خلال مرحلة إدارة ترامب، توسّع دور تركيا العسكري في المنطقة بشكل ملحوظ لاسيما في أربعة فضاءات جيوسياسيّة مختلفة هي الشام (سوريا تحديداً)، شمال أفريقيا (ليبيا)، جنوب القوقاز (أذربيجان)، والخليج (قطر)، لم تكن تشكّل تقليدياً أولوية للجانب التركي في مرحلة ما قبل العدالة والتنمية. ارتبط هذا الدور بأزمات سياسية ـ عسكرية كبرى في هذه المناطق، وذلك بموازاة تزاحم أدوار فاعلين آخرين كالولايات المتّحدة، وروسيا، وإيران.
وفيما شكّل الفراغ الإقليمي المتعاظم والتهديد المتزايد لأمن ومصالح تركيا الحيوية دوافع لأنقرة للعب دور أكبر، مكّنها التطور السريع في قطاع الصناعات الدفاعية المحليّة من تلبية متطلّباتها وتنفيذ عملياتها بقدر أكبر من الاستقلالية وذلك بمعزل عن تحفّظات الآخرين وجهودهم لمنع أو تقويض هذا الدور.
لكن بالإضافة إلى هذا العامل، قلّما يلاحظ البعض أنّ ثلاثة من هذه الفضاءات الجيوسياسية كانت مسرحاً لنفوذ إيران المتعاظم منذ العام ٢٠٠٣، وأنّ سياسة "الضغط الأقصى" التي اتّبعها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ساعدت تركيا بشكل غير مباشر على التقدّم بشكل أكبر وأسرع في هذه المسارح بعد انحسار النفوذ الإيراني في الأعوام ٢٠١٩ و٢٠٢٠ مقارنة بذروة ما وصلت إليه طهران إقليمياً في عامي ٢٠١٥ و٢٠١٦.
مع فوز جو بايدن بالانتخابات الأمريكية مؤخراً، قامت العديد من الدول الإقليمية بإعادة التموضع بشكل يسمح لها بالتعامل مع التغييرات التي سيدخلها بايدن على سياسات الولايات المتّحدة في المنطقة. يعتقد البعض أنّ إدارة بايدن تكون نسخة ثالثة عن إدارة أوباما، ويجادل هؤلاء بأنّ بايدن سيتّبع سياسات مغايرة لترامب وأوباما معاً فيما يتعلق بالاتفاق النووي الإيراني مشيرين إلى بعض التصريحات والمواقف كدليل على هذا التوجّه.
مع فوز جو بايدن بالانتخابات الأمريكية مؤخراً، قامت العديد من الدول الإقليمية بإعادة التموضع بشكل يسمح لها بالتعامل مع التغييرات التي سيدخلها بايدن على سياسات الولايات المتّحدة في المنطقة.
لكن في حقيقة الأمر، وإذا ما استبعدنا الاستعراض الكلامي الجاري من قبل إدارة بايدن تجاه إيران وركّزنا على الخطوات العملية التي اتخذتها خلال الشهر الأول من تولي الرئيس الأمريكي للسلطة، سنلاحظ أنّه يسير على نفس خطى أوباما. إدارة بايدن قدّمت سلسلة من التنازلات المجانيّة حتى الآن لإيران أهمّها التصريح العلني عن نيّتها العودة إلى الاتفاق النووي وهو ما من شأنه أن يغلق الباب أمامها للمناورة.
علاوةً على ذلك، فقد رفعت الإدارة إسم ميليشيات الحوثي عن قائمة الإرهاب، وعيّنت شخصيات مقرّبة و/أو موالية لإيران في مواقع حسّاسة ومهمّة على رأسهم روبرت مالي، واستخدمت صيغة المجهول عند الحديث عن حزب الله والميليشيات الشيعية في العراق، ورفعت القيود التي فرضها ترامب على تحرّكات الدبلوماسيين الإيرانيين، وسحبت الإعلان السابق للعقوبات على إيران في مجلس الأمن، وأخيراً وليس آخراً أوعزت إلى الأوروبيين أن يطرحوا مبادرة للحوار مع إيران تكون واشنطن طرفاً فيها، ومن ثمّ وافقت هي عليها دون أن تستلم أي رد من الجانب الإيراني حتى كتابة هذه السطور.
إدارة بايدن قدّمت سلسلة من التنازلات المجانيّة حتى الآن لإيران أهمّها التصريح العلني عن نيّتها العودة إلى الاتفاق النووي وهو ما من شأنه أن يغلق الباب أمامها للمناورة.
ماذا كان رد الجانب الإيراني على التنازلات الأمريكية؟ التعنّت في الموقف، وتسريع البرنامج النووي، وخرق المزيد من مواد الاتفاق النووي، وتكثيف هجمات الميليشيات الحوثية ضد السعودية والتقدّم في اليمن، وقتل متعاقد أمريكي وجرح آخرين في العراق نتيجة هجمات الميليشيات الشيعية، الإيعاز إلى حزب الله بإرسال رسائل تهديد بفتح جبهة مع إسرائيل، والتهديد بالانسحاب من البروتوكول الإضافي.
إذا ما بقيت إدارة بايدن على نفس المسار، فسيصل الأمر بنا إلى نفس النتائج التي سادت إبان عهد أوباما خاصة إذا ما تم رفع العقوبات عن طهران وإعادة العمل بالاتفاق النووي، حيث من المتوقع أن يؤدي ذلك إلى إعطاء النظام الإيراني دفعة مهمّة على الصعيد الإقليمي. تدفق عائدات النفط ومليارات الدولارات تعني أنّ الحرس الثوري سيعيد تفعيل الميليشيات التابعة له بقوّة في سوريا والعراق وهو ما سيخلق تحدّياً لتركيا في البلدين.
الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في العراق بدأت بالفعل بالتحريض ضد تركيا، وبعضها هدد أنقرة على خلفية العمليات التي تشنّها ضد حزب العمّال الكردستاني ومارس ضغطاً على حكومة الكاظمي. ميليشيات أصحاب الكهف على سبيل المثال نشرت بعض مقاطع الفيديو التي تتضمن استخدامها لصواريخ إيرانية قالت إنّها أطلقتها على مواقع تركيا المتمركزة في شمال العراق.
أمّا في سوريا، فقد أكّدت إيران مؤخراً أنّها لن تنسحب من هناك، وموازاة ذلك بدأت من جديد تسريع عمليات التجنيد داخل البلاد بعد أن كانت قد تراجعت العام الماضي، وتواصل دعم نظام الأسد وتعزيز موقعها ودورها الداخلي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وهو ما سيهدّد من دون أدنى شك الوضع في إدلب مستقبلاً والدور التركي مجدداً.
علاوة على ذلك، فإن لم تستفد إيران من الترتيبات التي أعدّتها تركيا مع روسيا في أذربيجان، فسيكون لها رأي آخر خاصّة أنّها لن تكون مقيّدة أو مكبّلة سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً كما كان عليه الوضع إبّان الحرب الأخيرة عندما سارعت باكو بدعم من أنقرة إلى استغلال الفرصة لتحقيق نصر سريع على أرمينيا حليفة إيران دون أن تستطيع الأخيرة فعل شيء.
الخلاصة مفادها أنّه إذا ما استمر بايدن على نفس النهج في التعامل مع إيران، فمن المتوقع أن تصبح العلاقات التركية ـ الإيرانية أكثر سخونة خلال السنوات المقبلة لاسيما فيما يتعلق بالدور المرتقب في هذه الفضاءات الجيوسياسية.
الأمريكان والتباهي بما ليس فيهم
سرفال والباشق وبرخان وتاكوبا.. المهم ألا نغادر إفريقيا!