في خبر عاجل مقتضب، نشرت إحدى الصحف المقربة من النظام أول وآخر إعلان عن
قضية رشوة كبرى طالت مدير مكتب وزيرة
الصحة وعددا آخر من كبار قيادات الوزارة. وانتشر الخبر كالنار في الهشيم وكثرت حوله التعليقات والتحليلات، ثم صدر بيان للنائب العام يطلب الهدوء وعدم ترديد الشائعات، في حين قامت الصحيفة برفع الخبر من موقعها، وسط صمت تام من وزارة الصحة سوى عن أخبار الحالة الصحية للوزيرة بعد نقلها لمستشفى خاص، بعيدا عن مستشفيات الحكومة وذلك للعلاج من أزمة قلبية أصابتها في نفس يوم كشف القضية وإلقاء القبض على المتهمين.
شمل الاتهام رؤساء ثلاثة مواقع حساسة في ديوان عام وزارة الصحة ولكل واحد منهم دلالة خاصة، وهم قطاع شؤون مكتب الوزير، وبرنامج لقاح كورونا، وإدارة العلاج الحر وإصدار التراخيص الطبية. وتورط هؤلاء في قضايا
الرشوة يعني انتشار
الفساد وتدهور خدمات الرعاية الصحية مما يؤثر سلبا على صحة وأمن وسلامة المواطن.
إدارة العلاج الحر وفوضى المستشفيات الخاصة:
تختص إدارة العلاج بداية بإصدار التراخيص الطبية للمنشآت الصحية الخاصة، بحيث تكون متطابقة مع معايير الجودة شاملة المباني والتجهيزات وعناصر السلامة، وتضم فريقا من القوى البشرية المؤهلة ذات الكفاءة المناسبة لدور كل منشأة. وبعدها يأتي دور الإدارة في المتابعة والرقابة الدورية من حيث نوعية الرعاية الصحية، ومدى مطابقة الإجراءات المقدمة للبروتوكولات واللوائح، أيضا سلامة ودقة التسجيل الطبي.
كشف قضية الفساد تلك في تلك الإدارة تحديدا قد يفسر بطريقة عملية السبب في انتشار ظاهرة تجارة بيع الأعضاء البشرية في مصر، والتي تحتل المركز الأول أفريقيا في تلك التجارة غير المشروعة حسب تقارير منظمة الصحة العالمية؛ لأن تجارة الأعضاء البشرية لا يمكن منعها أو الحد منها من خلال تغليظ العقوبة، ولكن السبيل الأساسي لمنعها هو تشديد الرقابة والمتابعة على المستشفيات الخاصة
وكشف قضية الفساد تلك في تلك الإدارة تحديدا قد يفسر بطريقة عملية السبب في انتشار ظاهرة تجارة بيع الأعضاء البشرية في
مصر، والتي تحتل المركز الأول أفريقيا في تلك التجارة غير المشروعة حسب تقارير منظمة الصحة العالمية؛ لأن تجارة الأعضاء البشرية لا يمكن منعها أو الحد منها من خلال تغليظ العقوبة، ولكن السبيل الأساسي لمنعها هو تشديد الرقابة والمتابعة على المستشفيات الخاصة. وقد تبين خلال الفترة الماضية أن كشف تلك الجرائم بمعرفة الشرطة أو هيئة الرقابة الإدارية، وهذا يعني وجود تقصير واضح في قيام إدارة العلاج الحر بالدور الرقابي المنوط بها في كشف تلك الجرائم.
ومن ناحية أخرى فقد تزايدت في الفترة الأخيرة شكاوى المواطنين من عدم انضباط أسعار الخدمات الصحية في المستشفيات الخاصة، في حين تزايد عليها الطلب لمرضى "كوفيد 19" بعد القصور الواضح في قدرات مستشفيات الحكومة على مواجهة الوباء، وهذا أيضا يدل على وجود تراخ واضح في أداء إدارة العلاج الحر لأسباب بدت غير مفهومة.
برنامج لقاح كورونا وعشوائية التطعيم:
جاء حادث إلقاء عشرات الآلاف من لقاح كورونا في القمامة بجوار إحدى المجاري المائية بمحافظة المنيا جنوب القاهرة منذ عدة أسابيع؛ ليكشف عن دليل فساد في برنامج لقاح كورونا. وبالرغم من الصمت التام لوزارة الصحة حول تلك الواقعة، إلا أن بيان النيابة العامة جاء ليؤكد على وجود خلل واضح في آلية استلام ونقل وتوزيع اللقاح. وكان التفسير المنطقي للحادث هو القياس على حوادث أخرى سابقة في مشروعات أو برامج تمنح مكافآت مالية كبيرة مقابل النشاط، حينها يلجأ فريق العمل إلى تحرير بيانات إنجاز وهمية مقابل الحصول على مكافآت وحوافز الأداء والموجودة فعلا من خلال برنامج "معا نطمئن- سجل فورا" والممول من هيئة المعونة الأمريكية، خاصة وأن برنامج التطعيم لا توجد له خطة مبرمجة زمانيا ولا مكانيا منذ أن وصلت وزيرة الصحة فجأة إلى مستشفى العزل في الإسماعيلية لتعلن عن مبادرة رئاسية للتطعيم دون إعلان أو تمهيد مسبق.
بالرغم من الصمت التام لوزارة الصحة حول تلك الواقعة، إلا أن بيان النيابة العامة جاء ليؤكد على وجود خلل واضح في آلية استلام ونقل وتوزيع اللقاح. وكان التفسير المنطقي للحادث هو القياس على حوادث أخرى سابقة في مشروعات أو برامج تمنح مكافآت مالية كبيرة مقابل النشاط، حينها يلجأ فريق العمل إلى تحرير بيانات إنجاز وهمية
وعدم وجود خطة يعنى إتاحة مساحة واسعة للفساد المالي والإداري، وضبط مسؤول برنامج اللقاح بتهمة الرشوة قد يعطي تفسيرا مبدئيا لواقعة إلقاء لقاح سينوفارم الصيني في القمامة. وقد يكون هذا هو طرف الخيط الذى أمسك به المحققون في قرية نائية ليصلوا إلى بدايته داخل ديوان الوزارة بوسط القاهرة.
إدارة مكتب الوزير وكيفية اختيار القيادات:
فور تكليفها بالعمل منذ ثلاث سنوات، وفي بداية عام 2019، قامت وزيرة الصحة د. هالة زايد بإجراء حركة تغييرات كبيرة شملت قطاعا عريضا من القيادات في ديوان الوزارات وفي المحافظات، وتم اختيار من يدينون لها بالطاعة والولاء، خاصة المتهم الأول والمشار إليه برمز "أ. س"، وهو معروف للجميع منذ أن كان موظفا بسيطا منذ سنوات قليلة، وأصبح قطاع مكتب الوزير هو المحرك الأساسي لفعاليات الوزارة بما يشمله من تقسيمات إدارية تحمل مسمى "الأمانة"، وعلى رأس كل أمانة مسئول تابع للوزيرة مباشرة لضمان التحكم والسيطرة. وهذا يفسر ما يتردد عن إصابة الوزيرة بحالة من الصدمة والانفعال الشديد رغم اختلاف التفسيرات لتلك الحالة، وبرغم ما هو معروف عنها من الثبات الانفعالي بدرجة عالية.
وقد ورد في الخبر بأن هيئة الرقابة الإدارية قد بدأت في تتبع خيوط واقعة الرشوة منذ حوالى شهرين، وهذا يأتي بالتوازي مع بداية التمهيد لصفقة التعاقد على عدة آلاف من سيارات الإسعاف والعيادات المتنقلة من شركة مرسيدس الألمانية، وبناء عليه فقد قامت وزيرة الصحة بزيارة ألمانيا لإنهاء التعاقد في نهاية شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، وبرفقتها وفد كبير ضم عددا من كبار قيادات الوزارة وقيادات عسكرية أخرى. وتلك الصفقة الضخمة تعتبر مجالا رحبا لنمو بذور الفساد فيه، كما حدث من قبل في صفقة مماثلة للعيادات المتنقلة من اليابان عان 2009 وهي قضية مشهورة تلقي بظلالها على القضية الحالية، حيث تبين وقتها وجود تلاعب في المواصفات والكماليات والصيانة وقطع الغيار.
القادة العسكريون يملكون جميع مفاتيح صنع القرار وجميع آليات الحركة الفعلية لوزارة الصحة ولغيرها من وزارات الدولة، لذا كان غريبا أن يتم اتهام أطباء وموظفين مدنيين بتعاطي رشاوى لتمرير صفقات أو مشروعات؛ بعيدا عن أعين من يملك سلطة اتخاذ القرار المالي والإداري من العسكريين
ماذا وراء الغموض في بيان النيابة العامة:
من المعروف أن جميع مفاصل وزارة الصحة يتم التحكم فيها من خلال مجموعة من ضباط القوات المسلحة المصرية، والذين يشغلون مواقع بالغة الأهمية داخل ديوان الوزارة، بعضهم قد تخطى سن التقاعد وآخرون عسكريون نظاميون ولكنهم منتدبون لفترات معينة. هؤلاء القادة العسكريون يملكون جميع مفاتيح صنع القرار وجميع آليات الحركة الفعلية لوزارة الصحة ولغيرها من وزارات الدولة، لذا كان غريبا أن يتم اتهام أطباء وموظفين مدنيين بتعاطي رشاوى لتمرير صفقات أو مشروعات؛ بعيدا عن أعين من يملك سلطة اتخاذ القرار المالي والإداري من العسكريين. وهنا ترد احتمالية تورط البعض من هؤلاء في جوانب تلك القضية الخطيرة.
جاء البيان الغامض للنائب العام ليلقي بمزيد من الشكوك حول دائرة المتورطين في قضية الرشوة الكبرى، وهل شملت الاتهامات وزيرة الصحة نفسها، وهل وردت أسماء بعض القادة العسكريين في اعترافات المتهمين. وجميع هذه الاحتمالات واردة بالطبع، وقد تنتهي حالة الارتباك تلك بأن يصدر النائب العام قرارا بحظر النشر في القضية حرصا على سمعة تلك القيادات كما فعل من قبل في قضية الفساد بمستشفى سرطان الأطفال بالقاهرة وغيرها، أم أنه سوف ينفذ وعده بعرض التحقيقات بشفافية كما أعلن في يبانه؟ هذا يتوقف على طبيعة من سوف تشملهم دائرة الاتهام، في حين تأتي صحة وسلامة وأمن المواطنين في مرتبة متأخرة كما تعودنا دائما في قضايا مماثلة.