مسيرة الأعلام التي تم إلغاؤها كانت تهدف لدعم بنيامين نتنياهو وتفجير الأوضاع لمنع إقامة حكومة معارضة لتوجهاته، بينما تكمن الخطورة في أن الشرطة أصبحت طرفا في النزاع الداخلي الإسرائيلي وجزءا من حالة الاستقطاب المجتمعي بين اليمين واليسار بشكل لم يسبق له مثيل.
وهناك تخوف جدي وحقيقي لدى المؤسسة الصهيونية من تجدد وتصاعد الاحتجاجات في فلسطين والعالم العربي والإسلامي فيما لو انطلقت مسيرة الإعلام ، فقد أبلغ المفتش العام للشرطة الإسرائيلية كوبي شبتاي، الجماعات الاستيطانية التي دعت إلى «مسيرة أعلام» جديدة في القدس المحتلة، الخميس، بإلغاء ترخيصها، بعد أن أوصت قيادة الشرطة بتعديل المسار أو إلغاء كلي للمسيرة وتأجيلها إلى أجل غير مسمى.
جاء الإعلان بعد جدل واسع في المستويات السياسية والأمنية الإسرائيلية حول إجراء المسيرة التي فشل المستوطنون في إكمالها فيما يُسمى «يوم توحيد القدس» بالعاشر من مايو/أيار الماضي عقب إطلاق المقاومة الفلسطينية صواريخها باتجاه القدس المحتلة. وشنت إسرائيل على أثرها عدوانا استمر 11 يوما على قطاع غزة.
فقد كثر التداول باحتمال مبادرة نتنياهو إلى افتعال تصعيد في المنطقة، من أجل التسبّب بحالة طوارئ تقطع الطريق على استكمال مسار تشكيل « حكومة التغيير» ، وتُولّد حرجاً للقيادات اليمينية المعارِضة لنتنياهو بما يدفعها إلى الانضواء ضمن حكومة برئاسته، أو على الأقلّ تَدفع نحو انتخابات مبكرة خامسة. لكن، آلية صناعة قرار الحرب في كيان الاحتلال لن تسمح بتفرّد رئيس الوزراء المنتهية ولايته بخيار بهذا الحجم، لما لذلك من تداعيات إقليمية وربّما دولية؟ ويبدو أن المعادلات التي تبلورت في أعقاب تداعيات معركة « الأسوار « التي خاضتها قوات الاحتلال الصهيوني في القدس وغزة لن تسمح خيار كهذا؟ في ظل الفرضية في تغيير معادلات القوة المستجدّة على المستوى الإقليمي؟
ينصّ القانون الأساسي على أن الحكومة الإسرائيلية هي المؤسّسة التي تملك صلاحية اتخاذ قرار الحرب، أو القيام بعمليات عسكرية واسعة قد تقود إلى حرب. وفي عام 2018، تمّ منح هذه الصلاحية أيضاً للمجلس الوزاري المصغّر. وإذ يَشتبه البعض بأنه منذ نهاية نيسان 2018، أُعطيت الصلاحية نفسها لرئيس الوزراء ووزير الأمن، إلا أن الصحيح أنه تمّ حينها إقرار مادة قانونية بهذا المضمون، قبل أن تُعدّل بعد نحو ثلاثة أشهر، وتحديداً في 18 تموز، لتُحصر المسألة بالمجلس الوزاري مجتمعاً.
مع ذلك، يتمتّع رئيس الحكومة بصلاحيات مهمّة؛ فهو الذي يرأس جلسات الحكومة ويحدّد جدول أعمالها، كما يرأس المجلس الوزاري المصغر ويحدّد وقت اجتماعه وجدول أعماله، إضافة إلى أنه تتبع له مباشرة « هيئة الأمن القومي» التي تقدّم له أوراق تقدير الموقف وما تتضمّنه من تحليلات وبدائل وتوصيات في قضايا الأمن القومي والسياسة الخارجية. على أن ثمّة مجموعة عوامل وجهات مؤثّرة تَحضُر هي الأخرى على طاولة القرار، وقد يكون لها دور حاسم، وفي مقدّمة تلك الجهات الجيش.
ورغم أن الجيش تابع للمستوى السياسي بحسب النص القانوني، إلّا أنه يؤثر بنسبة كبيرة في التوجّهات والقرارات. فالمؤسّسة العسكرية بقيادة رئيس الأركان هي المؤسّسة التي أوكلت إليها مهمّة قراءة الواقع الاستراتيجي العسكري من خلال الاستخبارات العسكرية « أمان»، وهي التي تفسّره وتحدّد ما ينطوي عليه من تهديدات وفرص، وتقدّم في ضوء ذلك البدائل والتوصيات حول ما ينبغي القيام به في مواجهة هذا الواقع. ويؤدي رئيس الأركان، أيضاً، دوراً مهمّاً في بلورة الخيارات العملياتية في الاجتماعات والمشاورات التي يجريها مع رئيس الحكومة ووزير الأمن. باختصار، المستوى السياسي ينظر إلى البيئة الإقليمية وما تنطوي عليه من تهديدات ومخاطر وفرص بعيون الجيش.
ووفق ذلك ليس ثمّة دور رئيس لرئيس الحكومة في اتّخاذ قرار الحرب، سيما وأن هناك مجموعة متغيّرات مما قد تساهم في تعزيز دوره أو تحجيمه، وهي تتعلّق بخبرته في قضايا الأمن القومي، وتاريخه، وحضوره السياسي والشعبي، وأيضاً بقوته السياسية داخل حزبه وداخل الحكومة. ويتعزّز حجم الدور الذي يمكن أن يلعبه المستوى السياسي كلّما كانت الأثمان محدودة، والتداعيات غير مكلفة لإسرائيل، حيث يصبح أقدر على تجاوز العراقيل التي قد تواجهه.
كذلك، يتّسع هامش رئيس الحكومة، عندما تتساوق توصيات المؤسّسة العسكرية مع توجّهاته ومصالحه السياسية. في هذه الحالة، قد يتحكّم، إلى حدّ ما، بالتوقيت بما يخدم مصالحه السياسية. كما يمكنه توظيف أيّ مواجهة عسكرية بما يخدم مصالحه. وهو ما ينطبق على القيادات الإسرائيلية كافة، وفي كلّ العمليات والحروب. وإلى جانب ما ذُكر، يأتي دور الولايات المتحدة الأمريكية الجوهري في المحطّات الكبرى والمفاصل الرئيسيّة. ولربّما تكفي الإشارة، هنا، إلى أنه في معركة» حارسة الأسوار « ، بعدما قدّمت الجهات الأمريكية المختصّة في البيت الأبيض تقدير وضع الرئيس جو بايدن، شدّدت فيه على أنه بات بالإمكان الآن المطالبة بوقف إطلاق النار، مستندة إلى معطيات الجيش الأمريكي الذي نقل ما أورده الجيش الإسرائيلي من أن العملية العسكرية استنفدت أهدافها، عندها فقط قرّر بإيدن الدفع بشكل جدّي نحو التهدئة.
وتقدير الموقف ومخاطره دفع المؤسسة الحاكمة إلى إلغاء مسيرة الإعلام خوفا وتحسبا من التداعيات لهذه المسيرة فلسطينيا وإقليميا ودوليا ضمن معادلة القدس محور الصراع.