في الوقت الذي لاقى فيه أداء مؤسسات الفتوى الرسمية في العالمين العربي والإسلامي منذ بداية تفشي كورونا استحسانا وقبولا في أوساط عامة المسلمين بشأن إغلاق المساجد ووقف الجمع والجماعات، إلا أنه كان محل انتقادات شديدة واعتراضات متزايدة في الأشهر الأخيرة بعد أن خُففت إجراءات الحظر عن كثير من القطاعات والمرافق العامة والتي بقيت إلى وقت قريب مطبقة على المساجد.
ونتيجة لتأخر وزارات الأوقاف باتخاذ قرارات فتح المساجد والسماح بإقامة الجمع والجماعات مع إمكانية تطبيق جميع الإجراءات الصحية وتدابير السلامة المطلوبة في المساجد، بعد رفع الحظر عن كثير من القطاعات الحياتية الأخرى فقد تعالت أصوات الكثيرين لتطالب المؤسسات الدينية الرسمية بإعادة فتح المساجد وإقامة الجمع والجماعات.
ووفقا لمراقبين فإن السماح لكثير من القطاعات الحياتية بممارسة أعمالها، وإبقاء المساجد مغلقة بما يشمل حظر صلاة الجمعة، أثار هواجس الكثيرين حول أداء المؤسسات الدينية الرسمية، وفتح المجال لوصمها باتهامات مختلفة كخضوعها التام لأجندات سياسية تضيق بالدين وشعائره، وتسعى لتقليص مساحات التدين في المجتمعات ومحاصرتها.
ويرى الأكاديمي الأردني المتخصص في الفقه وأصوله، الدكتور منذر زيتون أن "المؤسسات الرسمية المعنية بالإفتاء الديني غير مقنعة بتوجهاتها وقراراتها، فقد بدت خائفة ومتناقضة أحيانا، ومتأخرة دائما عن الحدث وعن متطلباته، ففي البداية عندما رُفع الحظر عن المواطنين في الأردن فتحت المساجد لأداء صلاة الجمعة فقط دون الصلوات الأخرى".
وأضاف: "وقد أثار هذا القرار في نفوسنا الاستغراب والتعجب، فصلاة الجمعة جامعة والأصل أن تؤخر بينما تفتح الصلوات الأخرى الأقل اكتظاظا ولكن ما حصل هو العكس، بينما كانت القرارات بعد ذلك السماح للصلوات الخمس ومنع الجمعة".
وتابع حديثه لـ"عربي21" بالقول: "عندما كانت الجهات الحكومية المختلفة الأخرى تتخذ قراراتها بفتح المؤسسات التي تشرف عليها كالبنوك والنوادي والأسواق كان الإفتاء يتأخر في قرار فتح المساجد رغم أن المساجد هي البيئة الأكثر نظافة وطهارة وأهلها هم الأكثر حرصا وهذا ما نلاحظة عيانا، فعندما نذهب إلى المسجد فإننا نذهب متوضئين متطهرين ونلبس الكمامات، ونحرص على التباعد ويتجنب المصلون المصافحة أو المعانقة، ثم يصلون وينصرفون".
ولفت إلى أن "بيئة المساجد أقل البيئات على الإطلاق تسببا في العدوى، ومع ذلك نصدم دائما بالشروط الصارمة للصلاة في المسجد وكأن الأمر يبدو كتوليد من مستحيل، حتى وجدنا دعوات بوجود مصل خفي للمراقبة، وإذن لخطيب الجمعة بقطع الخطبة إذا رأى من لا يتقيد بالتعليمات، بينما لا نجد مثل هذه التعليمات في الأسواق مثلا، أو في البنوك أو التجمعات العشائرية الانتخابية التي ستجرى بعد أيام".
وأبدى زيتون استغرابه "من تصدي وزير الأوقاف لقرار منع الصلاة في المساجد والسماح بها، حيث يقرر الوزير السماح بالصلاة في المساجد أو منعها" متسائلا: "أين دوائر الإفتاء الرسمية، الأمر الذي يثير التساؤل حول الجهة المخولة بذلك؟ فالصلاة في المسجد لا تخضع في الأصل للقرار السياسي بقدر ما تتعلق بالفتوى الدينية".
وطبقا للأكاديمي الأردني زيتون فإن "تناقض الجهات الدينية في الفتاوى والإجراءات الخاصة بالمساجد سببت الريبة في قلوب كثيرين حتى جزم البعض بأن المساجد مستهدفة لأن الحظر دائما ما كان يوم الجمعة من دون الأيام الأخرى، على الرغم من قلة الحركة فيه عن بقية أيام الأسبوع".
واستطرد: "لا شك أن المؤسسات الرسمية تنكر أن الأمر هو ضد المساجد والصلاة، وقد نوافقها في ذلك، لكن في المحصلة فإن كثيرا من المصلين أصبحوا مرعوبين من المساجد ويفضلون أداء الصلاة في بيوتهم خوفا من الفيروس تارة، وابتعادا عن الإجراءات الحكومية المتتالية بحيث اتخذ البعض قراره بالصلاة في البيت على كل الأحوال".
وفي الإطار ذاته اعتبر الكاتب والباحث المغربي في العلوم السياسية، الدكتور عبد الرحمن الشعيري منظور "خضوع مؤسسات الإفتاء للأنظمة السياسية العربية تحصيل حاصل، لنزوع الأخيرة نحو الشمولية واستتباع مؤسسة العلماء، ففي بداية الأزمة الصحية صدرت فتاوى شرعية لقيت قبولا مجتمعيا لتحقيقها مقاصد الشريعة في حفظ الدين والصحة معا مثل فتاوى إغلاق المساجد لتجنب انتشار الوباء وسائر الفتاوى الأخرى".
وأردف: "لكن مع استمرارية انتشار الوباء ونهج الحكومات لسياسة التعايش معه وفق الشروط الاحترازية وفتح المؤسسات العامة باستثناء المساجد التي تأخر فتحها تبدى لعموم الناس صمت العلماء بل في الحالة المغربية أفتى المجلس العلمي الأعلى (أعلى مؤسسة دينية رسمية بالمغرب) بعدم جواز الصلاة بالتباعد في المساجد لمخالفته المذهب المالكي".
وأشار منظور في تصريحاته لـ"عربي21" إلى أنه "مع تطور النقاش العام وتصاعد المطالب الشعبية بفتح المساجد وفق الضوابط الصحية فقد استجابت السلطة السياسية لذلك متجاوزة الفتوى الرسمية المتسمة بالانغلاق المذهبي والمبالغة في الرقابة الذاتية".
وعن الأخطاء وأوجه القصور التي وقعت فيها مؤسسات الإفتاء الرسمية، قال الباحث المغربي منظور: "يمكن تجميعها في نقطة واحدة وهي المبالغة في الرقابة الذاتية تخوفا أو تقربا للسلطة الحاكمة و"البيروقراطية"، والتأخر في البيان الشرعي وفق الضوابط الاستقلالية والاجتهاد، وهذا حاصل دوما، وتبدى في زمن الوباء بشكل جلي في قضية التأخر بفتح المساجد".
وتابع: "وهو ما أظهر للجميع أن مؤسسة الإفتاء الرسمية تفتي أو تصمت بناء على توجهات السلطة السياسية، بينما المطلوب منها شرعا ومصلحة أن تفتي لخدمة مقاصد الدين وليس لتبرير توجهات رجال السلطة والحكم، وهذا لن يتحقق دون إرساء دولة القانون والتعاقد السياسي الديمقراطي، والذي بمقتضاه تخضع مؤسسة العلماء والفتوى لمرجعية الشريعة، وللدستور بعيدا عن الأجندة السياسية الضيقة".
بدوره، قال الكاتب الصحفي المصري الباحث في الفكر الإسلامي، عمرو عبد المنعم: "ليس شرطا أن تخضع فتاوى المؤسسة الدينية الرسمية لتوجهات السلطة السياسية، فالأزهر الشريف قرر موقفه الشرعي من الطلاق الشفوي وكان مغايرا لتوجهات الدولة، وله مواقف مشابهة في عدة قضايا أخرى".
وأضاف: "ومع أن فتاوى مؤسسات الإفتاء الرسمية في ما يتعلق بالشؤون السياسية دائما ما تنحاز إلى موقف الدولة الرسمي، إلا أنها في ما يتعلق بالقضايا الاجتماعية والدينية ليس بالضرورة أن تكون كذلك، فثمة مساحات قد تتسع وقد تضيق، أما أداء تلك المؤسسات في جائحة كورونا فقد استندت فيه إلى تقديرات أهل الاختصاص والخبرة في القطاع الصحي".
ونوه عبد المنعم في حديثه لـ"عربي21" بـ"الدور البحثي والتوعوي الذي يقوم به (المؤشر العالمي للفتوى) التابع لدار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، والذي يتابع عن كثب كل ما يستجد في المجال الإفتائي وما يتعلق به من تخصصات ومجالات ترتبط به ارتباطا وثيقا".
وخلص إلى أن "أداء مؤسسات الإفتاء الرسمية كان مستقلا في أحكامه واجتهاداته الفقهية، ومستندا في الوقت ذاته إلى تعليمات المؤسسات الصحية والطبية كجهة اختصاص يجب الأخذ برأيها، وبناء الأحكام والاجتهادات الشرعية عليها" محذرا من "خضوع تلك المؤسسات لأهواء الجماهير ورغباتها لأنها لا ينبغي أن تعمل وفق تلك الرغبات والأهواء" على حد قوله.
من جانبه لاحظ الأستاذ المشارك في العقيدة الإسلامية بجامعة مينيسوتا الإسلامية، الدكتور أحمد الحنيطي أن أداء مؤسسات الفتوى الرسمية "لم يكن مستقلا استقلالا تاما، واعتراه تحكم شديد في الفتوى، غابت معه أصوات بعض العلماء المستقلين، ولم تتم مشاورتهم وأخذ آرائهم، والإفادة من واسع علمهم وخبرتهم".
وأضاف لـ"عربي21": "كان المقام يقتضي في هذه النازلة الخطيرة، والتي ترتب عليها إغلاق المساجد، وتعطيل الجمع والجماعات، عقد مؤتمر عالمي طارئ للتباحث والتشاور عبر الوسائل المتاحة للاستماع إلى كل الآراء والاجتهادات، وإشراك أصحاب مختلف التخصصات الدينية والطبية والتاريخية والفكرية، ومن ثم اتخاذ القرارات المناسبة".
وختم حديثه بالإشارة إلى أن "عامة المسلمين لم يتوقعوا من مؤسسات الإفتاء الرسمي غير ما قامت به، فهم يعرفون تماما أنها جزء من منظومة الدولة الرسمية، وهي محكومة في أدائها بالسياسات العامة لأي دولة، لكن ثمة هوامش كانت متاحة لها ضمن مهامها وفي نطاق مسؤولياتها، كان يمكنها استغلالها في المحافظة على إقامة الشعائر الدينية ضمن الشروط والمعايير الطبية والصحية المطلوبة".
جائحة كورونا من منظور الفلسفة والسياسة والاقتصاد (1 من 2)