انطوى عام، ونحن اليوم نتفيأ ظلال عام جديد بعدما شهدنا وما زلنا نشهد ونتعايش مع جائحة كورونا التي لعبت دور مرآة في ثوب مجهر مكبر؛ فإذا بتلك المرآة ترسم صورا لحالات من الصدق والمكاشفة مع الذات من جهة، ومن جهة أخرى مع القريب والصديق والعدو والكيانات غير البشرية والبشرية المتعددة الأعراق والديانات. وحسبي أن أبوح بما عايشته لأجد أنني قد اقتربت مسافات من ذاتي، وربما أصبحت أكثر عمقا في فهمي وتحليلي ونقدي وتفكري في ذاتي ومن حولي؛ أفرادا وكيانات ممن يعيشون على هذا الكوكب.. يعهدون إلى السكون في ليله والمعاش في نهاره.
ولكن تلك الذات التي اقتربت منها قد تضاءلت شيئا فشيئا لتتجدد أمام مرآة ذاتها انهيار عقيدة الإنسان بذاته، وأن ما طوّع من أسباب لخدمة رسالته وأهدافه؛ إنما هي ملك حصري للمسبب الذي أوجد الأسباب. ومن هنا ترتسم صورة الإنسان الذي يطغى عندما يظن أنه يسيطر على الأسباب، مقابل صورة ذلك الإنسان الذي آمن وعمل الصالحات متبعا الأسباب ليبحث ويطور ويطوّع الأسباب مع غيره من بني الإنسان ليهزم عقيدة الأنا والذاتية.
ومن هنا يرتسم مشهد القول: "كلا إن جائحة كورونا لم تكن قسمة ضيزى!".
وضعت هذه المقدمة كي أتمكن من رسم مشهد صراع الأضداد الذي نعيشه في وقت شد وجذب في فاعلية إجراءات كينونات مؤسسات صنع القرار في عالمنا الإنساني بشكل عام، وفي عالمنا العربي والإسلامي بشكل خاص.
إن صراع الأضداد موجود منذ استعمر آدم عليه السلام وذريته الأرض. ألم يخبرنا القرآن الكريم أن أكثر الناس لا يؤمنون ولا يعلمون ولا يشكرون ولا يعقلون الأمثال ولا يفقهون؟ وأخبرنا أيضا أنه كان من القرون أولو بقية نهوا عن الفساد في الأرض إلا قليلا، ومن قال الشيطان إنه سيحتنكن ذريتهم إلا قليلا، أيضا أولئك الذين ولدوا وبين ظهرانيهم رسولهم؛ عندما جاءهم أمر من الأمن والخوف أذاعوا به، ولولا فضل الله عليهم لأتبعوا الشيطان إلا قليلا؟ وماذا فعل القوم من الرماة في معركة أحد؟ وماذا فعل جنود طالوت عندما أمرهم ألا يطعموا من النهر إلا بغرفة يد، فعصا أكثرهم، وبقيت تلك الفئة القليلة التي غلبت الفئة الكبيرة الظالمة التي تنتظرها على الجانب الآخر من النهر؟
نظرية مؤامرة عالمية لتخفيض عدد سكان هذا الكون والتحكم الاقتصادي بالدول النامية، وتصنيع هذا الفيروس وعدم تحوره وسلالته وطفراته الجينية إلا بشكل مصمم له.. إلخ.
وفي المقابل كان هناك من يعمل ويجتهد بحثيا وعلميا، ووصلت نتائج عملهم الدؤوب في تجاربهم المخبرية والإكلينيكية إلى لقاحات مختلفة
وها نحن نستمر في التعايش مع جائحة كورونا وقد انقسمت الإنسانية في تفاعلها بجميع مستوياتها -
العلمية والثقافية والاجتماعية وحتى في مراكز القيادة - إلى مدارس شتى لا تخفى على من يقرأ هذا المقال وغيره، من حيث نظرية مؤامرة عالمية لتخفيض عدد سكان هذا الكون والتحكم الاقتصادي بالدول النامية، وتصنيع هذا الفيروس وعدم تحوره وسلالته وطفراته الجينية إلا بشكل مصمم له.. إلخ.
وفي المقابل كان هناك من يعمل ويجتهد بحثيا وعلميا، ووصلت نتائج عملهم الدؤوب في تجاربهم المخبرية والإكلينيكية إلى لقاحات مختلفة المنهجيات ونسب الفاعلية.
وما زلنا نتعايش مع مدرسة ونقيضها، وربما مع مدارس ونقائضها، وفي نفس الوقت تزداد هذه التناقضات والشكوك مع ظهور تمحور لسلالات الفيروس مع بدء التطعيم عالميا بمختلف أنواع اللقاحات، وارتكاز أهداف القوى العظمى والمتحكمة في صنع القرار مع استمرار مناداة منظمة الصحة العالمية بعدم تسييس فيروس كورونا كما فعل الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته والرئيس البرازيلي، عدا قوى الجهل والتجهيل في عالمنا العربي متمثلة في مدارس الكفتة والملوخية واللبن والثوم وأخواتها، وفي نفس الوقت الذي يقضي فيه الآلاف يوميا؛ ليس بسبب هذا الفيروس مباشرة، بل من تداعيات مدارس الجهل والتجهيل أيضا، ودون الارتكاز إلى المقصد الأول في إتباع الشريعة الإنسانية السمحاء في حفظ النفس أولا، وهم يرون الضحايا يتساقطون ممن أصيبوا وممن يقومون على علاجهم.
وهنا تستحضرني الفلسفة الصينية والفكر التاوي على الأخص، والتي تنظر إلى الأقطاب المتنافرة (مثل أقطاب المغناطيس) ودورها في التوازن والتعاون، وليس في التصارع مثلما في فكر الفيلسوف الصيني لاو تسو، في أن الجميع يرى في الجميل جمالا لأن القبيح موجود والعكس كذلك، وأن القصير والطويل يوازن بعضهما بعضا، وأن العالي والمنخفض يسند بعضهما بعضا، وأن النفي ينشأ عن الإثبات والإثبات ينشأ عن النفي.
ولكن أين نحن من طبيعية فهمنا لوجود صراع الأضداد وأن هناك وحدة في الأضداد؛ فتساند بعضها بعضا ولا تهدم، بل لا تساهم في إهلاك النفس البشرية من خلال مدارس الجهل والتجهيل والعنجهية في العلم والإعلام الممنهج التسييس؟
أين نحن من طبيعية فهمنا لوجود صراع الأضداد وأن هناك وحدة في الأضداد؛ فتساند بعضها بعضا ولا تهدم، بل لا تساهم في إهلاك النفس البشرية من خلال مدارس الجهل والتجهيل والعنجهية في العلم والإعلام الممنهج التسييس؟
وهنا يحضرني الدور المناط في كينونات متخذي القرار على مستوى العالم؛ دولا ومنظمات ومؤسسات، ولا بد لنا من الإشارة إلى أن تفاعل الحكومات مع شعوبها قد اختلف حسب موروث شعوبها تربويا وثقافيا وديمقراطيا. ومهما كانت تلك الموروثات، فلا بد من القانون وإنفاذ القانون في اتباع إجراءات السلامة والحماية المجتمعية لعدم نشر عدوى هذا الفيروس.
ولكن هل كان هذا الدور الذي قامت به الحكومات في العالم عموما والعالم العربي على الأخص كافيا؟
وحتى نحاول الإجابة على هذا التساؤل نحتاج ورقة بحثية متكاملة، وليس مجرد مقال، ولكننا نختصر القول هنا بأن من مشاهداتنا لما يحصل، فإن الدول النامية تعاملت مع الجائحة آخذة شكلا أكثر شمولية في تعاملها مع صراع الأضداد، ليس من ناحية المدارس
الفكرية التآمرية، بل من الناحية البراغماتية.. ليس صراعا بين الأضداد، ولكن وحدة بين الأضداد من حيث حفظ النفس والطاقات الاستيعابية للمستشفيات وعجلة الاقتصاد والتعليم والمواصلات، وحتى مراعاة للنواحي العاطفية للناس مثلما طورت الحكومة البريطانية السابقة في عهد تريزا ماي وزارة "الوحدة" وعينت وزيرة لها، وقد استمر ذلك في حكومة جونسون الحالية وتطورت ميزانيتها للمكوث على الأعداد الغفيرة التي تعيش لوحدها من أفراد المجتمع. ولم تتدخل في الجوانب الروحية بقدر ما كانت وما زالت تثني على دور العبادة ودورها. ونحن نسجل هنا توثيقا من شرطة المجتمع في مدينة بريستول البريطانية، حيث الرسالة الرسمية التي وجهت للمراكز الإسلامية في دورها المميز في المواطنة والحفاظ على الأمن الصحي المجتمعي. لعمري هذا هو النتاج الطبيعي المناط لأمة تتبع دينها التي في صلب تعاليمه المحافظة على الأمن الصحي والمجتمعي ضمن مسؤوليتها الاجتماعية.
ومن هنا يتراءى لنا كيف قامت الدول النامية بالتعامل مع الجائحة ضمن منظومة هندسية مما نستطيع وصفها بأنها "منظومة نظم الأنظمة"، من حيث وحدة الأضداد ووحدة المتوافقات بين الأنظمة الصحية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية والعاطفية، مع حفظ النفس كمقصد أعلى، بجانب الأمن الصحي والسلم المجتمعي.
يتراءى لنا كيف قامت الدول النامية بالتعامل مع الجائحة ضمن منظومة هندسية مما نستطيع وصفها بأنها "منظومة نظم الأنظمة"، من حيث وحدة الأضداد ووحدة المتوافقات بين الأنظمة الصحية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية والعاطفية
ونحن لا نجلد ذاتنا، بل نسجل العديد من النجاحات التي شهدتها بعض أقطار عالمنا العربي، ولكن الذي يؤلم بشدة ويزيد الفجوة بين الأضداد الفكرية هو الفقدان التام لرسالة ودور وزارات الثقافة في عالمنا العربي، وكأن دورها أصبح محصورا في تنظيم مهرجانات الغناء والرقص والسجالات بين الأدباء والشعراء.
إن ما نجده مفتقدا في دولنا العربية خاصة هو عدم وجود دور رسالي أساسي فعلي لوزارات الثقافة يحمل بصمة أمتها ورسالتها ورؤيتها. وإنني لأتساءل بصوت عال: ألسنا بحاجة لإعادة النظر في رسالة وزارات الثقافة؟ ألا يجب مساءلة وزراء الثقافة عن دورهم في ردم الهوة بين الأضداد في المجتمع؟ أين دور وزرات الثقافة في الثقافة المجتمعية وفي خططهم قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد في ردم الهوة بين الأضداد والعمل على وحدة الأضداد في وقت الجوائح مثلا؟ وأين العمل على تصويب فلسفة وحدة الأضداد؟
وقد يقول قائل: لقد ذكرت آنفا أن أكثر الناس لا يؤمنون وأن أكثر الناس لا يعلمون ولا يشكرون، ولكن الجواب مباشر وصريح، ونجده في جواب على التساؤلات التالية: لماذا كانت هناك رسالات ورسل وتبعهم من ينشرون رسالتهم لرحمة الإنسانية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وكم من قرون عاشتها البشرية من خلال ذلك؟ ألم تكن فئة عادلة قليلة العدد غلبت فئات ضالة كثيرة العدد؟ إننا نجد اليوم هذه الفئة القليلة من العلماء تبحث وتعمل لتساهم في إنقاذ البشرية؛ تطويرا لعقارات ولقاحات طبية بينما يخرج علينا أناس، ومنهم محسوبون أنهم مثقفون، وقد قالوا في إحدى منتدياتهم الإعلامية: "بعض الناس يريدنا أن نصنع الطائرات والسيارات لكي ننافس أميركا وأوروبا؛ ما لهذا خلقنا". أيضا قال ذلك الرجل نفسه: "الله عز وجل خلق العرب وجعلهم أصحاب فكر وهداة، وجعل من الآخرين تلاميذ يهتدون بهدانا وعليهم العمل".
أليس هذا هو الفكر الذي يعزز صراع الأضداد، وبالتالي زيادة فاعلية التخاذل عن رسالة الرحمة للعالمية؟ هل الرحمة للعالمين هي تصدير فكر الهداية دون العمل به تمثلا وإنتاجا رحيما مثمرا مصلحا متجذرا للعلل والأمراض والأسقام والأوبئة؟ أين الفكر المناط لإجراء البحوث والتجارب المخبرية الأصيلة المنشأ، وليس تلك التي قد تملى عليك أو تسعى لها حتى تأخذها بمجانية وأهداف مسيسة؟
أيعقل أن نكون أمّة عالة على غيرنا ننتظر تطوير اللقاحات ودورنا متي يسمح لنا بأخذه ، بدل أن نكون أمة الإعداد والإبداع والابتكار؟
أيعقل أن نكون أمّة عالة على غيرنا ننتظر تطوير اللقاحات ودورنا متي يسمح لنا بأخذه ، بدل أن نكون أمة الإعداد والإبداع والابتكار؟ أوَ لسنا نحن أمّة الخيرية وأمة الإحسان والإتقان؟ بل فوق هذا كله: كيف يمكن أن نكون خلفاء الله على هذه المعمورة؛ نقوم على خير الإنسانية جمعاء لا فرق بين عربي وأعجمي، ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى، ويكون العمل الصالح المتقن النافع هو في صلب كينونتنا؟
ألم يحسن ذو القرنين، المهندس العالمي الأول، اتباع الأسباب فأحل السلم والعدل المجتمعي؟ وهل ترك قوم يأجوج ومأجوج يأخذون بأسبابهم ليفسدوا في الأرض؟ ألم يأخذ بأسباب أخرى غير أسبابهم وأفسد على الظالمين إفسادهم. فالأمر إذا يتعلق بأي الأسباب تأخذ؟ وكيف تطوع هذه الأسباب في صراعك مع الأضداد ؟ وأنت تعلم أن مسبب الأسباب هو الذي برحمته تتحقق العمارة في الأرض، وتتعايش مع وحدة الأضداد مع تواجدها مهما كثر تعدادها وقوتها.
إن هذا الفكر بل التربية الفكرية التي نحتاجها كي نعيش مع وحدة الأضداد لا صراع الأضداد، ولا أقصد هنا الصراع الأزلي بين الحق والباطل، فالحق دوما يدمغ الباطل دمغا ولو بعد حين من الزمن.
رحم الله أمة الإنسانية وجعل الخير والصحة والعافية في قادم أيامها.. اللهم آمين.