قضايا وآراء

سيف القدس وهزيمة ثقافة الهزيمة

1300x600
كان ابن خلدون أول من لفت الأنظار إلى ثقافة الهزيمة، حيث أشار إلى أن لها لغة ومفردات ومصطلحات. تلك المكونات تكون في أشد صورها في ممارسات النخب السياسية والثقافية والدينية والمجتمعية، فاعتبر التطبيع الثقافي والسياسي من أبرز تجليات سيطرة وهيمنة ثقافة الغالب على المغلوب في مفردات الحياة، بحيث تقوم العلاقة بينهما على أساس تبعية وتقليد وإذعان المغلوب للمنتصر، وما يتبع ذلك من سلسلة انكسارات متتالية.

جاءت اتفاقية أوسلو بمجموعة من الملحقات السياسية والأمنية وفرضت وقائع جديدة تتماشى مع طبيعة بنودها الانهزامية المذلة للطرف الفلسطيني، صاحب الحق في الأرض والتاريخ. ومن جملة ما فرضته الوقائع على الأرض ما رافق الاتفاقية من تفشي ثقافة الهزيمة والتي كانت من أهم مظاهرها:

الهزيمة السياسية: مثلت مرحلة ما بعد أوسلو بيئة شاعت فيها مصطلحات الهزيمة السياسية، ورأينا ذلك بوضوح ضمن الأوضاع التي أرستها حالة التنسيق الأمني والسياسي بين كيان الاحتلال وبين السلطة الفلسطينية، مما أشاع حالة من الانكسار الجمعي أمام إرادة الاحتلال في نقاط التفتيش العسكرية والمعابر والحدود وفي زيارات الأسرى الفلسطينيين. وتبدل الخطاب الثوري المتقد الذي يقدس الثورة إلى خطاب آخر تحرسه ثقافة التقديس السياسية للتنسيق الأمني والسياسي.

في مرحلة محمود عباس خرج علينا أكثر من مرة ليصرح بأن التنسيق الأمني مع الاحتلال مقدس، كذلك شاعت ظاهرة المجاملات السياسية بين القادة الفلسطينيين وقادة الاحتلال، مع التمهيد لذلك في سياق سياسي يشيع ضرورة ذلك ويخرج مثل هذه الظواهر من دوائر النبذ السياسي والمجتمعي والديني والوطني. فرأينا رئيس السلطة يعزي بوفاة قيادات إسرائيلية اقترفت جرائم حرب بحق الفلسطينيين، كذلك رأينا مصافحات ولقاءات حارة تجمع تلك القيادات مع بعضها البعض.

الهزيمة الثقافية: تشكل الهزيمة الثقافية ملامح عدة؛ من أهمها هزيمة المحتوى الثقافي في بيئات التعليم ومعاهد التربية والتنشئة، كذلك في أماكن العبادة وفي برامج التلفاز والإذاعة وفي الروايات والقصص والأغاني، فأصبحت هذه المكونات الثقافية كافة تحت رقابة السلطة التي تقوم بتفصيل المؤسسات التي يصدر عنها المحتوى الثقافي على قياس حالة التنسيق السياسي والأمني مع الاحتلال.

غزت تبعاً لذلك مصطلحات الهزيمة كتب الجغرافيا والتربية الوطنية التي بدأت تتعاطى مع تقسيمات الاحتلال الجغرافية على أنها الوضع الدائم، ففي كتب التربية الوطنية يتم الحديث عن المدن الفلسطينية التي تقع داخل الخط الأخضر، ويتم إهمال الحديث عن المدن الفلسطينية المحتلة داخل الخط الأخضر، مما ساهم في حالة التقسيم المعنوي والجغرافي والثقافي بين أجزاء فلسطين التاريخية، وساهم في تعميق هذا الأمر رقابة المانحين على المناهج الفلسطينية التي لا تكف عن وضع مجموعات المحاذير على دوائر المعارف والمناهج كي لا تخالف الخطوط التي تتماشى مع واقع الاحتلال.

تبعاً لذلك الواقع تمت محاصرة مفردات الثورة والغضب الشعبي وإرادة التحرر بالكامل في المخيال الثقافي؛ الذي رسخ لديه استحالة إنهاء الاحتلال الاستعماري الذي يقوم على إحلال ثقافته أيضاً محل ثقافة أهل البلاد الأصليين.

رسخت الحالة الثقافية العامة تغول الصورة التي تشكل الاحتلال، وراحت خطب المساجد الجاهزة تهمل باقي جغرافية الوطن المحتل، كذلك تفشت مصطلحات الهزيمة التي ترددت بلا انقطاع مثل خيار حل الدولتين، الذي كان نتيجة شيوع ثقافة الهزيمة، والذي تمردت عليه دولة الاحتلال أساسا، وراحت تتمدد استيطانياً وجغرافياً وثقافياً على المكون الفلسطيني الأصيل لفلسطين التاريخية. ولم تتوقف مظاهر التمدد عند ذلك، بل طالت حتى تراث المطبخ الفلسطيني والزي الشعبي الذي سطت عليه مؤسسات الاحتلال وراحت تروجه على أنه جزء منها ومن تاريخها.

نتيجة ازدهار حقل المفاوضات والتفاوض شهدنا انطلاقة المؤلفات التي تخدم هذا المسار، وتعزز خيار المساومة، ورأينا ظاهرة انتشار الأدبيات التي تؤنسن الاحتلال وتعرض الرواية الإسرائيلية والعذابات الإنسانية للطرف الآخر، ومحاولة تصوير مستوطنيه على أنهم ضحية من وظفوهم وقودا لهذا الاحتلال الاستعماري؛ الذي يقوم على أساس ترويج الحق الديني واستغلال الدين اليهودي ونصوصه في ذلك، وبأن هنالك حاجة إنسانية للتعايش معهم وفق نظام الفصل العنصري الذي يمارسه الاحتلال وتعززه نصوصه التي يعتمد عليها في إدارة سياسة الدولة والدين.

نتيجة لذلك تراجع دور مؤسسات الثقافة الفلسطينية، وذلك بسبب غياب القدوة الثقافية والسياسية، وانتشار المؤلفات التي تولّد ثقافة الهزيمة، وتنظّر للمفاوضات والتمادي بالاستسلام لدولة الاحتلال التي تم تصويرها على أنها تتحكم بالعالم وأن داعميها يديرون العالم بأسره، فانتشرت ثقافة اللامبالاة في قطاعات واسعة، وتفشت حالة من عدم الانتماء وأزمة الهوية لدى شرائح واسعة من الشباب الفلسطيني، نتيجة دخول خطاب الهزيمة للبيت والجامع والمدرسة والجامعة، وأصبحت الحياة بمعناها المادي الذي أشاعته السلطة هو مطلب شبه جماعي.

رافق حالة الهزيمة الثقافية سجن المخلصين في سجون الفقر والحاجة والخوف وكبت المواهب، بسبب الاحتكام لقوانين الواسطة والمحسوبية وتوريث المناصب في القضاء والمؤسسة السياسية والديبلوماسية الفلسطينية وفي الشرطة والإعلام لصالح الطبقة السياسية المنتفعة التي أفرزتها أوسلو، وما رافق ذلك من هجرة الكفاءات والعقول التي شكلت بيئات الفساد والواسطة بيئة طاردة لها ولأحلامها الوطنية والعلمية.

الهزيمة الاجتماعية: انصرف الناس تبعاً لهذه الوقائع لثقافة الاستهلاك وثقافة السوق، وتبعت ذلك جملة من التغيرات على بنيوية المجتمع الفلسطيني الذي خسر بسبب وقائع الفساد السياسي درجة كبيرة من تماسكه، فأثرت عملية الانقسام السياسي والفصائلي وعملية إقصاء حركات وفصائل المقاومة التي تعتمد البعد الديني في مكونها؛ إلى فقدان الثقة بين المكونات المجتمعية، خاصة بفعل تفشي النشاط الأمني والمخابراتي لأجهزة السلطة في المؤسسات والأماكن التي كانت تشيع حالة التكافل الاجتماعي بين الناس، كالمساجد مثلاً.

أشاعت حالة الاعتقالات السياسية في صفوف حركات المقاومة الإسلامية وحالة الانقسام السياسي الداخلي التي رافقت تلك المظاهر؛ حالة من الانقسام المجتمعي، فبرزت طبقة اجتماعية تخص النخبة السلطوية وتنتفع من التسهيلات التي تقدمها، بالمقابل انتشرت طبقة مسحوقة من المواطنين الذين تم التضييق عليهم بالسجن أو الحصار بسبب نشاطهم المقاوم للاحتلال والمناهض لاتفاقيات التنسيق السياسي والأمني المذلة مع الاحتلال.

انتماء ما يزيد عن ثلاثين ألف مواطن فلسطيني لأجهزة الأمن والشرطة الفلسطينية التي ترتبط وظيفياً مع أدوار الاحتلال وفقاً لاتفاقية التنسيق الأمني التي أفرزتها أوسلو؛ خلق طبقة اجتماعية تخشى على زوال مصالحها ومصدر عملها في حال تفككت السلطة ومؤسساتها، فأسهمت تلك الطبقة بدورها في تعزيز ثقافة الهزيمة والتخديم على الاحتلال.

ساندت المنظومة الاجتماعية تلك المنظومات الانهزامية حين تبنت في مناسبات تقتضي المواجهة مع الفساد والاحتلال؛ مجموعة من الأمثال الشعبية التي تحث على الخضوع لتلك المنظومات مثل: المياة لا تطلع للأعالي، والعين لا تعلو على الحاجب، ولو كان لك عند الكلب حاجة قل له يا سيدي، وامش جنب الحيط، وغيرها من المقولات التي جملت ثقافة الانكسار أمام فساد السلطة والاحتلال، وألبستها لباس الشطارة والفهلوة المجتمعية والنباهة والتعقل والواقعية السياسية.

كل ما أرسته الثقافة المجتمعية التي تحتفل بكبار رجال السلطة الفاسدين من حملة بطاقات "في آي بي"، ساهمت في الترويج لخطاب الهزيمة في المجتمع، وساهمت في تقبلهم وتقبل سطوة الاحتلال لوقت طويل، كذلك ساهمت في تطبيع النظرة لهم على أنهم إفراز طبيعي لظاهرة التنسيق السياسي والاقتصادي والأمني مع كيان الاحتلال، حتى بدت خطابات النخب السياسية والأمنية والاقتصادية التي تنسق مع الاحتلال وكأنها مقبولة مجتمعياً ولا ينضوي تحت بند الخيانة الوطنية والدينية والمجتمعية.

الهزيمة النفسية: عند رؤية قوافل بشرية ومركبات تقف على حاجز عسكري يشغله مجندان إسرائيليان، ويستمر الانتظار لساعات طويلة قد تصل لنصف نهار أو أكثر دون التظاهر والغضب العارمين. وهذا ما حصل ويتكرر، فهذا جزء من ثقافة الهزيمة النفسية التي ألحقتها أوسلو بالفلسطينيين، فجعلت نقاط التفتيش العسكري المذلة والمهينة جزءا من حياة الفلسطينيين اليومية. ليس هذا فحسب، وإنما أعطت من البذاءة السياسية والوطنية والإنسانية لحملة بطاقات "في آي بي"، حيث حق تجاوز تلك النقاط المذلة بثوانِ معدودة متجاوزين مئات المواطنين الذين يخضعون لذلك الإجراء، في مشهد يعكس وينذر بوجود طبقة سياسية خلقت لنفسها ظروفا مختلفة عن باقي الشعب بسبب تنازلاتها اللا نهائية أمام الاحتلال.

كما شكلت النظرة المناطقية والطبقية جزءا من الهزيمة النفسية التي ألحقت بالفلسطيني جراء اتفاقية السلام، فشاهدنا كيف تدير السلطة قضايا البلاد بطريقة فيها تمييز مناطقي، وكيف اشتركت السلطة الفلسطينية بالحصار الاقتصادي على جزء فلسطيني وهو قطاع غزة، كما رأينا مشاريع السلام الاقتصادي التي تتعامل مع الاحتلال على أنه دائم.

دخلت ثقافة الهزيمة مفاصل الحياة المختلفة، ولم يكن الأمر عفوياً بل كان يتبع خطة ممنهجة من قبل الاحتلال والدول المانحة، كذلك من قبل الدول العربية التي شكلت الكيانات الحاكمة فيها أهم مظاهر الهزيمة وثقافتها، حيث أشاعت في المجتمعات نفس الثقافة الأمنية والسياسية القائمة على الهزيمة أمام الاحتلال، مع عدم إمكانية إلحاق أي هزيمة به، فجنح عدد من الدول العربية لمهادنة الاحتلال عبر عمليات التطبيع ولاحقاً التحالف الوجودي، كما نشهد بين الإمارات وكيان الاحتلال.

كل عمليات التطبيع وما رافقها من خطاب سياسي انهزامي أمام الاحتلال كان نتيجة سنوات طويلة من إشاعة حالة الضعف والانحناء أمام تغول مشاريع الاحتلال في المنطقة، فما كان يعد بمثابة فضيحة أخلاقية ووطنية وسياسية وإنسانية عند التعامل مع كيان الاحتلال قبل أوسلو لم يعد كذلك بعده، وأصبحت الخيانات المتتالية للقضية الفلسطينية وجهات نظر سياسية لها منظرون وجيش إعلامي يخدم محتواها التضليلي.

ثقافة الهزيمة هي أصل محنة العربي، حيث أصبح نتيجة لواقع الاستبداد والاحتلال يتلقى ما يفرزه الغالب من مصطلحات ومفاهيم ووقائع بحكم حالة التفوق والاستعلاء التي تمثلها كيانات الاستبداد والاحتلال من نواحي المال والهيمنة العسكرية، والتي خضعت لها النخب الثقافية والاقتصادية والدينية والسياسية المحلية كجزء من الواقعية السياسية، أو العقلانية الفكرية، فعملت تلك النخب التي أشاعت ذلك الخطاب بالوكالة عن الاستبداد والاحتلال؛ في تجميل الهزيمة وتطبيع مشاعر الانهزام والاستسلام.

وأخطر ما في شيوع ثقافة الهزيمة هو التداول لنصوصها سياسياً وفكرياً وثقافياً، مما يطبعها في الضمير الجمعي وتصبح جزءا من الواقع أو ربما جزءا من الثقافة الوطنية، وهذا ما يترجم إلى إطالة عمر واقع الاستبداد والاحتلال.

إن واقع الناس تحت الظلم والاستبداد والاحتلال يقتضي مفردات تعليمية واجتماعية وثقافية مختلفة، وشهدنا كيف أن هنالك تحولا في الخطاب وتراجع في ثقافة الهزيمة، وتمت وهزيمتها شر هزيمة في المواجهة الأخيرة بين كيان الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة ضمن عملية سيف القدس، حيث شهدت الجماهير على إخضاع كيان الاحتلال لأوامر المقاومة، وكيف تم القضاء على صورة الجيش الذي لا يهزم، تلك الصورة التي اجتهدت ثقافة الهزيمة في نشرها لجيش الاحتلال، الذي أبدى حالة من التراجع والتخبط والرعب في صفوفه من ضربات المقاومة.

لا شك أن محاولات الإنقاذ الإسعافية التي تحاول أجهزة السلطة الأمنية ضخها في ثقافة الهزيمة، عبر تخويف الناس والعودة للاعتقالات السياسية في صفوف المقاومين وحركات المقاومة، هو أمر منسلخ عن هزيمة ثقافة الهزبمة مجتمعياً وعلى أرض الواقع، وعلى مستوى الوعي والضمير الجمعي، وأن الخطابات التي كانت تبدو عادية وجزءا من الواقعية السياسية ما هي الآن سوى حالة من النشاز عن الواقع العام الذي يسعى بكل مكوناته لنفض ميراث الهزيمة، عبر عمليات كسر إرادة الاحتلال وكسر خططه ومشاريعه التوسعية.

تساند بعض النخب الثقافية والدينية والإعلامية أيضا عمليات الإنقاذ الإسعافية تلك لثقافة الهزيمة، وتحاول إفراغ إنجاز هزيمة ثقافة الهزيمة الذي رسخته المقاومة الفلسطينية؛ من محتواه الإنساني والحضاري والوطني والتحرري، وذلك عن طريق أدوات مختلفة؛ أهمها التشكيك بدوافع المقاومة الفلسطينية والهجوم عليها كما لو أنها جزء من مؤامرة الاحتلال على الشعب الفلسطيني. وتلك المحاولات هي ضمن ميراث ثقافة الهزيمة والعقل المهزوم الذي لا يستطيع استيعاب أن كيان الاحتلال قابل للهزيمة، هو ودعايته ومكوناته الزائفة.

الروح الجماعية التي أشاعتها مواجهة الاحتلال من شعور بكسر الصورة المتوهمة عنه وعن قوته؛ ليست ملهمة فقط للشعب الفلسطيني في الداخل المحتل والشتات، وإنما تشكل حالة إلهام للشعوب العربية التي تقارع الاستبداد، والتي تعرضت مشاريعها التحررية من الاستبداد لهجوم الثورات المضادة، تلك الشعوب التي شاهدت المقاومة المتركزة في منطقة جغرافية ضيقة ومحاصرة منذ ما يزيد عن 15 عاما تواجه وتكسر إرادة الاحتلال.. تشكل لديها الإلهام أيضا بإمكانية كسر إرادة الاستبداد، وأن هزيمة كيانات الاستبداد الحليفة للاحتلال أمر ممكن وأمر واقعي في حال اجتمعت الإرادة مع مقارعة ثقافة الهزيمة.