في حديث دار بين إدوارد سعيد وجاكلين روز خلال أمسية عامة، قال: "إن
الكتابة تصبح مكانا للعيش للإنسان الذي لم يعد لديه وطن". إن الأمل العظيم للمثقف ليس أن يترك أثرا على العالم، لكن أن يكون قادرا على استدعاء شخص ما، في يوم ما، في مكان ما، للذي كتبه، كما كتبه هو تحديدا. وقد قال سعيد في كتابه "بدايات" إن السؤال الأول هو "لماذا الكتابة؟ إنها اختيار اتخذ عبر الرغبة في أن نتكلم، أن نومئ، أن نرقص". مع أنه أجاب نفسه حينها في تمتمة، أنه لا يرقص.
لقد كان السؤال هنا ليس عما يكتب عنه وسبب اختياره المواضيع، بل عما يفعله المتابع له، لماذا يكتب كما يعتقد؟ ليجيب أنه في أحيان كثيرة يكتب لأنه يجد المتعة في الكتابة، ثمة شيء مباشر بصددها يمنحه حسا بيولوجيا بأنه يدخل إلى العالم. إن متعة وضع القلم بالحبر الأسود على الورقة، هو أسلوب لتجريب
الفكر، والتعبير عن الأفكار ومحاولة الوصول إلى الناس الذين لا نستطيع الوصول إليهم بطريقة أخرى. وبشكل أكيد، إنها رفض للصمت الذي يخبره معظمنا كمواطنين عاديين ليس في استطاعتهم إحداث أي تغيير في المجتمع السياسي الاقتصادي الذي تحركه قوى أكبر منا كأفراد.
وإضافة إلى ذلك زاد سعيد أنه يعتقد أن الكتابة تنطوي على تعبير ما، وليس على استسلام على وجه التحديد؛ لأن المثقف يأمل أن يقرأ كلماته شخص ما، يوما ما، كما قال تيودور أدورنو في وقت شعر فيه بعظم سوء الأمور على الفلسطينيين، لأنه أن نبدو خدما في مسيرة التاريخ هو أمر لا يرضاه (عن نفسه). لذلك شعر أن أقل القليل الذي يستطيع فعله هو أن يدلي بشهادته، أن يصبح شاهدا على التاريخ، وأن يصححه. وفي النهاية قد يكون هذا من أكثر الأمور تحديا: محاولة تصحيحه، أن يجد الكاتب الكلمات التي تناسب الموقف، والتي لن تتغير بتغير الموقف، والتي تسجل، على الأقل استجابة للحظة معينة قد تمر وتختفي.
لا بد أن الكتابة متنوعة، فهي تعتمد على المناسبة، وعلى موضوع الكتابة، وعلى من نكتب له. فهناك أنواع من الكتابة مرتبطة بمناسبة ما، ومرهونة بتوقيت محدد، وهناك أنواع أخرى أكثر تأملا وتتطلب وقتا أطول، لكن الخوف الحقيقي الأعظم لأي كاتب هو أن يكرر نفسه؛ لأن الإنسان في نهاية المطاف ليس سوى مخزون من الأفكار والتعبيرات.
على الكاتب أن يجد النغمة المناسبة لكل موضوع، وهذا صعب جدا.. أن يتمكن من أن يكون مختلفا بالنسبة لقارئه، أن يحدث الدهشة، وأن يثير التساؤلات، ويزرع الشك، ويلهم الأفكار، وألا يدع الناس يعتقدون أنه لا يوجد ما لا يمكن فعله. فعلى الأقل يمكن للكاتب أن يحفز القارئ بكتاباته، وأن يشركه في سيرورة يستطيع الإسهام فيها. والمعركة الكبرى هي مواجهة القوة بخطاب الحق ومزج الإرادة الأخلاقية بفهم الشواهد، والإتيان بالعقل النقدي إلى ساحة السياسة. فنحن نحتاج لأن نكون "أوعية متلقية منفتحة لكي يصبح بإمكاننا استيعاب قدر البحر نفسه"، وهذا ما يمكن تسميته بسيولة الكتابة الحداثية. تتيح الكتابة نظرا لصلتها الفريدة بالتاريخ؛ تركيبا للتوترات المادية واللامادية بين الفهم التاريخي والتحول المعاصر، وبين الفعل الفردي والعصيان الجماعي، والوضع القائم السياسي، والثورة.
إن أكثر إسهامات سعيد عمقا في الفكر المعاصر، هي أنه بذل غاية الجهد حتى نجح في البرهان على أنه لا يمكن فقط تطبيق آليات الإدراك
الأدبي ذات المفاهيم على مجالات إنتاجات ثقافية أخرى، لكن لها أهميتها السياسية، واقتصادها السياسي. ويقترح سعيد في هذا السياق، نموذجا مفاهيميا يتضمن التفكير بلغة سياسية ولكن بأسلوب تنظيري. ويشتمل الأسلوب التنظيري التفكير الأدبي، ويستمد حافزه منه. فقد كان التفكير الأدبي منذ اختراع الكتابة مركزيا في تشكيل الهيمنات السياسية، وكشف الموروثات البشرية، وفي الاستمرارية التاريخية التي تمدنا بهذه الموروثات. وفي النهاية، إن الربط بين نظريات الإنتاج الأدبي واللغوي وتحليل المصالح السياسية هو الذي يقودنا إلى الفهم الحقيقي المفترض للتاريخ.
إن تحميل تعبير "الأدب" ذلك العبء الذي جعله مؤسساتيا في زمن الحداثة، في أشكالها القومية، كالأدب الفرنسي، والأدب الإسباني.. إلخ، يمثل مسمار عجلة الهيمنة الثقافية منذ بداية التاريخ الأدبي في نهاية القرن الثامن عشر. وإن الثقافة الأدبية والفهم الأدبي يلعبان دورا أيديولوجيا مهما في تكوين الوعي الجمعي. لكن مكانة الأدب في الإنتاج الكلي للثقافة قد تعرضت لتغير جذري، وقد لحق الإنتاج الجماهيري الضخم، الذي ميز الانتشار الأدبي منذ التوسع في تقنيات الطباعة، بمجالات الثقافة المادية الأخرى، مثل الرسم والتصوير والأفلام والتلفزيون والراديو والبرمجيات والإنترنت وأخيرا وسائل التواصل الاجتماعي.
وبمعنى آخر، فإن الأدب والموروث الأدبي لم يعودا يهيمنان منفردين على الإنتاج الثقافي، كما أدت القوة الاقتصادية للسلع الثقافية إلى ارتباك أوضاع الأدب والإنسانية المنضبطة. وهكذا أصبحت الكتابة بعد أن نزعت عنها ادعاءاتها الأدبية الفخمة؛ تحتل مكانا أكثر تواضعا إلى جانب قطاعات الثقافة الأخرى، وهذا نتيجة تغير سياسي اقتصادي.
ومع هذا فإن الكتابة أو الأدب بمعناه العريض، ونظرا لصلتهما الفريدة بالتاريخ، يتيحان تركيبا للتوترات المادية واللامادية بين الفهم التاريخي والتحول المعاصر، وبين الفعل الفردي، والعصيان الجماعي، والوضع السياسي القائم، والثورة. أما الوسائل الأخرى فهي تؤثر لتسجيل ترسبات الفكر والفعل البشري - كوسائل تمتد عبر السلسلة الكاملة للوسائط الإعلامية في القرنين العشرين والواحد والعشرين - على نفس المحاور التي تؤثر بها الكتابة لتصبح كتابة مثيلة.
وهكذا يصبح التحول من الكتابة الأصلية إلى الكتابة المثيلة دليلا على تحول الأصالة بحد ذاتها وذوبانها، هذا الذوبان الذي بات الآن سمةً للعبة جديدة. أما مسؤولية الكاتب فهي التحكم بهذه اللعبة التي تترك له أولها حرية الخيار تماماً في ما يتعلق بأمور من أمثال نقطة البدء والمركز، الذي تتمحور عليه الكتابة، وهكذا دواليك. ورغم ذلك فإن مسؤوليات الكاتب هذه ليست أفكاراً مجردةً أو ضمنيةً يكدسها ناقد ما فوق اللغة، بل أفكارا جوهرية، مادية، للكتابة نفسها. والمقصود هنا الإحساس الفعلي بالبعد أو القرب من "الموضوع"، المنوط بالكتابة، والإحساس الذي تحسه الكتابة بأنها مادياً متساوية في الامتداد الزماني أو المكاني مع ما تقوله.