أفكَار

باحث: تشويه رموز الجزائر هدفه إعادة صياغة التاريخ لتغريب الأمة

لماذا تتم مهاجمة الأمير عبد القادر الجزائري والتشكيك في وطنيته؟

يرى الأستاذ قادة الدين أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة البيض في الجزائر، أن كل أمة مقطوعة الجذور، معدومة الخلفية، هي صنف من قبائل المجاهل والأدغال، سهلة التطويع والاحتواء وإعادة التشكيل، والذوبان في مشاريع الغير، بل حتى يسيرة الاجتثاث والاستئصال، وعملية استهداف رموزنا هي أبرز أشكال قطع الجذور التي تربطنا بعمقنا الحضاري والتاريخي، وتغذينا بالقيم والعزة والافتخار، لنقيم صلب وجودنا وسط عالم احتد فيه الصراع الحضاري، وتصادمت فيه الأمم من أجل إثبات أحقيتها وقدمها.

ولأن كل بناء في الحاضر يقوم على أساس من الماضي، ولأن معارك اليوم تدار في نفس سياق مواجهات الأمس التاريخية، ولأن البعض من بني جلدتنا ممن لبس جلد الغير، لم يعد يرضى أن تكون سياقات التاريخ وأحكام الجغرافيا كما أفرزها واقع التدافع، وأملتها الظروف الطبيعية، فإنه بات يريد أن يمارس عملية توليد قسري للتاريخ، ربما تعيد تشكيل وترتيب الحاضر الذي لم يوافق هواه ونزعته الحضارية، وتخرج له رموزا توافق مزاجه وعصبيته.

ويفصل الأستاذ قادة الدين لـ "عربي21" أن عملية إعادة صياغة التاريخ تلك، تمر عبر خلخلة المتعارف عليه وضرب المتفق عليه وتشويه البطولات وتزييف الحقائق، وبث الشك وزرع الألغام والقنابل، والطعن في المواقف والنيّات والرجال، جنبا إلى جنب مع إعادة كتابة قصص أخرى عن بطولات وهمية ورموز خيالية مصطنعة، تخدم عملية تمزيق وتغريب الأمة اليوم، وإخراجها من محيطها الحضاري والتاريخي، إلى محيط ذو أبعاد أخرى.

ويوضح أنه عندما يصطدم هؤلاء بحجج تاريخية صلبة وبمواقف ظاهرة معلومة، يلجئون إلى القراءة المجتزأة أو المحرفة، وإلى بتر الوقائع عن سياقها التاريخي، وإلى مقارنات ساذجة خاطئة، مستغلين بعض الشبهات التاريخية الغير ثابتة، أو المزروعة بإحكام من قبل مخابر الأعداء التي تولت كتابة الأحداث وتدوين جزء مهم من وقائعها، ومستغلين جهل الجزء الأعم من شعوبنا بحقيقة التاريخ ودوافع أحداثه.

الأمير عبد القادر حالة عالمية فريدة من نوعها

ويعرج الأستاذ قادة الدين على شخصية الأمير عبد القادر ذاتها، ليؤكد إن الأمير عبد القادر على غرار الأمير المغربي المناضل محمد بن عبد الكريم الخطابي يمثل حالة عالمية فريدة، تجاوزت حدود التقدير الوطني والاعتزاز المحلي، إلى الرمزية الإنسانية والحضور العالمي، وهو ما يمثل رافدا إضافيا لهذه الأمة، ويمنحها ما يجعلها تفتخر بماضيها، وتجد لها محطات مضيئة حتى في قلب أيامها الحالكة وخلال فترة تغييبها.

ولا غرو أن المجاهد الأمير الخطابي يصف الأمير عبد القادر بأستاذي في الجهاد، فلا يعرف الرجال مثل الرجال، ولا يرى علو جبل إلا جبلا عاليا مثله، ولا يقدر قيمة النضال والبذل والتضحية والرجولة كذلك الذي خاض وسط الأشواك والرزايا وقرع السيوف ودوي البارود والرصاص.

 

                            قادة الدين.. باحث جزائري

إن الأمير عبد القادر يقول الأستاذ قادة الدين هو بإقرار الخارج قبل الداخل وبأحقية التاريخ والمواقف وباعتراف العدو المحارب نفسه، لهو رمز هاته الأمة الأول وهو حامل لواء مجدها وعزتها، وهو مؤسسها وباني وجودها، وهو المنارة الأعلى في هاته الربوع الزاخرة بالمنارات والرموز.

ويعود الأستاذ قادة الدين إلى الملابسات الصعبة التي دفعت بالأمير الى وضع السلاح، مشيرا إلى أن الطاعنين فيه يرتكزون بداية على موقفه من نهاية تلك الحرب الضروس مع فرنسا، وكيف أنه فضل الاستسلام للأعداء بدل إكمال المعركة، قافزين على كثير من الحقائق والوقائع، مثل أن الأمير عبد القادر وجد نفسه بعد 17 سنة من الكفاح والنضال والمعارك والرصاص والبارود، معزولا داخليا وخارجيا، محاصرا، رفقة ثلاثة آلاف من البقية الباقية من فرسانه وجنوده، المتعبين المنهكين، المؤننين من وطأة الجروح والجوع والمطاردة، بين فكي كماشة، كان طرفها الأول الجيش الفرنسي ومن معه من الكثير من القبائل الموالية، وطرفها الآخر الجيش المغربي الذي رضخ تحت ظروف القوة والتهديد للفرنسيين، وأعلن الحرب بدوره على الأمير عبد القادر.

ويضيف أن هؤلاء يهملون السياق الذي جرت فيه الأحداث، ويتناسون البعد الإنساني للرجل ومن معه، والضعف الذي وجدوا فيه أنفسهم، وقلة الحيلة وانقطاع المدد بالمعونة والسلاح وانسداد السبل، ويطلبون منهم، وهم المتحللون من أي ضغط أو معاناة، الجالسون على الأرائك للقراءة والاستمتاع، المنسحبون اليوم من أي تعب أو بذل، أن لو أكملوا الطريق وانتحروا جميعا على تسليم أنفسهم. والتاريخ يثبت استسلام غير واحد من الأبطال والمحاربين، عندما لا تعدو عملية المواجهة سوى عملية انتحار بلا مقابل، وعندما يستقيل عموم الشعب من المواجهة وتحمل القضية، بل يتحول جزء منه إلى محاربة مناضلي الحرية أنفسهم، كما في وضع تشي غيفار والأمير الخطابي.

كما يعرج الأستاذ قادة الدين إلى النقطة الثانية التي يسوّق لها الطاعنون في تاريخ الأمير عبد القادر النضالي هي معاهدة التافنة، التي وقعها الأمير مع الفرنسيين سنة 1837، ويعتبرونها اعترافا من الأمير بالوجود الفرنسي، ويقفزون مرة أخرى على حقائق التاريخ وعلى سياق توقيع تلك المعاهدة، فأولا: تلك المعاهدة لها دوافعها ومسبباتها ولها ظروفها، فهي تشبه كثيرا معاهدة صلح الحديبية، التي عقدها الرسول عليه الصلاة والسلام مع مشركي قريش، والتي كان ظاهرها تنازل الرسول لقريش وخدمة تلك المعاهدة لمصالح أعداء المسلمين أكثر مما خدمت المسلمين، حتى أن الصحابة رفضوا توقيعها، لكن الحقيقة أن تلك المعاهدة كانت تراجعا تكتيكا لخدمة غرض استراتيجي، وهو التخفيف عن المسلمين وطأة الحصار والمطاردة الدائمة، وتمكينهم من فسحة تحرك ومناورة، فكذلك فعل الأمير عبد القادر، والذي على عكس ما يروج له استفاد تكتيكيا من تلك المعاهدة وحقق عدة أهداف خدمت قضيته مرحليا وتاريخيا.

ـ فالأمير عندما وقع المعاهدة لم يكن في وضع القوة بأي شكل، بل كان يئن تحت نقص البارود والسلاح وتهديد الفشل، وبحاجة لفترة يعيد فيها إعادة تنظيم قواته وتزويدها بما تحتاج.

ـ كانت الوجود الفرنسي في الجزائر في هاته الفترة أمرا واقعا، وكانت فرنسا قد سيطرت تقريبا على كل المدن الساحلية وتوسعت للمناطق الداخلية، ولم يكن اعتراف الأمير بسلطتها سوى تحصيل حاصل وإقرار لذلك الواقع المكرس، بغية الاستفادة منه.

ـ على العكس فالأمير هو من كان في موقع ضعف، وقد تمكن من خلال هذه المعاهدة من تحصيل اعتراف فرنسا به كسلطان على ثلثي الجزائر، وبوجود دولة جزائرية، وسيكون لهذا الأمر وقعه التاريخي لاحقا خلال كفاح الشعب الجزائري على الصعيد العالمي من أجل الاستقلال، فهناك وثيقة موقعة بيد الفرنسيين تشهد على وجود سلطة ودولة جزائرية سنة 1837م.

ـ استفاد الأمير عبر هاته المعاهدة من منافذ بحرية مكنته من التواصل مع العالم الخارجي للحصول على السلاح والعتاد.

ـ هذه المعاهدة لم تكن دائمة بل كانت مؤقتة، ولغرض تكتيكي، وهو تقوية النفس والاستعداد لحرب أوسع، وهو ما أثبته نقض الأمير لها بعد سنتين من توقيعها نتيجة مواصلة فرنسا سياستها الاستعمارية.

بين القراءة المنهجية للتاريخ والتوظيف الأيديولوجي

ويخلص الأستاذ قادة الدين إلى أن إهمال كل تلك الحقائق وعزل الأحداث عن سياقها التاريخي، وقراءتها في إطار شروط الحاضر سيجعلها حتما تبدو على غير ما جرت عليه، ويعطي لها تفسيرات أخرى، يتسلل عبرها الطعن والقدح والتخوين، وهنا نحن أمام صنفين من الناس، أولئك الذين يبيتون النية لتشويه ماضي الأمم والتشكيك في المآثر والرموز، تحت ضغوط التوجهات الأيديولوجية الطارئة، وبدافع تصفية الحساب مع تاريخ الأمة وانتمائها، وبغية إعادة كتابة تاريخ غير ذلك الذي جرى، وأولئك السذج الذين يقعون في فخ ما يمسى بالنقد الموضوعي، ويستدرجون لقراءات سطحية وقاصرة.

وكلا الصنفين بحسبه سيخسرون القضية عندما يتعلق الأمير بقراءة منهجية وعلمية للتاريخ وباستنطاق موضوعي ومتجرد للوثائق المتعلقة بتلك الفترة، بعيدا عن التوظيف الأيديولوجي الراهن، وعن الأحقاد العرقية والجهوية والدينية، وعن الأهداف السياسية.

ويكفي الأمير عبد القادر فخرا، ويدلل على حسن نيته وصدق مشروعه، يقول الأستاذ قادة الدين، أن ابنه الأمير عبد المالك قاد ثورة عظيمة في المغرب من سنة 1914 إلى سنة 1924م، ضد الوجود الفرنسي، وقد استلهم منه آل الخطابي منهج الثورة ضد الاحتلال الأجنبي، وبفضله حملوا السلاح، حتى ارتقى شهيدا على يد الفرنسيين.

وكذلك فعل حفيده الأمير خالد، الذي انخرط تكتيكا في الجيش الفرنسي عندما، فشل الخيار المسلح وأجهضت كل المقاومات ودفع الشعب الجزائري ثمنا باهظا من دمه وخيراته، واستغل ما قدمه ومكانته ليبدأ مسارا سياسيا، سجل له في التاريخي أنه كان أول من نادى بوجود الأمة الجزائرية في القرن العشرين، عندما بعث برسالة سنة 1919م، بمناسبة مؤتمر الصلح العالمي إلى الرئيس الأمريكي ويلسون، يطلب فيها الاعتراف العالمي بوجود الأمة الجزائرية وحق تقرير المصر للشعب الجزائري، فصنفه كبار التاريخ وعلماؤه الأفذاذ تبعا لذلك أب الحركة الوطنية ومؤسسها.

ويختم الأستاذ قادة الدين في الأخير بأن الطعن في الرموز والعظماء، ليس بدعة محلية بل هي تجارة القاعدين والمتخاذلين، وديدن المغرضين، وسبيل المستدرجين لفخاخ الأجهزة الخبيرة العريقة، ولا يكاد يخلو تاريخ عظيم، من سادة الخلق وفضلائه، للتشويه والدس والتزييف، فحتما عندما سيسقط هؤلاء العظماء في نظر الناس ستسقط تلقائيا أي قيمة اعتبارية لحضارة تلك الأمة ولأسباب وجودها، فيسهل اجتثاثها.

 

إقرأ أيضا: جدل فكري في الجزائر حول سيرة الأمير عبد القادر الجزائري