يوم الاثنين الماضي (26 نيسان/ أبريل) وقف النائب
المصري مصطفى بكري تحت قبة البرلمان ملوحا بأوراق في يده زاعما أنها تضم أسماء 162 موظفا إخوانيا في هيئة السكك الحديدية المصرية، وفقا لتصنيف جهاز الأمن الوطني، سرعان ما رفعها إلى 252 اسما، بينهم سائقو قطارات ممن شاركوا في اعتصام رابعة. جرى ذلك المشهد العبثي بحضور وزير النقل المقرب جدا من السيسي ورئيس الهيئة الهندسية العسكرية السابق، الفريق كامل الوزير، والذي يبحث عن أي شماعة ليعلق عليها الحوادث المتكررة للقطارات في الفترة الأخيرة، وها هو مصطفى بكري يقدم له طوق النجاه!! بغض النظر عما تعرضت له تلك الأسماء من ظلم بفصلها من عملها وملاحقتها أمنيا تاليا بتهم ملفقة.
قبل 71 عاما وتحديدا في العام 1950 - وفي ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والخوف من المد الشيوعي الذي احتل نصف أوروبا وامتد إلى أقطار آسيا - وقف نائب أمريكي متطرف أيضا يدعى جوزيف مكارثي في احتفال سنوي بولاية ويست فرجينيا لتخليد ذكرى الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن، زاعما أن وزارة الخارجية أصبحت مليئة بأعضاء الحزب الشيوعي وجواسيس روسيا، ولوح بأوراق بيديه زاعما أنها قائمة بـ205 من الشيوعيين والجواسيس في تلك الوزارة، وأن هناك 57 آخرين أعضاء في الحزب الشيوعي الأمريكي!!
الخوف من الشيوعية في ذلك الوقت يعادل الخوف من
الإخوان في مصر حاليا (وهو وصف يتسع لكل معارض مهما كانت خلفيته حتى لو يسارية أو ليبرالية)، وما جرى مع كل من يشتبه في انتمائه أو تعاطفه مع الشيوعية في أمريكا (فصل من العمل- مصادرة أموال- ملاحقة أمنية- قوائم إرهاب) حدث أكثر منه في مصر منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 وحتى الآن.
كان الحزب الديمقراطي هو الضحية الأكبر لتلك
المكارثية التي انتشرت كما النار في الهشيم، حيث تم التشكيك في أعضاء بارزين في الحزب مثل دين أكسون وجورج مارشال، وطالت الاتهامات وزير الدفاع روبرت ستيفنز، بل شملت قائمة الضحايا المناضل مارتن لوثر كينغ والعالم آينشتاين، ونجوم السينما والمسرح مثل شارلي شابلن وآرثر ميلر، ودالتون ترامبو. وتم نشر "قوائم سوداء" لكل المشتبه بهم، وهو ما تكرر حرفيا مع جماعة الإخوان المسلمين وحزبها الحرية والعدالة، ووزرائه ومنتسبيه، ولا ننسى بطبيعة الحال قوائم الإرهاب التي أصدرتها السلطات المصرية وضمت حوالي سبعة آلاف معارض مصري.
خلال شهر رمضان الجاري بثت القنوات المصرية عدة مسلسلات درامية، استهدفت بالأساس تزييف الواقع الذي عاشه المصريون سواء قبل أو بعد الانقلاب العسكري، والمذابح الكبرى التي شهدتها مصر (خاصة رابعة والنهضة ورمسيس)، وتجديد أحزان أسر ضحايا تلك المذابح من ناحية وأسر ضحايا الإرهاب الأسود من ناحية أخرى. والنتيجة لكل ذلك هي توسيع الانقسام، والشرخ المجتمعي الذي أحدثته سلطة الانقلاب منذ أيامها الأولى، حين قسمت المصريين إلى شعبين "أنتم شعب ونحن شعب". وقد أشعلت هذه المسلسلات وما صاحبتها من حوارات عبر وسائل الإعلام التقليدي وصفحات التواصل الاجتماعي نار المكارثية؛ التي كانت قد خفت حدتها خلال الأعوام القليلة الماضية بفضل جهود الكثير من العقلاء.
هذه الأجواء المشحونة بالكراهية والرغبة في الانتقام التي صنعتها السلطة مجددا عبر أعمال درامية، تبعتها بإجراء عملي وهو تنفيذ الإعدام بحق عدد من المواطنين اتهمتهم بالعدوان على قسم شرطة كرداسة وقتل بعض رجال الشرطة يوم فض اعتصام رابعة، وكان ممن تم إعدامهم في شهر رمضان شيوخ طاعنون في السن قدم محاموهم أثناء المحاكمة عدة شهادات موثقة في مكاتب التوثيق الرسمية تفيد بعدم وجودهم في مسرح الأحداث، ومع ذلك تم تأييد الحكم بإعدامهم وتم التنفيذ، وهو ما تسبب في تأجيج حالة الغضب لدى كل من يعرفهم أو تابع قضيتهم.
ومساء الجمعة الماضي تعرضت كنيسة قبطية بالجيزة ومجمع خدمات تابع لها لحريق كبير أجهز على عدة طوابق دون وقوع أضرار بشرية، ورغم أن التحقيقات لا تزال جارية لمعرفة السبب الحقيقي والذي رجحت المعاينة الأولية أنه ماس كهربائي، إلا أن النفوس المشحونة غضبا بعد المسلسلات الرمضانية لم تنتظر نتيجة التحقيق، فالبعض اتهم الأجهزة الأمنية بافتعال الحريق لتأجيج نار الغضب وتزكية الانقسام المجتمعي، والبعض وجه أصابع الاتهام إلى الإخوان، وعبر تعليقات السوشيال ميديا ظهرت دعوات من مسيحيين غاضبين للانتقام لكنيستهم.
هذه الأجواء المشحونة بالغضب والرغبات المتبادلة للانتقام تنعكس بشكل مباشر على جلسات المحاكمات التي تتم لمتهمين وردت أسماؤهم الحقيقية في الأعمال الدرامية التي أنتجتها وبثتها السلطة مؤخرا، وكثيرون منهم لا يزالون في مراحل التقاضي، وبالتالي فإن لنا أن نتوقع أحكاما مشددة تستند لهذا الاحتقان والانقسام المجتمعي ولا تستند بالضرورة إلى مبررات موضوعية. ولا نستبعد في هذا الإطار صدور المزيد من أحكام الإعدام، كما لا نستبعد أن تظهر صور
الإعدامات الأخيرة في نهاية مسلسل "الاختيار 2"، على غرار صورة إعدام ضابط الصاعقة السابق هشام عشماوي في نهاية مسلسل "الاختيار 1" العام الماضي!!
داخل المنظومة القضائية هناك عدة دوائر خاصة بقضايا الإرهاب، يتبنى قضاتها مواقف مسبقة من المتهمين، ويتنافسون على إصدار أحكام مغلظة ضدهم بعد محاكمات عبثية لا تتوفر لها أدنى شروط العدالة، ونتذكر في هذا السياق أن أحدهم أصدر حكما بالإعدام ضد أكثر من ألف مواطن في جلستين دون قراءة أوراق القضية، قبل أن يتم نقض القضية لاحقا وتخفيض أحكامها.
ما يحدث في تحقيقات الأمن الوطني ونيابات ومحاكم أمن الدولة، ودوائر الإرهاب، والقضاة المشهورين فيها مثل ناجي شحاتة ومحمد شيرين فهمي، وشعبان الشامي.. هو صورة طبق الأصل من تحقيقات ومحاكمات مكارثي وروي كوهين الملقب بـ"صائد الجواسيس الحمر" أي الشيوعيين. وما يفعله الأمن الوطني في مصر حاليا يماثل ما فعلته المباحث الفيدرالية الأمريكية في تلك الهجمة المكارثية، ويتشابه معها في فبركة الوثائق والاتهامات وتسريبها للصحف ووسائل الإعلام ضد الكثيرين، وبموجب تلك الوشايات والتحقيقات تم الزج بالمئات في السجون الأمريكية، كما طرد أكثر من 10 آلاف أمريكي من وظائفهم، وتمت ملاحقتهم بتهم ملفقة، وأضعاف هذا العدد في مصر رغم أنها أقل سكانا.
وقد أرسل مكارثي وفدا إلى الدول الأوروبية لوضع الكتاب اليساريين في قائمة سوداء أوروبية، وأرسلت السلطات المصرية طلبات مماثلة، وأجبر مكارثي وزارة الخارجية الأمريكية على منع دخول كتب 400 كاتب وصحفي وأستاذ جامعي أوروبي، وفعلت مصر ما هو أكثر مع عشرات الكتاب والمؤلفين. وكان مكارثي ورفاقه يتهمون أي معارض لطريقتهم بالخيانة فورا كما يحدث في مصر حاليا.
والغريب أن المكارثية كانت تحظى بشعبية كبيرة في تلك الفترة قبل أن يفيق الأمريكيون على نتائجها الكارثية، بعد أن تصدى بعض المثقفين الشجعان لها والذين كان بعضهم من ضحاياها، مثل الإعلامي إدوارد مارو والأديب آرثر ميلر وزملائهما. وأسفرت جهودهم عن إنهاء المكارثية ومحاسبة زعيمها داخل الكونجرس نفسه، وتمت إدانة مكارثي وروي كوهين بتهم الفساد والتزوير، ومات مكارثي بسبب الإدمان. أما المكارثية في مصر فهي تنشط من جديد، ورجالها هم سادة المشهد، وحتما سيلقون مصير مكارثي ورفاقه.
twitter.com/kotbelaraby