في مرحلة ما بعد عام 2000م بدأ نشاط حركة
حماس في المخيّمات والتّجمعات الفلسطينيّة في
سوريا، واستطاعت الحركة أن تحقّق حضوراً لافتاً وواسعاً في عموم المخيّمات الفلسطينيّة، وكان لهذا دورٌ كبيرٌ في التأثير النّاعم في المزاج العام في قضايا متعدّدة.
وفي الوقت نفسه انفتحت الحركة على المجتمع السّوريّ بشرائحه المختلفة لا سيما شريحة العلماء والدّعاة، لسببين مهمّين هما:
المرجعيّة الإسلاميّة للحركة التي ترى في العلماء والدّعاة حاضنةً دافئةً لها وامتداداً لوجودها داخل أيّ مجتمع، ومرتكزاً مهمّاً في دعم الحركة على الصّعد المختلفة. والسبب الثّاني يعود إلى كون قيادة الحركة المحتكة بالجماهير في تلكم الفترة جزءاً من شريحة العلماء؛ فقد كان رئيس العمل الشعبيّ في حركة حماس على مستوى سوريا هو الدّكتور نوّاف تكروري، وهو أحد مبعدي مرج الزّهور ويحمل شهادة الدّكتوراه في الشّريعة الإسلاميّة من جامعة دمشق.
كان الدّكتور التكروري على تواصل مستمر مع عموم علماء دمشق، بل سوريا في مختلف المحافظات، وكان من بين من يتواصل معهم في دمشق بطبيعة الحال الدّكتور
البوطي الذي كان يتعامل بحفاوة مع حركة حماس.
ومن الجدير ذكره في هذا الصّدد أنّ رئيس حركة حماس آنذاك الأستاذ خالد مشعل "أبو الوليد" الذي كان يتمتّع بحظوة كبيرة في الوسط السّوري على المستويين الرّسمي والشّعبي؛ كان حريصاً على زيارة العلماء في دمشق بشكل دوريّ لا سيما في الأعياد (عيد الفطر والأضحى)، كما كان يشاركهم في مناسباتهم الاجتماعيّة وخصوصاً مجالس التعزية. وكان هذا السّلوك يستقبل بحفاوة بالغة من شريحة العلماء والوسط المتديّن في المجتمع السّوريّ.
وفي أيّة جولةٍ لزيارة العلماء في دمشق كان يقوم بها أبو الوليد؛ لا بدّ أن تكون إحدى محطّاتها زيارة الدّكتور البوطي في منزله.
هذا التّواصل من قيادة حماس بالدّكتور البوطي شكّل موقفاً بالغ الإيجابيّة من الحركة كان يعبّر عنه الدّكتور البوطي في تلكم الزّيارات.
كان الدّكتور البوطي الذي يحمل موقفاً بالغ السلبيّة تجاه جماعة الإخوان المسلمين؛ يرى في حماس ذات الخلفيّة الإخوانيّة حالةً مختلفةً عن جماعة الإخوان المسلمين، فكانت عبارته التي يردّدها كلّما تحدّث عن حماس: "حماس غير الإخوان"
ومن جهةٍ أخرى، كان الدّكتور البوطي الذي يحمل موقفاً بالغ السلبيّة تجاه جماعة
الإخوان المسلمين؛ يرى في حماس ذات الخلفيّة الإخوانيّة حالةً مختلفةً عن جماعة الإخوان المسلمين، فكانت عبارته التي يردّدها كلّما تحدّث عن حماس: "حماس غير الإخوان". ولعلّه في هذا كان يحاول أن يوجد لنفسه مخرجاً مما قد يراه البعض ازدواجيّةً في الموقف بين انتقاده اللاذع دوماً للإخوان المسلمين وحفاوته بحماس الإخوانيّة، إضافةً إلى ما تختلف به حماس عن بقيّة التّنظيمات الإخوانيّة من مواجهتها المباشرة للصهاينة وخوضها معركةً مع المحتلّ الصّهيونيّ لم تكن تختلفُ عليها الآراء والمواقف.
وهذا انعكس بطبيعة الحال على المزاج العام للفلسطينيين في سوريا تجاه الدّكتور البوطي، فيمكننا القول إنّ معركة التّسعينات طويت إلا من بعض الأصوات التي لم يعد لها تأثيرٌ في الرأي العام الفلسطينيّ.
لكنّ اللافت للنّظر هو أنّ التفاعل المقابل من الدّكتور البوطي مع حركة حماس لم يكن بمستوى تفاعلها معه ولا بمستوى تفاعل بقيّة علماء دمشق معها؛ الذين كان يحرصون أيضاً على مشاركة قيادة حماس في مناسباتهم الاجتماعيّة، لا سيما مجالس العزاء التي لم يكن يحضرها أو يشارك فيها الدّكتور البوطي. وكان أوضح غياب له هو عدم مشاركته في مجلس العزاء الذي أقيم بمناسبة وفاة والد الأستاذ خالد مشعل وشاركت فيه عموم الشخصيات من العلماء الشرعيّين والسّياسيين في سوريا.
اللافت للنّظر هو أنّ التفاعل المقابل من الدّكتور البوطي مع حركة حماس لم يكن بمستوى تفاعلها معه ولا بمستوى تفاعل بقيّة علماء دمشق معها؛ الذين كان يحرصون أيضاً على مشاركة قيادة حماس في مناسباتهم الاجتماعيّة
ويمكن القول إنّ العلاقة بين الدّكتور البوطي وحركة حماس استمرّت إلى بداية اندلاع الثّورة في سورية في آذار/ مارس 2011م، حيث توقفت هذه العلاقة ولم يكن هناك أيّ تواصل بعدها إلى حين خروج حماس من سوريا عام 2012م أو بعد ذلك.
وعقب خروجها من سوريا تعرّضت حركة حماس إلى هجوم واسع من النّظام السّوري، إذ تهجّم بشّار الأسد عليها في أكثر من خطابٍ من خطاباته، وتعرّضت لحملاتٍ واسعةٍ في وسائل إعلام النّظام، كما هاجمها أركان مؤسسة النّظام الدّينيّة؛ كالمفتي أحمد حسون ووزير الأوقاف محمّد عبد الستّار السيّد.
أمّا الدّكتور البوطي فقد هاجم أيضاً حركة حماس تعريضاً دون أن يذكر اسمها، فقال - على سبيل المثال - في كلمته في مؤتمر "الأقصى صرخة في وجدان الأمة" الذي أعلن فيه عن تأسيس "اتّحاد علماء بلاد الشّام" في عام 2012م، معرّضاً بخروج قيادة حركة حماس من دمشق واستقرارها في قطر:
"بقيَ أنّ علينا أن نتساءَل عن موقف الأمّة الإسلاميّة المتمثّلة في قادتها وشعوبها تجاه الواجب الذي تقرره شريعة الله في مواجهة هذا الحقّ المغتصب.
الدّكتور البوطي فقد هاجم أيضاً حركة حماس تعريضاً دون أن يذكر اسمها، فقال - على سبيل المثال - في كلمته في مؤتمر "الأقصى صرخة في وجدان الأمة" الذي أعلن فيه عن تأسيس "اتّحاد علماء بلاد الشّام" في عام 2012م، معرّضاً بخروج قيادة حركة حماس من دمشق واستقرارها في قطر
ولقد علمنا الآن أنّ هذا الواجب ليس منوطاً بأهل إقليمٍ دون غيرهم، وليسَ منوطاً بالأمّة العربيّة خاصّةً دون سائر النّاس، وإنّما هو مسؤوليّة الأمّة الإسلاميّة جمعاء، متمثّلةً كما قلت لكم بقادتها وشعوبها، غيرَ أنّ من المؤسف والمؤلم أنّ الشّعور بهذه المسؤوليّة التي أناطها الله بأعناقنا جميعاً قد انحسر عن بال أكثر المسلمين، لا سيما أولئك الذين تفصلهم عن القدس ومأساتها وهادٌ وجبالٌ وآمال، ثمّ ازداد الشّعور بذلك تقلّصاً حتى كاد ينحصر في أفكار وأفئدة أصحاب النّكبة أنفسهم، أولئك الذين هُجّروا من ديارهم وحرموا من ممتلكاتهم دون أن يقف معهم على أرض المقاومة والمعاهدة على وحدة المصير إلّا جيرانٌ لهم عاهدوا الله على الوفاء، وعلى نصرة الشّقيق، حتّى وإن غدت الأرواح هي القيمة التي لابد من بذلها للوفاء واستحصال الحقّ.
ولقد كان في قضاء الله أن يكون هذا الجارُ الوفيّ هو سوريا، ثمّ إنّا نظرنا فوجدنا إخوةً لنا كانوا من أعزّ أصحاب الدّيار المغصوبة استقامةً على النّهج وتمسّكاً بالميثاق، وسيراً على صراط الله، قد أدركهم اليوم ما صرفهم عن النّهج وأنساهم خطورة الميثاق، فها هم أولاء وقد آثروا الدّعة، وركنوا إلى التّرف، يذكّروننا بقول الشّاعر العربيّ:
دعِ المكارمَ لا ترحل لبغيتِها واقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسي"
غير أنّ حركة حماس لم تلتفت إلى ذلك وقدّمت التعزية بالدّكتور البوطي في بيان رسمي أصدرته عقب حادثة اغتياله، جاء فيه:
"تتقدّم حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بالتعازي الخالصة إلى علماء سوريا وشعبها وعائلة البوطي لوفاة الدكتور الشيخ محمّد سعيد رمضان البوطي الذي وافته المنيّة إثر حادث تفجير آثم".
وأدانت الحركة في البيان حادثة الاغتيال وأشادت بمناقب الدّكتور البوطي:
"إنَّنا في حركة المقاومة الإسلامية "حماس" إذ ندين بشدّة الاعتداء البشع والإجرامي الذي تعرّض له مسجد الإيمان بحي المزرعة في العاصمة السّورية دمشق، لنسأل المولى سبحانه أن يحقن دماء الشعب السوري العزيز، وأن يتغمّد برحمته الواسعة الشّيخ البوطي الذي كانت له خدمات وإسهامات جليلة في العلم والمعرفة والشريعة والثقافة الإسلامية، وأن يلهم أهله ومحبّيه جميل الصبر والسلوان".
ولكن ما هي مواقف الدّكتور البوطي من قضيّة
فلسطين، وموقفه من اتفاقيات السّلام في كامب ديفيد وأوسلو وموجة التّطبيع؟ هذا ما سنتوقف معه - بإذن الله تعالى - في المقال القادم.
twitter.com/muhammadkhm