كثيرا ما يتردد في شعاراتنا، أغنياتنا، أعمالنا الفنّية، لوحاتنا، أننا شعوب واحدة وأن الحدود تراب بيننا، وما هي تلك الحواجز والسياجات إلّا مخلفاتٍ للقوى الاستعمارية التي لم نستطع زوالها بسبب قوى استعماريةٍ أُخرى حلّت مكانها، متمثلةً في أنظمةٍ استبداديّة قهرت الإنسان العربي ومشروعه الإنسانيّ نحو التحرر من عصبيّات القومية.
هَـ ON، هو برنامج شبابي على وسائل التواصل الاجتماعي، قامت فكرته على عقول مجموعة من الشباب، من عدة دولة عربية، إذ يلتقون أسبوعيا، ليَتناقشوا حول ما جرى أو ما يجري بشأن موضوعات متباينة.
أسست البرنامج الناشطة والفنانة الفلسطينية هزار حسين. هزار حسين، هي ناشطة ثقافية في فلسطين، في منتصف الثلاثينيات من عُمرها، تعمل في مجال العلاقات العامة، وإنتاج وإخراج المحتوى الفني المرئي.
قبل أن ننتقل إلى نظريّة عبور القوميّات، والوقوف على أرض ثابتة -نحن الشعوب- لمواجهة الأخطار التي تُحيطنا من كل جانب، وتسلبنا حريتنا وحياتنا، نحاور هزار ونطرح عليها عدة أسئلة عن فكرتها وبرنامجها.
ما هي فكرة البرنامج؟ وعن أي شيء يعبّر اسمه؟ وما هي دوافع التأسيس؟
هزار: فكرة البرنامج قائمة على التواصل العربي بين شبابٍ من بلدان مُختلفة، أما عن اسم البرنامج، فهو يشير "هَ on" على أكثر من شيء، هـَ حرف يستخدمه الفلسطينيون للتعبير عن أكثر من شعور، أحيانا للتعبير عن الاستياء، عندما تكون هـَ مُفخمة، وممكن هـَ ناعمة في سياق تأكيد لأمر ما، وأحيانا أخرى للتحذير. وهَ أيضا تعني الضحكة، وأنا أرى أن الضحك ملاذ، وأظن أن الضحك لا يتعارض مع مدى تناولنا الأمور بجدية. وهذا يتقاطع مع فكرة البرنامج كون أسلوب المجموعة الطاغي يتمثّل في التهكميّة الساخرة.
أما عند دوافع التأسيس، فهي لتحدّي التقسيمات الجغرافية التي عزلتنا عن بعضنا البعض منذ عقود كثيرة، فإذا كانت رغبة الاحتلال/الاستبداد هي السيطرة على المنطقة، وعزلنا عن بعضنا، فها نحنُ نبني العلاقات الانسانية بيننا، بشكل جارف كَنوعٍ من المقاومة، وإفشال جميع اتفاقيات التقسيم. كذلك، أنا -وبشكلٍ شخصي- أحترم التكنولوجيا كثيرا، وأرى أنها تتيح لنا أدوات جيدة لإفشال هيمنة الأنظمة، فضلا عن إبطال قيمة الحدود والقوميّات الضيقة، وهذا البرنامج بمثابة محاولة صغيرة.
عن ماذا تدور نقاشاتكم؟
هزار: نقاشات المجموعة متنوعة، من الشخصي للعام للسياسي، تباعا لأمَزجة الأصدقاء وترتيباتهم عند اللقاء، فضلا عن الحديث عن متابعة ونقاش الأحداث الجارية في المحيط العام.
ما الهدف المرجو، وإلى ماذا وصلتم حتى وقتكم هذا؟
هزار: الهدف المرجو، أن نكون في برنامجنا مجموعة من الأصدقاء تجمعنا أسمى معاني الودّ والتلاقي، وهذا ما حققناه بالفعل، فنحن نتحدث عن مشاكلنا الخاصة، ونساعد بعضنا البعض قدر الإمكان، معنويّا وماديا، إذ كوّن شباب المجموعة روابط صلبة بين بعضهم البعض، هذه الروابط تساعدنا في معرفة معانٍ أخلاقية كثيرة، فضلا عن المعرفة العلمية، التي تساعدنا الحكايات والدردشات في الإلمام بها، مثل جغرافية البلدان، وطِباع وثقافات أهلها من حيث اللغة والطعام والملبس وغير ذلك.
واستكمالا لِحديث هزار، نحن بالفعل وجدنا هذا الالتحام الإنسانيّ، بجلّ تباينات جنسيّاته وأعراقه وأديانه، في هبّة القدس الأخيرة (مايو 2021)، حيث استقبلت القضية الفلسطينية دعما وتضامنا واسعا جدا، ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، وبقية المدن الفلسطينية في الضفة والداخل الفلسطيني (الأراضي المحتلة منذ عام 1948).
تمثّل هذا الدعم في تسليط الضوء على الأحداث وبثها على مواقع التواصل الاجتماعي، فضلا عن تضامن مئات الشخصيات العامة، في مجالات مختلفة من الرياضة مرورا بالإعلام والفن ووصولا إلى السياسة، ما أحدث زخما عالميا نحو التوجه إلى إدانة إسرائيل وعدوانها التاريخي والحاضر في حق الشعب والأرض الفلسطينيّة، يُضاف إلى ذلك مئات الاحتجاجات والمظاهرات في العالم كلّه، مُطالبة بحق العيش الفلسطيني، كما ازدهار ممارسات المقاطعة للمنتجات الإسرائيليّة حول العالم
كذلك، تُرجم هذا التضامن لحركاتٍ ممارساتيّة، حيث توجّه المئات من أبناء شعبيّ الأردن ولبنان نحو الحدود إلى فلسطين، ما تسبب في اشتباكاتٍ بينهم وبين القوات الإسرائيليّة، أوقعت قتيل لبناني برصاص قوات الجيش الإسرائيلي، بالإضافة إلى عشرات الجرحى. واستطاع شابّان أردنيّان عبور الحدود مُتجهين نحو القدس، بينما قبضت عليهما قوات الاحتلال في طريقهما حيث كانا ذاهبين.
في هذه الهبّة الأخيرة، قد أحس الشعب الفلسطيني، أنّه بالفعل ليس وحيدا، وأن الشعوب العربية ما زالت تعتبر القضية الفلسطينية قضية تحرير لها، قبل أن تكون للفلسطينيين، تُرجم هذا الإحساس على لسان المرأة الفلسطينيّة، في جدالها للجندي الإسرائيلي في حي الشيخ جراح قائلة: "بكرا يجوا من مصر، 100 مليون، لو عطسوا على إسرائيل بِطيروها"
هذه الوحدة والأُلفة بين الشعوب التي وقعت مؤخرا، جاءت بعد تيه وتشرذم لِعقود، حيث كانت قضية فلسطين، قضية الشعوب العربية، قبل وبعد نكبة مايو 1948، بل وكانت أشدُّ وحدتها في خمسينات وستينات القرن الماضي، وذلك لصعود موجات العروبة التي قادها عدة زعماءٍ عرب، أبرزهم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
لكن، بعد نكسة يونيو 1967، واندلاع الحرب الأهلية بين مُسلحي منظمة التحرير الفلسطينية مع قوات الجيش الأردني، فيما يعرف بأيلول الأسود (1970-1971). ومن ثم تلى ذلك، الحرب الأهلية اللبنانيّة التي انتهت، بخروج مسلحي منظمة التحرير من الأراضي اللبنانيّة 1982.
هذا بالتوازي مع اتجاه الرئيس المصري أنور السادات إلى عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل، كامب ديفيد (1978-1979)، وبعد ذلك تبرم منظمة التحرير الفلسطينية ذاتها اتفاقية أوسلو 1993، معترفةً بسيادة إسرائيل على أراضي فلسطين التاريخية المُحتلة منذ عام 1948. تلك الأحداث وغيرها، قد فككت قضية تحرير فلسطين في وجدان الشعوب العربية، إلى أن زُرع فيها النبض مرّةً أُخرى، في هبّة القدس الأخيرة.
نظّر الكثيرون حول الوحدة للسعي نحو التحررّ من عباءة الاستبداد والاستعمار، مثل الأمريكي جورج جاكسون، التي سجنته سلطات الولايات المتحدة الأمريكية في ستينات القرن الماضي، بما أنه بروليتاري، ينتمي إلى العرق الأسود، أي العرقية الأقل من البيضاء، التي تُطبّق عليها سلطات الفصل العنصري، لذلك دعى جاكسون في كتابيّه رسائل السجن the prison letter، ودم في عيني Blood in my eye، إلى وحدة الأجساد المقهورة والمنبوذة للخلاص من سلطات الاستبداد، كذلك كتب فرانز فانون، عن ما سمّاهم معذّبو الأرض Wretched of the Earth، لما رآه، بل وشجّعه على المشاركة ضمن حركاتٍ تحرّرية جزائريّة للتخلّص من غوغائيّة الاستعمار الفرنسي بحق الشعب الجزائر.
مُعوّقاتٍ كثيرة تُحيل الشعوب العربية من الوحدة والترابط، تتمثل في الاستبداد وممارساته القمعيّة، فضلا عن عصر الفردانية الذي توغّل داخل ذواتنا، فَفكك بشكلٍ ناعم مقاومتنا، وحرضنا على التمحور والالتفاف حول متعتنا الفرديّة الخاصة، والابتعاد عن مساندة ودعم أي مُعاناة للآخر، إن كانت ستجلب مُعاناة أُخرى للفرد. لكن، بعض الأفكار والمُمارسات في حيواتنا، تساعد بشكلٍ أو بآخر في تخطي هذه المُعوّقات، وتُشيّد لُبنات صغيرة في بيت الحرية.