعد أوسلو، وفي هياكل المنظمة والسلطة والفصائل على حد سواء
ولأن عامل الزمن لا يعيره المنقمسون في الساحة الفلسطينية أي أهمية واهتمام، بالنظر بشكل جدي لمخاطر ما يتعرض له أبناء شعبهم في كل فلسطين وفي الشتات مع بقية القضايا المتصلة بهم، تتقلص فرص تدارك هذه المخاطر.
وتيرة الاعتداءات في تصاعد مستمر على الشعب الفلسطيني، وأعمال التهويد والسيطرة والحصار ومصادرة الأراضي تتسع كل يوم في الضفة وغزة والجليل والمثلث والنقب والقدس، والأهم في كل يوم وكل لحظة مرت من تاريخ الانقسام قدمت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة صفعات على وجه السلطة الفلسطينية وأوهامها المتعلقة بوجودها ودورها، وما كشفته الإذاعة الإسرائيلية العامة (11) مؤخراً نقلاً عن رئيس وزراء الاحتلال نفتالي بينت أنه لن تكون أي "عملية سياسية" مع الفلسطينيين، وأنه لم يغير رأيه في هذا الموضوع، رغم لقاء وزير الأمن بيني غانتس برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.
يتكشف مع الزمن حجم الفواجع والمآسي التي تلحق بقضية فلسطين بسبب استخدامها كمطية من طغاة عرب، أو للتطبيع مع الاحتلال. ومع تجريب الاجتماعات في عواصم العرب لإنجاز
المصالحة الفلسطينية، من اتفاق مكة والدوحة وبيروت والقاهرة وعمان ودمشق إلى الجزائر أخيرا والحديث عن تفاهمات وأوراق مختلفة ما لم تكن مستندة لرؤية حقيقية للمخاطر، فإن التمترس خلف مواقف وأجندات بعيدة كل البعد عن مصلحة الشارع الفلسطيني وقضيته سيبقى قائما وحاضرا بقوة مع الأسئلة التي لا تغيب عن قدرة النظام الرسمي العربي المُعلن في السر والعلن، وعن تحالفه مع عدو الشعب الفلسطيني، وقدرته أن يكون "وسيطا" لجمع شمل الفلسطينيين وتمكينهم من مواجهة عدوان المحتل وسياساته، لا للضغط عليهم تنفيذاً لمصالح الاحتلال كما تكشفت عنه سباقات التحالف والتطبيع العربي مع إسرائيل.
تكشفت الحالة الفلسطينية الرسمية، وتردي أوضاعها السياسية والأمنية بما يخدم أولاً أجندة الاحتلال الأمنية، وتغييب دور الشارع الفلسطيني وقمعه بأدوات فلسطينية، وإقصاء دور المؤسسات الوطنية من المنظمة والمجلس الوطني والتشريعي، إلى بقية الهياكل المفترض أن يكون أداؤها وعملها، خلافاً لمستويات الانحدار الكارثية التي شهدناها منذ عقد ونصف. وقد تبلور هذا الانحدار مع اندلاع الثورات العربية، وفقدان الفلسطينيين الفرصة "الذهبية" والأغلى ربما لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، لكن من يقول إن لديه أملا في إصلاح هذا الخلل بنفس العقلية والبرنامج والسلوك؟
تبلور هذا الانحدار مع اندلاع الثورات العربية، وفقدان الفلسطينيين الفرصة "الذهبية" والأغلى ربما لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، لكن من يقول إن لديه أملا في إصلاح هذا الخلل بنفس العقلية والبرنامج والسلوك؟
للأسف العطب الأخلاقي والسياسي الذي تمر به قضية فلسطين من ممارسات من يقود النضال الفلسطيني هي التي رافقت المرحلة الماضية وتقودها بالتصميم على المضي بالخراب حتى النهاية، والتي لا يمكن أن تتأسس عليها آمال إصلاح الوضع الفلسطيني وترميمه بشعارات وبيانات تصدر في ختام الاجتماعات هنا وهناك عن ضرورة إنهاء الانقسام، ثم ما أن تنتهي تلك الاجتماعات حتى يعود الجميع للتراشق ببيانات الاتهام المتبادلة وإلقاء مسؤولية تعطيل الحوار والمصالحة.
السياسة الفلسطينية الرسمية وتحالفها العربي الرسمي مشلولة وغير قادرة على تقديم دعم وإسناد حقيقي للفلسطينيين، ومهما قدمت أطراف الانقسام الفلسطيني أو الفصائل الفلسطينية هذا الطرف العربي أو ذاك التحالف الإقليمي على أنه راع لمصالح فلسطين وشعبها، أو لديه حرص على إنجاز مصالحة فلسطينية خارج حوزة أجندات مكشوفة ومشبوهة، فالأوهام ستبقى مخيمة برؤوس من يروج لها. أما الشارع الفلسطيني فقد خبر هذه الممارسات والمبررات عن تحالف القوى الفلسطينية في السلطة والفصائل مع أنظمة القمع والاستبداد العربي، والتي تنظر لفلسطين كقضية أمنية تتبع جهاز المخابرات العامة لتلك الدولة أو فروع أمن دول أخرى؛ تحمل منذ زمن بعيد شعار "الممانعة والمقاومة" لدعم فلسطين، غير أن أبناءها واجهوا بطشا وقمعا وتنكيلا وعنصرية، وقتلا وتشبيحا على أيدي هذه الأنظمة التي تشيد أطراف الانقسام الفلسطيني بها، وتتذرع بحرصها على قضية فلسطين.
وقد ساهمت هذه الأنظمة بتسهيل وتمكين المشروع الصهيوني في السنوات الأخيرة، وبالتالي القيادة الأمنية للموضوع الفلسطيني عربياً؛ بما يقدم تطمينات لإسرائيل وأمريكا والغرب عن قدرتها على ضبط ومراقبة الشعب الفلسطيني وتشديد حصاره، ومنع التعاطف معه خارج جهاز التلفزيون الحكومي، ما أنتج أوضاعا مريحة تتيح لعدو الشعب الفلسطيني مواصلة عدوانه وتوسعه.
نزيف المصالحة الفلسطينية يجهض كل حملات التعاطف والتضامن الشعبي العربي والدولي، ويضعف حملات مقاطعة الاحتلال وفضح سياساته الاستعمارية. وهذا أمر يدركه الجميع ممن يتوجه لعقد اجتماعات مصالحة مع أجندة متناقضة، ولا يعقد مصالحة أولا مع شعبه ومع عمقه العربي
أخيراً، نزيف المصالحة الفلسطينية يجهض كل حملات التعاطف والتضامن الشعبي العربي والدولي، ويضعف حملات مقاطعة الاحتلال وفضح سياساته الاستعمارية. وهذا أمر يدركه الجميع ممن يتوجه لعقد اجتماعات مصالحة مع أجندة متناقضة، ولا يعقد مصالحة أولا مع شعبه ومع عمقه العربي في الشارع، ويدير الظهر لكل حملات التضامن معه.
المكاشفة والمراجعة لمسيرة فيها كثير من الإخفاقات والانكسارات مطلوبة، لكن مع وجود من لديه "الشجاعة" لطلب الرضا من عدوه وتقديم الضمانات له بأن قبضة تنسيقه الأمني ستلجم أي نهوض وطني، ومن ينظر بعين البطولة لأجهزة مخابرات عربية تنسق مع السي آي إيه ومع الموساد لضبط الحالة الفلسطينية وتقديم أنظمة مارست جرائم بحق أبناء شعبها على أنها شريكة في إتمام مصالحة على أسس تحالفها مع هذه الأنظمة، فإن دورة زمن المصالحة ستطول أكثر مما يعتقد البعض، ونزيف المصالحة هو نزيف لكل الحقوق الفلسطينية في الأرض والإنسان والتاريخ.
twitter.com/nizar_sahli