المتابع للمقاومة
الفلسطينية بألوانها المتنوعة، والصمود والثبات البطولي في ظل القصف الغاشم جوا وبحرا، والحصار الآثم برا وبحرا وجوا رغم المعاناة اليومية في كل شيء (الغذاء والكساء والدواء والإيواء والأمن وغير ذلك كثير)، يرى أن كل هذا مقصود ومتعمد ليكفر شعب غزة بحماس والمقاومة والأرض والمقدسات، ويسعى لحقه في الحياة، أليست الحياة حقا؟! نعم هي حق وشرع ودين، ولكن أي حياة يقصدون؟!
هنا يكون الطرح: لماذا يصمد شعب فلسطين في غزة وأخواتها من مدن فلسطين المحتلة ولسنوات طوال، ولم تصمد شعوب أخرى ولفترة أقل لإنجاح ثورتها والحفاظ على مسارها الديمقراطي؛ أمل الملايين وأهم مكتسبات الثورات؟!
صمود الشعوب الأخرى ما كان بحاجة إلى صدام مع سلطة ولا نظام، بل ولا قطاعات شعبية أخرى، لكنه صمود في تحمل بعض قسوة المعيشة ونقص بعض الخدمات، خاصة وأن الشعوب عاشت عقودا وما زالت تعيش ظروفا معيشية وحقوقية وقانونية وإنسانية بشعة، نعم بشعة بمعنى الكلمة، فهل السكوت مع القمع أولى من الصمود مع الحرية؟!
سؤال يحتاج إلى دراسة علمية هادئة متعمقة لوضع النقاط على الحروف لتكتمل الكلمات وتنضج المواقف وترتقي الممارسات، وتتضح الرؤى ويدقق السير والخطوات، حتى لا نظل في متاهة الإهدار والتكرار وإعادة التدوير دون تقدم ولا تغيير.
هناك عوامل عدة مؤثرة وفاعلة، منها:
أولا: طبيعة الخصم (المحتل الغاصب والمستبد الفاسد): ما زالت إشكالية فك الارتباط في رؤية الخصم تلعب دورا كبيرا في تقدير المواقف واتخاذ القرارات. فما زالت المساحات والفجوات تؤثر في نظرة الشعوب إلى المحتل الغاصب؛ الذي يُرى من خلال نظارة الفكر والمعتقد والوطنية واللغة، وغير ذلك من مكونات الثقافة الرافضة رفضا مطلقا للمحتل الأجنبي. أما في حالة المستبد الفاسد فالنظرة تختلف وبقوة، رغم أن خسائر وتداعيات
الاستبداد والفساد أكثر دمارا للحقوق والثروات من حالة بعض نماذج
الاحتلال، لدرجة أن المحتل ومنذ عقود غادر البلاد تاركا وكلاءه يعيثون في البلاد والعباد قهرا وفسادا بصورة ما كان له أن يستطيع فعلها، على مستوى الحياة والحقوق والممتلكات والثروات والسيادة والهوية والدين.
ثانيا: طبيعة الشعب، والذي هو نتاج مؤسسات البناء والتربية في البيت والمدرسة والمسجد والكنيسة والإعلام، وغير ذلك من روافد التربية والبناء. مؤسسات البناء في أغلب دول المنطقة تعمل وكأنها كيانات تابعة لنظام الحكم بل إلى شخص الحاكم، حيث تراقب من الأجهزة الأمنية المخابراتية ويتصدر قيادتها من هم أصحاب الولاء والوفاء، وبالتالي تكون منظومة البناء من المناهج والنشاطات والشعارات كلها تصب في مربع واحد، هو مربع الطاعة والاستكانة والتبعية للحاكم ومنظومته، وتخوين وتحريم الخروج عليه والعمل على تغييره وإزاحته.
ثالثا: مستوى الوعي، وهي نقطة مفصلية إذ أنها عمود خيمة كل المشروعات الفكرية والحركات التغييرية، الإصلاحية والتحررية، التي ترتكز على مستوى الوعي وعدم السقوط في بحور الشائعات والأباطيل التي تضيع الحقائق وتزيد من الأوهام والأكاذيب.
لا شك في أن الوعي يرتبط بمستوى التعليم وطريقة الفهم والتفكير، وهما نتاج التربية والتعليم، فعندما يتراجع مستوى التعليم فتأكد أن مستوى التفكير والأفهام يبتعد عن العلمية ويسبح في بحور الجهل والأوهام. وهي نقطة تحد لنخبة الإصلاح والتغيير، والتي هي أيضا نتاج مؤسسات التعليم والتطوير، وهذا تحد جديد مضاف. (لاحظ أن التصنيف الدولي للتعليم في غزة المحاصرة، شحيحة الموارد والإمكانات، يسبق التعليم في كثير من دول المنطقة منها مصر الفن والعلم والحضارة).
وهذا فضلا عن نقاط أخرى تتعلق بطبيعة النخبة المعارضة ومدى قدرتها على امتلاك أدوات إعادة التوازن لمعادلة الصراع، من وفرة المعلومات وكفاية الكفاءات وتمدد العلاقات وتماسك التحالفات، وأخيراً أيقونة التغيير التي توحد ولا تفرق.