نشر د. أحمد يوسف مؤخرا مقالا بعنوان "لأخي خالد مشعل، حماس وجدلية الإصلاح والتغيير"، وجاء المقال على صيغة نصيحة لحركة "حماس" ولرئيس مكتبها السياسي السابق السيد خالد مشعل بهدف تقويم المسار وسد الثغرات وتقوية الحركة حسب تصور د. أحمد.
لكن جل ما عدَّه د. أحمد نصائح إصلاحية كانت في الحقيقة تساعد على زيادة اعوجاج المسار ـ إن كان مسار الحركة شابه اعوجاج ـ وتفتح الباب على مصراعيه للتنازلات في الثوابت عوضا عن سد الثغرات، وفيها مما يهدم قوة الحركة الحقيقية إذا ما استصاغتها قيادة الحركة.
ويبدو أن ما ورد في المقال المذكور يتجاوز كونه حالة فردية إلى كونه يمثل وجهة نظر شريحة معينة من أبناء حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
ولا يدّعي كاتب هذه السطور أنه أحد أبناء هذه الحركة، لكن منطلقا من الحرص على كل فصائل المقاومة الفلسطينية، التي تعد حماس عمودها الفقري، والتي باتت تشكل يد الشعب الفلسطيني الطولى وسنده الصلب، هو ما اقتضى هذا الرد.
"حماس" والمعترك السياسي
يقول د. أحمد إنه كان من أوائل من دعوا إلى دخول معترك السياسة والحُكْم، ويتحسر على تأخر حركة حماس في اتخاذ هذه الخطوة، لكنه في الوقت نفسه يختلف مع السيد خالد مشعل على كون خوض حماس لانتخابات 2006 ودخولها معترك السلطة والحُكْم قد حمى ظهر المقاومة كما كان مرجوا، وهو محق في هذا التقييم، فكيف إذن لا تؤخذ هذه التجربة ونتائجها بالحسبان عند الدعوة إلى الغوص أكثر في دهاليز السياسة والحُكْم؟
وهنا يجدر التذكير بكون أول من عد انتخابات 2006 غير شرعية كانت أمريكا ومن لف لفها من دعاة الديمقراطية، رغم شهادة الجميع بنزاهة تلك الانتخابات بما في ذلك حركة فتح ذاتها. أليس في هذا عبرة لمن يَعدّ أن تلك الدول التي يرجى مخاطبتها في السياسة كخصم سياسي لن تعترف بحركات المقاومة كندّ سياسي حتى تتخلى عن الثوابت؟ ناهيك عن تخليها عن المقاومة المسلحة كمنهج وطريق للتحرير؟
وفي الواقع ـ ومع تقديرنا لكلام السيد خالد مشعل ـ فإن دخول حركة حماس انتخابات 2006 كان خطأ في التقدير، فهو أولا: لم يؤمّن للمقاومة وحركة حماس عموما أي حصانة، وثانيا: كان بمعنى أو بآخر اعترافا ضمنيا بأوسلو رغم تصريحات حماس بعكس ذلك، ورغم عدم رغبة حماس بالاعتراف بمسار أوسلو، فالسياسة ممارسة، لا مجرد مواقف تفقد قيمتها إذا ما اقترنت بالفعل، وعلى المرء أن يعترف بأن رفض مخرجات أوسلو ومن ثم دخول انتخابات للمشاركة في سلطة هي أحد مخرجات أوسلو فيه من التناقض ما لا يمكن تجاهله.
ومن ثم يذكر د. أحمد فيما ذَكَر لدعم وجهة نظره خذلان بعض الحركات الإسلامية والعروبية التي كانت حماس تعول عليها بما نراه من انبطاح واتفاقيات تطبيع مخزية.
حسنا، أليس أحد أهداف هذه الاتفاقيات بث الوهن في عَضُد حركات المقاومة والضغط عليها نفسيا؟ وإيهامها بأنه لم يعد لها سند ولا نصيرعلها ترضخ للمسارات السياسية طريقا عوضا عن طريق المقاومة والكفاح المسلح؟
نعم يألم الجميع لما نراه من هرولة للارتماء في أحضان العدو، لكن هذا لا يغير شيئا على الأرض وفي الميدان، فلقد طورت حماس في ظل السنوات العجاف التي مرت من قدراتها التسليحية أضعافا، وحفرت عشرات الكيلومترات من الأنفاق، وتحولت المقاومة إلى جيش يحسب له ألف حساب، ولكم في المناورات المشتركة الأخيرة "الركن الشديد" مثالا، وإن هذا الطريق هو الذي يحبط أهداف العدو من إسقاط بعض الأنظمة والحركات في براثن التطبيع، وأما الغرق أكثر في بحور السلطة فلن يكون مصيره أفضل مما وصلت إليه السلطة الوطنية الفلسطينية، التي لم تصمد على قرار وقف التنسيق الأمني الشكلي سوى أسابيع، حتى خرج علينا حسين الشيخ ليعلن انتصار الشعب الفلسطيني وعودة الحال لما كان عليه بعد استلامه ورقة من مجرد ضابط مخابرات صهيوني، وبالمناسبة كان شح الأموال وضيق الحال الاقتصادي من أهم دوافع السلطة لإعلان عودة التنسيق الأمني والخروج علينا بتصريح حسين الشيخ المخزي بكل المعايير، وهذه نفس الظروف التي أشار إليها د. أحمد في مطلع مقاله، ولعله بهذا يقرأ في كتاب الرئيس محمود عباس.
النظام الداخلي لحماس وحديث الهدنة
ويمضي د. أحمد في مقاله بعد ذلك لتعداد بعض النقاط التي يرى فيها خللا، ومن بينها على سبيل المثال: دعوته إلى تطوير النظام الداخلي لحركة حماس، ولعملية اختيار القيادات فيها، وهذا أمر مشروع ومحمود بالتأكيد، لكن مع مراعات منهج التطوير السليم، وإدراك كون حركة حماس حركة مقاومة وتحرير لا دولة، فصحيح أنه يجب بث الدماء الجديدة في صفوف القيادات والاستفادة من طاقات أبناء حركة حماس المخضرمين، لكن من الصحيح أيضا أن معيار اختيار القيادات الأساسي في حركات التحرير يبقى سِجِل تلك القيادات الجهادي والنضالي، وهذا نهج كل حركات المقاومة والتحرير عبر التاريخ، فلا تقاد حركات المقاومة (بالتكنوقراط) والاختصاصيين، ويُذكِّر هذا بما كانت تتداوله بعض قيادات فتح عن أبو عمار ـ رحمة الله عليه ـ بعد إنشاء السلطة، وبعد تصديقهم لأكذوبة أنه بات لنا دولة، فكانوا يتهامسون بأن أبا عمار ليس رجل المرحلة، حيث مقتضيات إدارة الدولة تختلف عن متطلبات إدارة حركة نضال وطني، والكل يعرف بقية القصة، وما آلت إليه حركة فتح بعد إقصاء كل من كان له تاريخ نضالي من صفوفها لصالح (التكنوقراط) على شاكلة سلام فياض وغيره.
ثم يقول د. أحمد إنه قد آن الأوان لعقد هدنة أو استراحة محارب، وليته وضح لنا مفهوم الهدنة التي يقترحها، ألم تعقد حماس عدة اتفاقيات تهدئة؟ لكن دائما كان العدو من يخرقها ولا ينفّذ ما التزم به، فالهدنة المقبولة من وجهة نظر العدو هي تلك التي تسلم المقاومة بمقتضاها سلاحها أو تتوقف عن الإعداد من زيادة السلاح كما ونوعا وحفر الأنفاق وغير ذلك، فهل هذا هو الثمن الذي يُقترَح على حركات المقاومة وحماس دفعه؟
نعم المقاومة السلمية تعد أحد أشكال المقاومة لكن لا يجوز بحال تبنيها كمنهج وأساس للمقاومة، فالكفاح المسلح وحده من يردع العدو، ولو كانت مقاومة الشموع تردع محتلا لفلحت مقاومة من اتخذها نهجا من قبْل، فأي نصيحة هذه التي تؤدي إلى تسليم رقاب المقاومين للصهيوني كي يذبحهم على مذبح تجربة المجرب؟
وفي نقطة أخرى متصلة يدعو د. أحمد إلى تبنّي منهج مقاوم يردع العدو ويكشف جرائمه، ملمحا إلى المقاومة السلمية، ويتعجب المرء من هكذا كلام وكأن المقاومة السلمية تردع عدوا أو تكبح مغتصبا، نعم المقاومة السلمية تعد أحد أشكال المقاومة لكن لا يجوز بحال تبنيها كمنهج وأساس للمقاومة، فالكفاح المسلح وحده من يردع العدو، ولو كانت مقاومة الشموع تردع محتلا لفلحت مقاومة من اتخذها نهجا من قبْل، فأي نصيحة هذه التي تؤدي إلى تسليم رقاب المقاومين للصهيوني كي يذبحهم على مذبح تجربة المجرب؟ وأما فضح جرائم الاحتلال، فليكن د. أحمد متأكدا بأن أولئك الذين يرغب بفضح العدو أمامهم هم ذاتهم شركاء حتى أخمص قدميهم في جرائم هذا العدو، ولا يلزمهم شرح ولا توضيح.
حزب سياسي للإسلاميين!
أما الطامة فكانت في قول د. أحمد "لقد آن الأوان لإنشاء حزب سياسي يتحدث باسم الإسلاميين في فلسطين، ويمثل رأس جسر لهم، بعيداً عن اتهامات التطرف والإرهاب"، عذرا لكن أيما تشويش في الأفكار هذا؟ هل يرضى د. أحمد وصول الحال بحماس بأن تشجب وتدين العمل المقاوم ليرضى عنها هؤلاء الذين يريد شرح جرائم الاحتلال لهم؟ ونربأ بالدكتور أحمد عن ذلك، وأيضا هل وصف حركة حماس وسائر حركات المقاومة بالإرهاب والتشدد لأنهم فعلا كذلك أم لكونهم متمسكين بحقهم وحق كل الشعب الفلسطيني في المقاومة والتحرير؟
وعليه ليس مفهوما ما المقصود من هذه النصيحة، وما هي طبيعة تلك الحركات الإسلامية "غير المتشددة"، ولعل مرد التشويش في الأفكار عند د. أحمد هو الإيمان بطريق السلطة والحُكْم، وإعلاء السياسة كأولوية على القوة والمقاومة اللتين تعدان مصدري صناعة السياسة ومرتكزاتها الأساسية، وبدونهما يصير العمل السياسي مجرد استجداء وحبر على ورق.
ويدعو د. أحمد إلى ضرورة إعطاء أولوية الإنفاق للمحتاجين، ولتوجيه دعم الدول العربية والإسلامية لوكالة الأونروا، مجددا القصد غير واضح تماما من هذه النصيحة ومن استخدام كلمة "أولوية" في هذا المقام،بالطبع يقع على عاتق حركة حماس مسؤولية اتجاه المحتاجين من شعبنا، كونها أحد الفصيلين الأكبرين في الساحة الفلسطينية، وكونها ارتضت تسلم السلطة في قطاع غزة، فإن كان القصد هو إيلاء هذه المسؤولية المزيد من الاهتمام عبر سد أبواب الهدر التي باتت وبصراحة كثيرة في نشاطات فروع حركة حماس في خارج فلسطين، عبر كثرة المؤتمرات الخطابية التي لا تقدم ولا تؤخر كثيرا، والتي تتسم في الكثير من الأحيان بالبذخ غير المقبول نهائيا، وصارت مصدر استرزاق للبعض وللزبائنية، وحيث صار جزء لا يستهان به من كوادر حركة حماس في الخارج عبء على كاهل الحركة بدلا من أن يكونوا رافدا لها..
فإذا كان المقصود هو سد هذا الباب وتحويل جزء من هذا الهدر لدعم المحتاجين من شعبنا فلا غبار على ذلك، وأما إن كان المقصود تحويل حركة حماس لجمعية خيرية، وتقزيم القضية الفلسطينية لتصبح قضية محتاجين ففي هذا انحراف كبير، فمسؤولية حركة حماس الأساسية مع باقي حركات المقاومة العمل على تحرير الأرض، والتحرير له أولوياته المعروفة، وهذا ما يحل مشكلة المحتاجين من أصلها التي ما هي إلا أحد أعراض الاحتلال وضياع الأرض، وإلا سيظل شعبنا محتاجا ومحروما إلى ما شاء الله، ومع الفوارق في الفداحة وقدر المعاناة، يظل حال الشعب الفلسطيني كحال غيره من شعوب المنطقة التي اتخذت من المقاومة والصمود طريقا، فها هي الجمهورية الإسلامية في إيران ترزح تحت حصار خانق منذ قرابة الأربعين عاما، ولبنان يتحمل من الحصار والضغوط الأمريكيين بسبب تمسك حزب الله بالثوابت الدينية والوطنية وحقوق لبنان في أرضه وثرواته من غاز وغيره، وتتعرض سوريا لحرب كونية ضروس منذ عشر سنوات بسبب مواقفها الوطنية والقومية الداعمة للمقاومات في لبنان وفلسطين على حد سواء، واليوم جاؤوها بقانون قيصر الظالم ليستكمل الحصار الاقتصادي على شعبها الصامد، فهذا هو حال شعبنا وهذه هي ضريبة التحرير، وإلا فلنرتضي أن تصير حركة حماس تنتظر الفتات من تحويلات مالية "إسرائيلية" كما السلطة الوطنية الفلسطينية العتيدة.
الحديث يطول فيما ورد في المقال من نقاط "ونصائح"، لكن ملخص القول إن د. أحمد دعا في غير موضع من مقاله إلى استخلاص العبر والدروس من تجارب الماضي، لكن الظاهر أن د. أحمد لم يستخلص العبر من المثال الشاخص أمامنا ممثلا في مسار منظمة التحرير وما وصلت إليه، ناهيكم عن مسارات المتخاذلين الآخرين من حركات ونظام عربي متهالك، فإذا كان هذا هو المنهج فلا لوم على الذين سقطوا سقوطا مدويا في عامنا هذا الذي يصح وصفه بعام الخيانات.
*كاتب فلسطيني وباحث سياسي
سعد الدين العثماني إلى جانب مئير بن شبات.. سقوط بلا قاع
منع الفلسطيني من انتقاد التطبيع ودعم الثورات: مواءمة للانحدار