كان وما زال الجدل مستمراً حول مهمة الخلافة وسلطتها، وما إذا كانت دينية أو روحية في معالجة أمور الآخرة، أم سياسية محضة في معالجة أمور الدنيا، أم إن كانت بين هذا وذاك.
يؤمن معظم المسلمين أن الإسلام ليس دينا فقط ولكنه دين ودنيا معا، أي دين ودولة أيضا، فالإسلام شامل بالقدر الكافي لأن يضم كل الجوانب الدينية والسياسية معا، فقد وضع الله من خلال الإسلام المبادئ العامة للمسلمين التي تحقق لهم السعادة في الدنيا والآخرة.
فعلى المستوى الاجتماعي والأخلاقي، حث الإسلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإحسان إلى الناس والتكافل الاجتماعي، وعلى المستوى السياسي أرسى الإسلام مبادئ العدل والشورى والمساواة والمصلحة العامة بين الرعية، وغيرها من مبادئ الحكم الصالح، وأمر الحاكم بالاستقامة والتقوى والسهر على رعاية الأمة وازدهارها.
وعلى الجانب الآخر، لم يحدد الإسلام نظاما سياسيا معينا أو شكلا للحكم، فالله يقبل أي نظام سياسي يعمل بهذه المبادئ لصالح المسلمين، وترك الله للأمة حرية اختيار النظام الذي ترى أنه مثالي وفقاً لاحتياجاتها، فليست القضية هي خلافة أو إمامة أو سلطنة أو مملكة أو رئاسة.
دولة الخلافة هي الدولة الإسلامية التي يجمع فيها الحاكم بين السلطتين الدينية والسياسية، وهي الدولة التي قامت عقب وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام عام 632، والتي استمرت كنظام حكم أساسي في تاريخ الدول الإسلامية التي قامت منذ ذلك التاريخ، وحتى انتهت الخلافة العثمانية عام 1924.
يعرف ابن خلدون (1332- 1406) الخلافة بأنها "حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ إن أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"، هكذا يعتقد ابن خلدون أن الخلافة هي جمع لكل من السلطة الدينية والسلطة السياسية وذلك لتحقيق السعادة في الدنيا والأخرة معا.
امتزجت السلطة الدينية والسلطة السياسية للخليفة المسلم على مر التاريخ، حيث يوضح ابن خلدون أن الخلافة تواجدت بجانب السلطة الملكية، ثم فقدت الخلافة تدريجيا هويتها وظل شكل الحكومة سلطة ملكية خالصة فيقول "ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها، وصار الأمر مُلكاً بحتاً وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها واستعملت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات والملاذ".
كيف سيكون شكل "دولة الخلافة الإسلامية" الجديدة التي ستقيمها طالبان في أفغانستان، وكيف ستتعامل مع مشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية، وكيف ستتعامل مع المواقف والتحديات الخارجية؟!
اختار الصحابة نظام الخلافة عقب وفاة الرسول لاعتقادهم أنه ملائم لاحتياجاتهم ومصالحهم الدينية أو الروحية والسياسيـة والإدارية فى ذلك الوقت، ونجح نظام الخلافة ـ كليا أو جزئياً ـ في تحقيق احتياجات الأمة في كثير من الأوقات، وبمرور الزمن تحولت الخلافة إلى سلطنة أو مملكة، ورغم ذلك استمر هذا النظام فعالا وتقبله أفراد الأمة طالما أن الخليفة أو السلطان أو الملك التزم بقواعد الحكم الصالح، وعندما فشل حاكم الدولة في الالتزام بهذه القواعد الثابتة، فشل النظام بأكمله سواء كان خلافة أم سلطنة أم مملكة.
يرى المفكر الإسلامي د. محمد عمارة رحمه الله، أنه وفقاً لمعاهدة لوزان عام 1923 والتي اتفق فيها الحلفاء المنتصرون على الحدود الجديدة لتركيا عقب هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى، كان يجب أنهاء دولة الخلافة العثمانية حتى لا تبقى رمزا لوحدة المسلمين، حيث ظلت الخلافة الإطار الذي يوحد المسلمين ورمزا للإسلام الشامل لمدة طويلة، وعلى الرغم من أنه مع مرور الزمن ضعفت الخلافة واصبحت مجرد رمز معنوي بلا قيمة سياسية مؤثرة، إلا أن القـوى الغربية أصرت على محوها.
فطالما أن الغرب كـان غير قادر على محو الدين والشريعة كلية، فإنه كان قادرا على الأقل على فك الارتباط بين الشريعة والحكم أو الدين والدولة، وكان السبيل لذلك، كما يعتقد د. عمارة، إدعاء الغرب ادخال التنوير العلمانى للفكر الإسلامي من أجل الوصول إلى التمدن والتقدم كما حدث مع المسيحية فى أوروبا من قبل، حينما تم فصل الكنيسة عن الدولة وكان هذا سببا فى تقدم أوروبا.
يعني هذا أن إلغاء الخلافة العثمانية، وبالتالي إنهاء دولة الخلافة الإسلامية، كان الهدف منه سياسيا بالدرجة الأولى، وهو عدم تجمع المسلمين حول دولة واحدة أو حول مبدأ واحد، يهدد مصالح الغرب في العالمين العربي والإسلامي، ويمنع تمدده وتوغله فيهما وسيطرته عليها والتحكم في أقدارها والاستيلاء على ثرواتها.
خلق الإلغاء الدرامى للخلافة عام 1924 موقفين متناقضين بين المفكرين العرب والمسلمين والشرق أوسطيين، الموقف الأول اتخذه المفكرون الإسلاميون الذين اعتقدوا أن الخلافة هى رمز لاستقلال المسلمين ووحدتهم وسيادتهـم رغم ضعفـها وتدهورها في الفترة الأخيرة حيث ظلوا يأملون في احياء خلافة جديدة وقـوية لمنع الهيمنة الغربية والسيطرة الامبريالية على العالم الإسلامي، ودعا الكثيرون منهم إلى إحياء الخلافة بعيداً عن تركيا لتشمل المسلمين جميعا فى كل أنحاء العالم.
الموقف الآخر اتخذه مفكرون علمانيون كانوا أكثر عملية وانفتاحاً على العالم الغربي، واعتقدوا أن مفهوم الخلافة القديم يتناقض مع القومية الناهضة، واعتقدوا كـذلك أن مبدأ الخلافـة مفهـوم ونظام تاريخـي قـديم لا يتماشى مع العصر الحـديث، ونادوا بمحاكاة نموذج الحكم الغربي للوصول إلى المدنية والحداثة.
الخلافة، في رأيي المتواضع، ظهرت من أجل تحقيق حاجة محددة في وقت ما أو في لحظة تاريخية محددة، فهى ليست نظاما فرضه الله أو أوصى به الرسول، فللمسلمون حرية إقامة أفضل نظام سياسي يتناسب مع احتياجاتهم الدنيوية في لحظة تاريخية محددة، ويرونه مناسبا لاحتياجاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سواء كان هذا النظام هو الخلافة أو السلطنة أو المملكة او الرئاسة...الخ.
يجب إذن أولا أن يتلاءم هذا النظام مع القواعد العامة للدين الإسلامي، وفي نفس الوقت يتلائم مع احتياجات المسلمين الحالية ويواجه التحديات القومية والعالمية التى تواجههم، فى عصر تتسارع فيه خطوات التقدم والمدنية والحضارة جنبا إلى جنب مع تصاعد الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على المستويين القومى والعالمى.
الإسلام، في رأيي المتواضع، هو دين ودولة، دين على وجه الخصوص ودولة على وجه العموم، يعني الدولة الإسلامية هي التي تلتزم بتطبيق القوانين المستمدة من والمتوافقة مع الشريعة الإسلامية، ولكنها ليس بالضروة تعني أن يحكمها رجل دين أو عالم دين أو مفتي أو فقيه أو إمام، يكون هو المرجعية الأولى في الأمور الدينية والسياسية معا، مثلما يحدث في إيران حاليا كدولة إسلامية وفي الفاتيكان كدولة مسيحية، وهما المثالان الوحيدان الموجودان حاليا في العالم وينطبق عليهما وصف "دولة دينية" أو "حكم ديني ـ Theocracy"، وإن كان من المحتمل طبعا أن تنضم إليهما أفغانستان بعد التطورات الخيرة التي شهدتها مؤخرا.
كيف سيكون شكل "دولة الخلافة الإسلامية" الجديدة التي ستقيمها طالبان في أفغانستان، وكيف ستتعامل مع مشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية، وكيف ستتعامل مع المواقف والتحديات الخارجية؟!
لننتظر ونرى.