صراع تتبادل فيه أكبر ثلاث مجموعات عرقية في البلاد مواقع السلطة منذ 47 عاما، تسبب في تشريد أكثر من مليوني شخص إلى الدول المجاورة التي تعيش هي الأخرى حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني.
حرب شاملة ودعاية زائفة يتبادلها أطراف الصراع، فيما منعت وسائل الإعلام من الوصول إلى أرض المعركة وسط نزيف الدماء والدموع والصرخات التي تتسع مساحتها.
بلاد "الحبشة" الاسم القديم الذي كان يعني الأجناس المختلطة والمختلفة التي تصاهرت وشكلت سكان البلاد الأصليين، تواجه التقسيم والحرب الأهلية التي لم تتوقف منذ الإطاحة بالإمبراطور هيلا سيلاسي في انقلاب عام 1974 واستيلاء عصبة عسكرية على السلطة.
وقد تسبب الحكم العسكري الذي عرف بـ "الإرهاب الأحمر" سيئ السمعة بقيادة منغستو هيلا مريام، في قتل عشرات الآلاف على يد النظام العسكري الشيوعي، ووقعت حرب أهلية طويلة في جميع أنحاء إثيوبيا.
ويتذكر سكان إقليم "تيغراي" تلك السنوات بوصفها سنوات من الظلام، عندما أجبرهم القصف اليومي على التحرك في الليل لتجنب الطائرات العسكرية.
و"تيغراي" هي موطن 7 ملايين نسمة من أصل 122 مليون نسمة عدد سكان إثيوبيا.
وأبناء "تيغراي" هم ثالث أكبر مجموعة عرقية في البلاد بعد "الأورومو" و"الأمهرة".
ويوثق للعام 1975 بأنه تاريخ ولادة "جبهة تحرير شعب تيغراي" التي بدأت صراعا طويل الأمد ضد الحكومة العسكرية بعد خلع هيلا سيلاسي.
وقد أدى الصراع إلى تفاقم الجفاف والمجاعة وقد حاولت الحكومة آنذاك تخفيفها عن طريق إعادة توطين مئات الآلاف من المزارعين، ومع الوقت، كان حوالي 100 ألف شخص قد لقوا مصرعهم، كما فر الآلاف من الحرب والمجاعة إلى السودان وجيبوتي المجاورتين.
ولم يأت عام 1987 حتى كانت "جبهة تحرير شعب تيغراي" تسيطر على جزء كبير من الإقليم.
وبعد الانقلاب العسكري الفاشل عام 1989، نجحت "الجبهة" في السيطرة على مناطق واسعة وانضمت إلى القوى الأخرى لتشكيل "الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية" التي ألحقت هزائم بالقوات الحكومية بعد تخلي السوفييت عن الحكومة الموالية لهم في أديس أبابا.
وبعد الإطاحة بالنظام العسكري الذي كان يهيمن عليه "الأمهرة"، عام 1991، تشكلت حكومة يقودها زعماء "تيغراي" وهو الأمر الذي كان مصدرا للصراع المستمر حتى اليوم.
اقرأ أيضا: ندوة "عربي21": صراع صفري في إثيوبيا وحسابات أمريكية وعربية
وعلى مدار 27 عاما سيطرت "الجبهة" على السلطة، وانتهت المجاعة والحرب الأهلية التي غطت مساحة واسعة من البلاد، لكن دون تحقيق الديمقراطية وحماية الحريات.
ويصف رئيس الوزراء آبي أحمد وأتباعه تلك السنوات بأنها "27 عاما من الظلام".
ونشأ شعور بالنقمة على "التيغراي" الذين هيمنوا على السياسة والجيش والاقتصاد لمصلحتهم الخاصة.
وقد قادت موجة السخط تلك إلى أن يكتسح آبي أحمد، وهو من إثنية "الأورومو" السلطة بعد أن اختارته "الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية" زعيما للحزب ومن ثم رئيسا للوزراء عام 2018.
ورغم النجاحات الاقتصادية التي حققها آبي أحمد إلا أن تقاربه مع إريتريا عدو "التيغراي" اللدود، وتشكيل حزب وطني جديد ليحل محل ائتلاف يقوم على أساس عرقي، وتأجيل الانتخابات العامة جميعها عوامل أشعلت نيران الغضب لدى "جبهة تحرير شعب تيغراي" التي اتهمتها الحكومة بأنها هي التي أشعلت فتيل الصراع عندما هاجمت قوات اتحادية متمركزة في الإقليم.
وبموازاة الصراع الداخلي تفجرت معركة أخرى على الحدود الشمالية حيث تقع إريتريا التي حصلت على استقلالها عن إثيوبيا عام 1991 بعد حرب دامت ثلاثة عقود. واندلع الصراع مجددا بسبب نزاع حدودي بين عامي 1998 و2000 ولقي عشرات الآلاف حتفهم.
وكانت "جبهة تحرير شعب تيغراي" هي التي قادت تلك الحرب.
وبعد أشهر من وصول آبي إلى السلطة، وقع اتفاق سلام مع إريتريا في 2018 حصل على أثره على جائزة نوبل للسلام في العام التالي.
كما قام آبي بخطوات سريعة لدفع السياسة الإثيوبية في اتجاه أكثر ليبرالية، وحل تحالف "الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية"، وأنشأ حزبا جديدا سماه "حزب الرخاء".
ويقول آبي أحمد إن "جبهة تحرير شعب التيغراي" تجاوزت الخط الأحمر عندما أجرت انتخابات إقليمية في أيلول/سبتمبر الماضي.
ولم تأذن الحكومة الفيدرالية بتلك الانتخابات ولم يكن "حزب الرخاء" قادرا على خوض المنافسة فيها.
لكن معارضي الزعيم الشاب اتهموه بخرق اتفاق الحكم الانتقالي، وتأجيل انتخابات 2020 ليفصلها على مقاسه.
وبالفعل، كان حفل تنصيب آبي أحمد لولاية ثانية مدتها 5 سنوات قبل أيام، مبالغا في فخامته وكأن الأمر يتعلق بتنصيب ملك، وفقا لـ"إيكونوميست" البريطانية.
ومع تقدم مقاتلي "التيغراي" وحلفائهم من "الأورومو" باتجاه العاصمة أديس أبابا دعا رئيس الوزراء إلى الاستنفار العسكري والتعبئة الوطنية وهو الأمر الذي قللت من أهميته "جبهة تحرير شعب تيغراي" قائلة بأنه "لن يغير شيئا".
مضيفة بأن "هذه التعبئة لم تمنع الزعيم الإثيوبي الشيوعي السابق منغستو هايلا مريام من السقوط".
إثيوبيا التي لم يكن يظلم عند ملكها أحد، تتقاسمها الأحلام بالسلام و"الازدهار"، لكن البلاد تبدو وكأنها أسيرة الانتقام والكراهية.
تبدو البلاد مستسلمة لخيار الحل العسكري الذي بات يلوح بالأفق وسط صراع خفي بين قوى إقليمية ودولية، وقد تذبل في النهاية "الزهرة الجديدة"، وهو معنى اسم العاصمة أديس أبابا، التي تستعد للأسوأ.