في الآونة الأخيرة تحول التاريخ الفلسطيني (القديم ـ الحديث ـ المعاصر) إلى مصدر اهتمام متزايد من الباحثين، وحتى ما قبل أربعة عقود، كُتب تاريخ فلسطين من وجهة نظر "الكتاب المقدس"، لكن في الفترة الأخيرة، ظهرت مدارس تدعو إلى تحرير كتابة تاريخ فلسطين من سطوة "الكتاب المقدس"، والخروج من بوتقة الرواية الصهيونية، وبات حقل التاريخ الفلسطيني يحتل مكانه ملحوظة لدى الباحثين.
في هذا الإطار صدر عن مؤسسة بيت المقدس للدراسات والبحوث الفلسطينية، (فلسطين، 2021)، كتاب "إعادة كتابة التاريخ الفلسطيني: سلسلة لقاءات تاريخية"، من أعداد وتحرير الباحث الفلسطيني، حسام أبو النصر.
يقع الكتاب في 162 صفحة من القطع المتوسط، ويتألف من مقدمة حسام أبو النصر، وسبع ندوات ولقاءات، نظمت عبر الوسائل الإلكترونية، برعاية "مؤسسة بيت القدس للدراسات والبحوث الفلسطينية"، لعدد من المؤرخين، يتقدمهم أ.د.عاصم الدسوقي، المؤرخ المصري، ثم الكاتب والباحث أحمد الدبش، المتخصص في التاريخ القديم، والمؤرخ د.عبد القادر سطيح، المتخصص في التاريخ العثماني، والمؤرخ عبد القادر ياسين، المتخصص في التاريخ المعاصر، والمفكر د. سلمان أبو ستة، والمتخصص في تاريخ النكبة، واللجوء، والمؤرخ د.جوني منصور، المتخصص في التاريخ المعاصر، والكاتب المناضل معين الطاهر، المتخصص في الشؤون العسكرية، والأمنية.
في مدخل الكتاب، يقول أبو النصر: "إن فكرة إعادة كتابة التاريخ، قديمة جديدة، تنبَّه لها كثير من المؤرخين، خاصة بعد احتلال فلسطين، لمحاولة ربط المشروع الاستعماري بالتاريخ اليهودي في المنطقة، ما دعا لمراجعة كل التاريخ المتعلق بالمنطقة" (ص 9).
يعرض المؤرخ المصري أ.د. عاصم الدسوقي، في محاضرته، "إعادة كتابة التاريخ العربي"، المشكلة التي تواجه الكُتاب العرب بالقول: "بطبيعة الحال إن مشكلة ما يكتب عن التاريخ العربي، أو تاريخ فلسطين، دائماً، تدخل فيه وجهات نظر الكاتب" (ص 25 ـ 26).
ويري الدسوقي أنه، "يجب على الباحث في التاريخ، أن يؤمن بالعبارة التالية: التاريخ علم، والعلم مستقل عن السياسة، وعن الدين، الذي يوظف المعلومات التاريخية، لخدمة اتجاه سياسي، أو مذهب ديني، يخرج خارج نطاق العلم، الذي يقوم على الموضوعية، دون اختيار، وعلى عدم الانحياز، والحياد، وعلى الباحث في التاريخ، تفسير الوقائع بكل الظروف الموضوعية المصاحبة للحدث، حتى نفهم الإجراء، أو القرار، وليس الحكم على الإجراء، أو القرار" (ص 37).
في المحاضرة الثانية، بعنوان "إعادة كتابة التاريخ القديم"، يطرح الباحث الفلسطيني، أحمد الدبش، السؤال التالي، هو، ما إذا كان في استطاعتنا (مؤرخين، أم آثاريين، أم باحثين)، تحرير الحقائق التاريخية المتعلقة بتاريخ فلسطين القديم، من ماضٍ خيالي، فرض علينا بواسطة خطاب الدراسات التوراتية؟ هذا، كما أظن، هو السؤال المركزي لإعادة اكتشاف، وكتابة تاريخ فلسطين القديم.
ويشير الدبش إلى أن الإنسان وجد في فلسطين منذ "مليون ونصف المليون سنة قبل الميلاد"(...) وأن فلسطين كانت المسرح الأساسي لتطور الإنسان العاقل، ومنها تطورت الحضارة الناطوفية، والطاحونية، وتليلات الغسول..." (ص 40 ـ 41).
ويؤكد الدبش أنه لا دليل أثري يثبت وجودا عبريا إسرائيليا في فلسطين. وينهي حديثه بالقول: "اليوم الذي يتوقف فيه "الكتاب المقدس" عن تغذية تاريخنا الفلسطيني، تعدو فيه كتابتنا للرواية التاريخية الفلسطينية ـ العربية، رواية لها بداية ونهاية؛ أي تمتد من ماضيها القديم إلى حاضرها الحديث، رواية محررة من امبراطورية الأفكار التوراتية" (ص 51).
في المحاضرة الثالثة، بعنوان "إعادة كتابة التاريخ الحديث"، يحدثنا د.عبد القادر سطيح، المتخصص في التاريخ العثماني، عن المصادر التاريخية لدراسة الحقبة العثمانية في فلسطين، وهي، "ما كتبه المؤرخون المحليّون في المدن الفلسطينية" (ص 53). و"يمكن الاستفادة من الحوليات الدمشقية(...) تقارير القناصل الأجانب" (ص 56). ولدينا أيضاً "وثائق الكنائس(...) بالإضافة إلى هذه المصادر نجد كتب الرحالة العرب، والمسلمين، والأجانب" (ص 57).
وينتقل سطيح، للحديث عن أهم مصادر تاريخ فلسطين في العهد العثماني، "ألا وهي وثائق الأرشيف العثماني، أنشأت الدولة العثمانية العديد من المؤسسات، في الأراضي الفلسطينية، التي أنتجت كماً هائلاً من الوثائق، المتعددة والمتنوعة، وأبرز هذه المؤسسات المحاكم الشرعية" (ص 58). "تقدم سجلات أرشيف البلديات، هي الأخرى الفائدة الكبيرة في كتابة التاريخ الفلسطيني" (ص 59).
وينتقل سطيح للحديث عن الوثائق التي في الأرشيف العثماني، "الموزع على ثلاث مواقع، الأول، أرشيف الطابو في أنقرة" (ص 60). "المبني الثاني، جزء من مبنى (توب قابي سراي) في اسطنبول، ويضم هذا المبنى وثائق مهمة للدولة (...) أما المبنى الثالث للأرشيف العثماني فيضم باقي وثائق الدولة منذ نشأتها، وهو موجود في منطقة سعد أباد، في حي (الكاغت خانة(، في اسطنبول" (ص 61).
ينتقد سطيح، تجاهل الباحثين العرب وثائق الأرشيف العثماني، ويرجع ذلك إلى ضرورة "معرفة ثلاث لغات التركية، والعربية، والفارسية، والباحث يرى صعوبة في إضاعة الوقت (كما يعتقد)، في تعلم هذه اللغات" (ص 67).
القادة السياسيون في كل الفصائل، لا يولون للثقافة، وبالقلب منها التاريخ الفلسطيني، الأهمية التي تستحقها، بالتالي، انغمست تلك الفصائل في الدفاع عن الذات، لأن الرأس الفلسطيني كان مطلوباً، وهي غرقت في هذا المجال"
أما المحاضرة الرابع، "إعادة كتابة التاريخ المعاصر"، يناقش المؤرخ عبد القادر ياسين، المتخصص في التاريخ المعاصر، مناهج كتابة التاريخ العربي الفلسطيني؛ "بدأت بالسرد، وصف المعلومات؛ (...) ثم دخل بعض الكتاب اليساريين [ثم] دراسة تاريخية، ذات طابع سياسي علمي واضح" (ص 71). يقول ياسين: "القادة السياسيون في كل الفصائل، لا يولون للثقافة، وبالقلب منها التاريخ الفلسطيني، الأهمية التي تستحقها، بالتالي، انغمست تلك الفصائل في الدفاع عن الذات، لأن الرأس الفلسطيني كان مطلوباً، وهي غرقت في هذا المجال" (ص 75).
يذكر ياسين أسماء عدة مؤلفات أرخت للحركة الوطنية الفلسطينية.
في المحاضرة الخامسة، للمفكر د. سلمان أبو ستة، بعنوان "كتابة التاريخ النكبة واللجوء"، يحدثنا د. سلمان عن أهمية التاريخ لنا كفلسطينيين بالقول: "ان تاريخنا حي" (ص 92). ويشير إلى إلغاء قرار التقسيم بالإشارة إلى رأي الأمم المتحدة بقولها في قرارها: تبين لنا أنه لا يمكن تنفيذ قرار التقسيم بدون سفك الدماء وكذلك أمريكا وافقت على ذلك، أننا أسقطنا قرار التقسيم وقرروا أن يضعوا فلسطين تحت الوصاية الدولية" (ص 93).
ويتطرق إلى أن "التاريخ له معنى ومعناه يتغير مع الزمن" (ص 95)، وذكر أمثلة على ذلك، معسكرات الاعتقال الصهيونية للفلسطينيين، والموضوع القانوني للتاريخ يتغير، فجرائم الاغتصاب كمثال، تصنف في ميثاق روما 1998، بـ"جريمة حرب"( ص97). لذلك "يجب اللجوء إلى الصراحة وهي مفيدة جداً، وقد تكون مؤلمة ونحن ندفنها ولا نريد التحدث فيها، فمثلاً نحن لا نتحدث في تفاصيل الاغتصاب" (ص 97). ويطالب أبو ستة الباحثين بالاستعانة بالأرشيف البريطاني والأمريكي والإسرائيلي. ويري أن كتابة التاريخ يجب "تحويله إلى قوة شعبية للمطالبة بالحقوق" (ص 99).
المحاضرة السادسة، بعنوان "كتابة التاريخ الشفوي والنكبة" للمؤرخ د. جوني منصور، يقول: ان "نظر الإنسان الفلسطيني اليوم إلى مفهوم النكبة ليس فقط من باب العودة، إنما العودة والبناء، هنا عملية مهمة ًجدا أن الفلسطيني بحلمه في العودة هو يحلم أيضا أن يبني وطنه من جديد" (ص 105). فـ "موضوع العودةهو موضوع أساسي، لأن فيما لو بقي الفلسطيني متمسكاً بحق العودة إذا هو يريد أن يصحح الخطأ التاريخي ومهم جداً في التعامل مع الأزمات التاريخية ألا يقف المؤرخ موقف الواصف وإنما أن يقف موقف المحلل ومتخذ القرار والذي ينصح القارئ" (ص 107).
وبحسب جوني، "نحن استطعنا على مدى أكثر من سبعين سنة بجهود متواصلة، وبتدقيق، وبكل الوسائل المتاحة لنا أن نفرض الرواية، الآن الرواية الفلسطينية تنتشر في كل أنحاء العالم" (ص 113). وينتقد التكرار في الكتابة التاريخية بالقول: "أنا أريد تراثاً لكن ليس مكرراً" (ص 123).
أما المحاضرة السادسة والأخيرة، بعنوان "كتابة تاريخ المعارك الفلسطينية والعربية"، للكاتب والباحث معين الطاهر، يقول: "حتى الآن عن حرب 1948م، لا توجد رواية عربية . اهتم بعض المؤرخين بتاريخ النكبة، لكن تاريخ المعارك العسكرية نجد أن الوثائق، والكتابات الموجودة لدينا حول، ذلك، هي معدودة، ومحدودة للغاية" (ص 126). وبحسب الطاهر، "بكل أسف وبكل ألم لا يوجد لدينا تاريخ عسكري فلسطيني مكتوب (...) [فـ] المعارك الفلسطينية لم تسجل" (ص 132).
ويري الطاهر أن "كتابة تاريخ المعارك ممكن أن ينجز كمشروع، وبلال شلش على سبيل المثال مهتم بكتابة المعارك والحروب والمقاومة فترة 1936م إلى 1948م وهناك مجموعة تهتم بهذا التاريخ، وهناك المرحلة الثانية من 1948م إلى 1965م يجب أن يشغل عليها، ثم مرحلة المقاومة الفلسطينية في الأردن وفي لبنان وفي الأرض المحتلة، ومنها تجربة الحسيني، وتجربة جيفارا الأسود في غزة، لم يكتب عنها للأسف" (ص 150).
وختامًا، خيرًا فعل أبو النصر، حين أعد وحرر هذه المقابلات التي شملت عدة جوانب في التاريخ الفلسطيني، لعلنا نصل إلى رؤية فلسطينية عربية لكتابة سردية فلسطين تواجه الرواية الصهيونية.
*كاتِب وباحِث فلسطيني