قامت إيران خلال الأيام القليلة الماضية بإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات التابعة لأذربيجان والمتجهة إلى نختشيفان على الحدود المشتركة مع تركيا، حيث تقرر إجراء مناورات عسكرية بين باكو وأنقرة في الفترة الممتدة من ٥ إلى ٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢١.
تكمن أهمّية هذه المناورات المشتركة في أنّها تجري للمرّة الأولى على حدود إيران، ولذلك فقد فُهِمت من هذه الزاوية بالتحديد على أنّها رد على المناورات العسكرية التي أجرتها طهران على الحدود مع أذربيجان نهاية الشهر الماضي.
وردّاً على التصعيد الإيراني، قررت وزارة الداخلية الأذربيجانية إيقاف عمل مكتب ممثل المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في باكو وكذلك إقفال الحسينية التابعة له. الصحافة الإيرانية شنت هجوماً ضد أذربيجان وتركيا، وأشار بعضها كصحيفة "صبح نو" إلى أنّ "المحور الإخواني المتمثل في قطر وتركيا وباكستان كسب زخماً كبيراً مع سقوط أفغانستان بيد طالبان"، لافتاً إلى أن تركيا نجحت خلال التحالف مع باكستان وأذربيجان في تعزيز نفوذها بشكل كبير. وفي نفس السياق، حذّر آخرون من أنّ وصول تركيا إلى بحر قزوين ووسط وجنوب آسيا هدفه تجاوز إيران كمدخل إلى المنطقة والسيطرة الاقتصادية من خلال الخط الرابط بين أنقرة وباكو وباكستان مروراً بأفغانستان.
وبموازاة هذه الرسائل، تصاعدت تصريحات من مسؤولين إيرانيين وصحفيين وأكاديميين تعكس عجرفةً وسلوكاً متعالياً من إيران تجاه جارتها أذربيجان، حيث أشار بعضهم إلى أنّها دولة صغيرة وضعيفة مقارنة بايران وأنّه لا يمكن تفسير سلوك أذربيجان الواثق بالنفس إلا من خلال الحسابات التركية في المنطقة.. ولأنّ طهران لا تمتلك ذريعةً لتبرير التصعيد ضد أذربيجان، فقد قامت بإقحام موضوع العلاقة مع إسرائيل كحجّة، لدرجة أن بعض المراقبين للمناوشات الكلامية بين الطرفين الإيراني والأذربيجاني تهكّم مشيراً إلى أنّ طهران تريد تحرير القدس عبر باكو هذه المرّة.
خلال زيارته إلى موسكو، حاول وزير خارجية إيران أمير عبداللهيان استدراج روسيا إلى الأزمة مع أذربيجان وتحريضها على باكو وأنقرة. وفي تصريحات له مساء يوم الثلاثاء الماضي، حذّر عبداللهيان موسكو مما أسماه "التغييرات المحتملة على حدود الدول في منطقة القوقاز"، مشيراً إلى أنّ بلاده تتوقع من موسكو أن تبدي ردة فعل وحساسية تجاه هذا الأمر.
الغريب أنّ طهران لم تصدر مثل هذه التصريحات عندما كانت أرمينيا تحتل ٢٠٪ من مساحة أذربيجان على الحدود مع إيران خلال الثلاثين عاماً الماضية. ويعتبر ذلك بمثابة مؤشر قوي على أنّ طهران تعارض التحوّلات التي حصلت نتيجة تحرير باكو لأراضيها وما قد ينجم عنها من تبعات سياسية واقتصادية وعسكرية.
من السخرية بمكان أنّ قرار إيران التصعيد مع جارتها شمال غرب البلاد يأتي في وقت يتراجع فيه التصعيد بين إيران وجيرانها العرب في الخليج، لاسيما المملكة العربية السعودية. علاقة إيران بأذربيجان معقّدة وصعبة للغاية وتتّسم غالباً بالسلبية والعداء. إيران دعمت تاريخياً أرمينيا التي ظلت تحتل أراضي أذربيجانيّة لحوالي ٣٠ عاماً قبل أن تستطيع أذربيجان العام الماضي إنزال هزيمة سريعة وحاسمة بالقوات الأرمينية المحتلة في حرب استمرت ٤٤ يوماً وانتهت بتحرير جزء واسع من الأراضي الأذربيجانية المحتلة في ناغورنو ـ قره باغ بدعم من تركيا.
حاولت إيران دعم أرمينيا بتمرير السلاح إليها لكن سرعة الحرب وموقف روسيا علاوة على الدعم التركي الحاسم حال دون قدرة طهران على نصرة حليفتها. فضلاً عن ذلك، فإنّ ضغط الأقليّة الإيرانية من أصل أذري ـ وهي أكبر أقلّية في البلاد وتشكّل ما يزيد على الـ٢٥٪ من سكّان إيران ـ على النظام الإيراني جعلت الأخير يتجاوب بشكل احتوائي من خلال التصريحات التي تبدو إيجابية في ظاهرها تجاه أذربيجان، لكن الأزمة الأخيرة مع باكو تكشف عن وجه طهران الحقيقي مرّة أخرى.
مع هزيمة أرمينيا، وصلت العلاقات الأذربيجانية-التركية إلى مرحلة من المتانة لم تبلغها من قبل. على الصعيد السياسي بدا أنّ هناك تحالفاً وثيقاً بين الطرفين تعززّ باتفاقية شوشة بين الطرفين في حزيران (يونيو) ٢٠٢١. أمّا على الصعيد الاقتصادي، فإنّ باكو كانت قد بدأت خلال العامين الماضين تزيد من صادراتها من الغاز إلى أنقرة على حساب كل من طهران وموسكو، وهذا أزعج الطرفين سيما مع رسائل باكو المتزايدة عن قدرتها ورغبتها في زيادة صادراتها من الغاز إلى أوروبا عبر تركيا.
إذا ما نجحت تركيا إلى جانب أذربيجان وباكستان في ضم تركمانستان وأفغانستان بشكل من الأشكال أو زيادة نفوذهم في هذه الدول، فهذا يعني عملياً عزل إيران عن المسرح الجيوسياسي في آسيا الوسطى والقوقاز وجنوب آسيا.
وفي ما يتعلق بالتعاون العسكري الأذربيجاني مع تركيا، فقد بدا أنّ الدعم العسكري والتقني التركي لأذربيجان قد غيّر من المعادلة التي استمرت ٣٠ عاماً بشكل كلّي. خلال الأعوام القليلة الماضية، كثّف الطرفان من التدريبات العسكرية المشتركة، واكتسبت أذربيجان المزيد من الخبرات من الجيش التركي بوصفه ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي، وكانت المُسيّرات التي اقتنتها باكو من أنقرة العامل الأبرز في حسم المعركة.
هذا التعاون العسكري الوثيق يتطوّر الآن إلى شيء أكبر، إلى نوع من التكامل بين قدرات أذربيجان المالية وقدرات تركيا البشرية وخبرتها في التصنيع العسكري، وإذا ما تمّ تسريع العمل بهذا النمط، فإن أذربيجان أكبر قوّة سياسية واقتصادية وعسكرية ستصبح حاضرة بقوّة في الجغرافيا السياسية لإيران، وهو أمر مخيف لطهران، لاسيما مع رغبة باكو وأنقرة المتزايدة في ضمّ باكستان إلى المنصّات الثنائية السياسية والاقتصادية والعسكرية التي قاما بإنشائها.
الاتفاق الثلاثي الذي تمّ في باكستان في كانون الثاني (يناير) من العام ٢٠٢١ تحت عنوان "إعلان إسلام أباد" يعدّ مؤشراً قوياً على هذا الاتجاه. وإذا ما نجحت تركيا إلى جانب أذربيجان وباكستان في ضم تركمانستان وأفغانستان بشكل من الأشكال أو زيادة نفوذها في هذه الدول، فهذا يعني عملياً عزل إيران عن المسرح الجيوسياسي في آسيا الوسطى والقوقاز وجنوب آسيا.
علاوة على ذلك، فإنّ علاقات أقوى لأذربيجان مع تركيا تعني بالضرورة نفوذاً أكبر لأنقرة في كل هذه المناطق. ومع الجهود التركية المتعاظمة لإحياء العالم التركي من خلال مجلس الدول التركية، ونجاح أنقرة في تعزيز حضورها السياسي والاقتصادي والعسكري في الساحات المُشار إليها، فإنّ إيران بدأت تستشعر خطر عزلها وتقويض نفوذها في مناطق كانت حتى الأمس القريب تعتبر أنّ وجودها فيها هو تحصيل حاصل، وأنّ مهمّتها الأساسية تتركّز فقط على إنشاء وتعزيز نفوذها باتجاه الغرب نحو البحر المتوسط عبر العراق وبلاد الشام، والبحر الأحمر عبر شبه الجزيرة العربية.
إذن، فكلام إيران الرسمي عن باكو والذريعة هي إسرائيل لكنّ المقصود هو تركيا. يبقى السؤال هو: إلى أي مدى من الممكن لمثل هذا التوتر أن يتصاعد، وهل سيتوسع التنافس الإقليمي في تلك المنطقة ليضم عدداً آخر من اللاعبين في الخليج أو المنطقة العربية في وقت ما؟