إنه اختبار التاريخ بالفعل، للغرب ولطالبان معا في أفغانستان.. فطالبان أخذت ما يكفيها من (عطايا التاريخ) لتثبت صدق مواقفها ومقولاتها، أخذت النضج الأيديولوجي والذي ينتج عادة من اتصال الفكر بالواقع وهو ما حدث على مدى ثلاثين عاما تقريبا، وهي تقرأ النصوص بعين البصر من جانب (هم أصلا طلاب) وعين البصيرة من جانب آخر بالمعايشة والتواصل والتداخل في تلافيف وثنايا المجتمع الأفغاني، وها قد التقى الاثنان على موعد كما يقال..
أخذت النضج التنظيمي فاكتملت الهياكل واستوت الصفوف وتوافقت الرؤوس واقتربت الأفكار فذهب القديم البالي وحضر الجديد الواعد بلغة توماس كارلايل في فلسفة (الثياب البالية)، لأن تأخر موت القيادات التاريخية للدول والجماعات والأحزاب عادة ما يمثل في أغلب الأحوال عقبة كبيرة تؤخر وتمنع التطور الطبيعي للأفكار والمواقف في سياق الدنيا والزمن.
أخذت الضجر والتشبع الأفغاني من التشتت والاقتتال والتمزق، أولا تمزق المجتمع ومعاناته التي لم يُرَ لها في التاريخ الحديث مثلا، وثانيا تمزق التنظيمات والجماعات والطبقة السياسية في ما يشبه العجز التام عن تقديم أي فائدة لنفسها أو للمجتمع نفسه. والمجتمع الأفغاني بنفسه ولنفسه خالصا مخلصا يكاد يكون الآن في أنسب أوقاته وأكثرها قبولا لفكرة التصالح والتقارب والتئام الجراح.
العالم الأن قلق مما يحدث في أفغانستان.. ليس قلقا واحدا، وليس فقط من منطلق ما حدث، ولكن من منطلقات شتى تخص كل دولة بذاتها.. والمثير أن أقلهم قلقا هي أمريكا!.
أخذت التربص الدولي القائم بين العمالقة والكبار وذاك التوتر والترقب وانتظار الفرصة السانحة من الجميع ضد الجميع لعين تغفل هنا أو ذهن يشرد هناك (الصين وروسيا وأمريكا والهند وإيران). وهو ما يجعل أيادي الجميع ممدودة لهم على كل طولها اتساعها.. ليس فقط للحمولة الداخلية لهذه البلدان من عوامل التوتر الموصولة بألف قرابة وقرابة بالداخل الأفغاني والطالباني تحديدا.. ولكن أيضا للأهمية الذاتية التي تمثلها البلاد لهم (الصين وطريقها المشهور.. الثروات الجيولوجية الواعدة.. الخ).
وأخيرا أخذت انشغال وتحسب وتوتر وقلق واضطراب العالم الإسلامي، فإن تستغرب من غيابه المثير عن بؤرة مشتعلة في دياره وحياضه كما هو غائب الآن ـ إذا استثنينا قطر وتركيا لأسباب ذاتية محضة ـ فقد تذهب بك الظنون غير الآثمة وتقول: (خيرا فعل).. إذ عادة ما تذهب قياداته بمشاكلها وصراعاتها الداخلية والإقليمية إلى بؤر الصراع فتسكب عليها من مخزونها التعيس المتسخ من الصراعات والضغائن ما يزيدها اشتعالا واصطراعا.
***
لكن هذا لا يمنعنا من سؤالنا وافتقادنا لدور الهيئات الإسلامية الكبرى (الأزهر الشريف ومنظمة المؤتمر الإسلامي.. الخ) بل وكبار رجالات الفكر والحركة الإسلاميين وأخص بالذكر المفكر الكبير الأستاذ فهمي هويدي الذي كان هناك ذات يوم.. رأى وسمع وعاش وقال وكتب، وكتابه المشهور (طالبان جند الله في المعركة الغلط) الذي صدر من 20 عاما تقريبا يكاد يكون المصدر الأوثق والأشمل لمعرفة وفهم ما يحدث في أفغانستان.. ليس فقط لأن كاتبه هو (أ. فهمى هويدي) وهو من هو، ولكن لكونه أيضا قراءة ميدانية من الأرض ووصفا دقيقا لما يحدث ويجري على هذه الأرض ذات الأهمية التاريخية والاستراتيجية لعالم الإسلام.
***
كل العطايا التاريخية السابقة التي تتاح الآن لحركة طالبان ستضعها أمام اختبار تاريخي صارم.. وسيتحتم عليها الانتباه جيدا لكل خطوة من خطواته وهو لحسن حظها وحظنا يميل كثيرا لصالحها.. فقط الانتباه والحذر والاستعداد والتبصر.
وتحضرني هنا جملة مهمة قالها سيدنا معاوية رضي الله عنه أثناء الأزمة الكبرى مع الإمام علي.. فقد كان يسير وقتها بين الناس قائلا: "إن لم أكن أخيركم لدينكم فأنا أخيركم لدنياكم"، كما قال الأستاذ العقاد في (عبقرية الإمام) وهي صحيحة بمنطق الحكم والسياسة، والفاروق رضي الله عنه كان له في معادلة اختياره للقيادات في زمنه وعيا شديدا بما يصلح للدين وما يصلح للدنيا وليس هذا موضوعنا على أية حال.
لكنها العبرة التي قد يكون لها اعتبار في هذا الوقت الهام الذي يمر به هذا البلد المسلم (99%) منذ أربعة عشر قرنا، بلد أبي داود (صاحب سنن أبي داود) والشاعر الكبير جلال الدين الرومي وموقظ الشرق وأبي الحركات الإصلاحية في العصر الحديث جمال الدين الأفغاني، هذا البلد الذي يمر بمحنة كبيرة متصلة ومستمرة من أكثر من أربعين سنة.
الصحيح هو أن كل ما جرى ويجري على الأرض قد جرى قبلا داخل الغرف المغلقة على الورق والخرائط وهو ما أصبح معلنا وصريحا في اجتماعات الدوحة من 2019م وحتى توقيع الاتفاق في شباط (فبراير) 2020م.
الغرب الذي يريد أن يقنعنا ويقنع العالم بأنه مندهش مما يجري الآن في أفغانستان بعد أن مكث عشرين عاما مزودا بكل الإمكانات العسكرية والقتالية والمخابراتية والمسح والرصد، يقول إنه فوجئ فجأة بانهيار الجيش الأفغاني والدولة وتقدم رجال طالبان في كل المديريات بكل هذه السهولة السهيلة.. طبعا هذا كلام غير مقبول ولا يمكن تصديقه.. الصحيح هو أن كل ما جرى ويجري على الأرض قد جرى قبلا داخل الغرف المغلقة على الورق والخرائط وهو ما أصبح معلنا وصريحا في اجتماعات الدوحة من 2019م وحتى توقيع الاتفاق في شباط (فبراير) 2020م.
رغم ذلك فإن الموضوع له تشعبات كثيرة.. علينا أولا أن نعيد تذكير أنفسنا دائما بأن الغرب له مشكلة عميقة مع (الإسلام) كون الإسلام هو أخطر الأيديولوجيات التي تهدد الغرب في عقر داره لما يتميز به من رؤية إنسانية عميقة للحياة ووعي مسؤول بالوجود في هذه الحياة، لأنه ليس فقط مجرد دين بل هو دين يشمل الحياة بل ويسمو عليها أيضا كما قال العلامة على عزت بيجوفيتش.
ثم إن الغرب له مصالح مركبة ومعقدة مع كثير من الأنظمة العربية التي تحارب فكرة (الإسلام الشامل) حربا شعواء، وفي الأغلب سيستثمر ذلك في ضبط إيقاعات مصالحه وتلاعباته.
الحاصل أن المنتظر من الغرب في مساعدة هذا البلد الحبيس الجريح ـ إن حدث ـ فسيتأخر قليلا، وهم أعلنوا ذلك صراحة، في أنهم لن يعترفوا بحكومة طالبان (الدعم المادي الدولي) قبل أن يتأكدوا من حسن معاملة المرأة وحرية الصحافة.. وبالطبع من خلال عدسة عينه التي يرى بها أن العالم كله ما هو إلا (الحضارة الغربية وأشياء أخرى) فهو مركز العالم ومرجعيته النهائية في الحكم على الأمور..
ولا أدرى بأي نوع من التبجح يتحدثون عن هذه الأشياء قبل أن تستكمل الدولة مقوماتها ومؤسساتها وقدراتها وإنتاجيتها، أنتم وعلى ما أنتم عليه من رسوخ وتقدم في حرية الصحافة في بلادكم شاركتم في تقطيع أحد أهم صحفيي العالم العربى إربا إربا.. وتصمتون صمتا مريبا على ما يحدث للصحافة والصحفيين في طول وعرض العالم العربي.
أنتم تدشنون كل يوم وعلى نحو منتظم ومستمر عملية (تصنيع المرأة) بصناعات تفوق في أهميتها السلاح والبترول تقوم على (المرأة السلعة).
إذا كنت جادا وشريفا وصادقا فعليك التحدث عن وحدة البلاد، والبدء في تسيير عجلة الاقتصاد، والارتفاع بمستوى الخدمات والحياة الكريمة، ثم بعدها تحدث عما يحلو لك.
العالم الآن قلق مما يحدث في أفغانستان.. ليس قلقا واحدا، وليس فقط من منطلق ما حدث، ولكن من منطلقات شتى تخص كل دولة بذاتها.. والمثير أن أقلهم قلقا هي أمريكا!.