يقدم الفيلسوف التونسي البروفيسور أبو يعرب المرزوقي، في هذه الأوراق التي تنشرها "عربي21"، بالتزامن مع نشرها على صفحة الدكتور أبو يعرب على صفحته الرسمية، قراءة علمية لواقع النخب في العالم العربي، وعلاقتها بالتغيير المنشود.
ومعلوم أن أولى خطوات العلاج أو الحكم على الشيء تبدأ أولا من التشخيص، وهذا ما انطلق منه الدكتور أبو يعرب في محاولة لتفكيك مفهوم النخبة وعلاقته بالمجتمع في مختلف مكوناته المعرفية والدينية والاقتصادية والسياسية.
وإذ تنشر "عربي21" هذه الورقة في حلقات كل يوم جمعة من الأسبوع، فإنها تسعى لتوسيع النقاش بين المنشغلين بقضايا الفكر العربي حول دور النخب في صناعة التغيير الجاد، وإنجاز مطالب الشعوب في التنمية على جميع المستويات.
سبيل التحرر من دين العجل
ما البلسم الذي يحرر الإنسانية من دين العجل؟ استعددنا للجواب عن هذا السؤال بعد سعي طويل لطلبه، فبيَّنا كيف يصبح بعدا العجل معدنه وخواره مسيطرين على كل شروط حرية الإنسان ليستحوذا عليها، بدءا بالمائدة والسرير قاعدة لوجود الإنسان في علاقته بالطبيعة (المائدة) والتاريخ (السرير)، وفي علاقته بفنيهما بداية للتعالي على العلاقتين إلى ما وراءهما.
والسيطرة على المائدة والسرير وحتى على فنيهما تكون بالسيطرة على الثروة، شرط الحرية المادية عند الفرد (الاقتصاد بالنسبة إلى الجماعة)، وعلى التراث شرط الحرية الروحية عند الفرد (الثقافة عند الجماعة)، وعلى ما بينهما؛ أعني أصل الثروة أي الكيان العضوي عند الفرد (والحصة من المكان أو الجغرافيا عند الجماعة)، وأصل قيام الإنسان الروحي عند الفرد (والحصة من الزمان أو التاريخ عند الجماعة).
وبذلك يصل إلى عودة الفرد على ذاته لسياستها وتدبير وجودها وعودة الجماعة على ذاتها لسياسة هذه العلاقات: مع الطبيعة حصة الجماعة من المكان والجغرافيا، ومع التاريخ حصة الجماعة من الزمان والتاريخ، ومع الكيان العضوي حصة الفرد من المكان أي من حصة الجماعة الجغرافية، ومع الكيان الروحي حصة الفرد من التاريخ أي من حصة الجماعة التاريخية.
لكن هذه العلاقات مصحوبة دائما بما يتعالى عليها كما بينا في المعادلة الوجودية، شرطا ذهنيا يصحبه اشتراط عيني في ممارسة التدبير الإنساني لعلاقاته بها. وذلك هو جوهر الوعي بالوجود الفردي والجمعي المتعينين في الأحياز المحيطة بالإنسان فردا وجماعة، والأحياز المقومة للفرد والجماعة بوصفهما موضوع السياسي العام من حيث هو سياسة عالم الشهادة، في علاقة بعالم يعتبر شرطا في وجوده وفي شهوده؛ تعليلا لكونه، ولكونه على ما هو عليه شرطين في قيام الإنسان، سواء كان ذلك التعليل مثبتا (الإيمان)، أو كان ذلك التعليل مسلوبا (الإلحاد)، وكلاهما عقدي وليس علميا.
كم أعجب ممن تسكرهم زبيبة فيقرأ بعض كتابات الفاشلين في حياتهم ممن تفسد أخلاقهم فيعتبرون أنفسهم فوق قوانين الطبيعة والتاريخ ويعيشون على هامشهما ولا يدرون أنهم بذلك يعوضون العجز بوهم التعالي المرضي مدعين أنهم مبدعون.
ولذلك، فإني لا أستطيع أن أفهم من تسكرهم زبيبة فيدعون الاستغناء عن التعليل بما وراء، سواء كان مفارقا أو محايثا، زاعمين أن ذلك من علامات العمق الفلسفي لفكرهم والرشد العقلي الذي يخلصهم من الخرافة. ولا يدرون أن هذا الموقف من طبيعة خرافية مغرقة في الأوهام.
فالذي يدعي نفي التعليل الماورائي قد يختلف عن الذي يقول به إلا بالمقابلة بين المفارقة والمحايثة وليس به دونه. فالقائل بالاستغناء عن الماوراء أكثر وثوقية من الذي يؤمن به. ذلك أن المؤمن بالمارواء التعليلي قد يكتفي بالإمكان، فلا يستثني الإيمان على الأقل بما هو أمل بالمعنى الكنطي. أما النافي فهو ينفي الإمكان دون حجة، احتجاجا على ما يتوهمه من عبث وجودي. فيكون مدعيا ما يفوق طوق الإنسان؛ لأن دعوى العبث وفقدان المعنى بطريقة المعري مثل الصبي الذي يركل الأرض بقدميه احتجاجا على والديه لعدم إخضاع الوجود الموضوعي لشهواته.
فلا أحد ممن له بعض عقل يمكن أن يدعي أنه الوجود يرد إلى ما يدركه منه فيزعم المعرفة العلمية محيطة، أو يمكن أن يدعي أن المنشود يرد إلى ما يشتهيه منه فيزعم عمله تاما. لذلك فالملحد دون المؤمن عقلانية بالمعنى المعرفي وبالمعنى القيمي، أي إنه لا يقول بالمطابقة أبستمولوجيا وأكسيولوجيا، بخلاف الملحد الذي يثبت قوله بهما سذاجة لما هو مثيل لها، إذ يدعي علما محيطا ينفي معه إمكان نقيض ما يعتقده، وعملا تاما ينفي معه إمكان تجاوز غيره لما يحققه، سواء من البشر أو حتى من الشجر والحجر، ومن غير هذا العالم المشهود والمنشود.
فالملحد لا يتحرر بذلك من المعبود، بل يخلد إلى الأرض كالكلب اللاهث فيلجأ إلى المخدر الوجودي المتمثل في الهروب الدائم من الأسئلة التي لا يمكن للإنسان أن يتجنبها ـ مثل معنى الحياة والموت ومثل حقيقة الوعي والشعور والعقل والوجود والعدم وكيفياتهما ـ، فيكون المفر إلى الانتحار العقلي بدعوى فلسفة العبث الوجودي والنزقية التي يزعمونها ثورية فكرية وفلسفة بالطريقة النيتشوية، التي يحاول صاحبها تعميل حالته المرضية فيعتبرها تجاوزا للوجود السوي، وما ذلك إلا أحد أنواع "حب التأله التعويضي" بلغة ابن خلدون.
وكم أعجب ممن تسكرهم زبيبة فيقرأ بعض كتابات الفاشلين في حياتهم ممن تفسد أخلاقهم، فيعتبرون أنفسهم فوق قوانين الطبيعة والتاريخ ويعيشون على هامشهما، ولا يدرون أنهم بذلك يعوضون العجز بوهم التعالي المرضي مدعين أنهم مبدعون، لظنهم أن هذيانهم إبداع، فيكونون بذلك أكثر إبداعا من أفلاطون وأرسطو وابن سينا وابن خلدون وديكارت ولايبنتس وكانط.
أما السياسي بالمعنى المخصوص، إذا لم يكن مدركا لدوره باعتباره نائبا لسلطة تمثل إرادة الجماعة والقوامة على وظائفها في الرعاية والحماية المادية، سواء كانت اختيارية كما يراها الفكر السني أو بالوصاية السياسة وإلى التربية المدنية بالمعنى المخصوص، باعتبارها سلطة تمثيل رؤية الجماعة والقوامة على وظائفها في الرعاية والحماية الروحية، سواء كانت اجتهادية وجهادية كما يراها الفكر السني أو بالوساطة الروحية.
إذا لم يكن كذلك فهو مصاب بالهوس نفسه الذي يسميه ابن خلدون حب التأله المرضي الذي وصفت في كلامي على من تسكرهم زبيبة "الإبداع" المخلد إلى الأرض. ولما كان الساسة في هذه الحالة بيدهم سلطان على الأرزاق ماديها وروحيها بسبب سيطرتهم على أدوات العنف، فإنهم يصبحون طغاة فعليين، في حين أن أولئك هم طغاة رمزيون، فيكونون في الغالب في خدمتهم حتى يعيشوا على فضلات موائدهم.
إسرائيل وهاجس السيطرة على المسلمين
ومثلما أن قصة العجل مثل لها القرآن بتعين فعلي حدث في التاريخ دون حصر لها في تعينها الذي هو حدث دال على آية كونية، فإن مساره إلى يومنا يمكن اعتباره ذا صلة بقضية حارقة اليوم ـ قضية التطبيع مع بني إسرائيل الذين صاروا ممثلين للظاهرة عالميا ـ في إقليمنا خاصة وفي الغرب قبله وتأخر ظهوره في إقليمنا، علته أن الأمة تحررت منه بفضل ثورة الإسلام الذي اعتبر ربا الأموال وربا الأقوال من الكبائر التي لا تسامح فيها، أعني الربا في الاقتصاد الذي أعلن الله الحرب عليه في القرآن، والربا في الثقافة الذي أعلن الله مقته الأكبر في القرآن.
فالكثير يتصور قضية التطبيع مع إسرائيل تعني التأسيس لعلاقات تبادل وتواصل بينها وبين من يطبعون معها. لكن ما تريده إسرائيل صاحبة بعدي العجل المسيطرين على الغرب كله، هو تحقيق السيطرة نفسها على المسلمين الذين ما زالوا يقاومون هذه السيطرة أو على الأقل مازالت شعوبهم ترفضها، لأن الحكام والنخب التابعة لهم خضعوا لها أولا، حتى ينوبهم الاستعمار على المحميات التي أوجدها، وجعل إسرائيل وإيران حارسين للأنظمة بعد أن فتتت وحدة جغرافيتنا، وأوجد لها شرعيات مفبركة بتشتيت وحدة تاريخنا، فسيطر على ثروتنا وعلى تراثنا، وهو الآن يحارب خط الدفاع الأخير أي مرجعيتنا الإسلامية.
الكثير يتصور قضية التطبيع مع إسرائيل تعني التأسيس لعلاقات تبادل وتواصل بينها وبين من يطبعون معها. لكن ما تريده إسرائيل صاحبة بعدي العجل المسيطرين على الغرب كله، هو تحقيق السيطرة نفسها على المسلمين الذين ما زالوا يقاومون هذه السيطرة أو على الأقل مازالت شعوبهم ترفضها.
وحتى أشرح هذه المسألة، كتبت محاولة سميتها ميتافيزيقا التطبيع وعلاقتها بما يسمى المسألة اليهودية في الأدبيات الماركسية، بينت فيها أن المشكل ليس في طلب التعامل الطبيعي بين غير الإسرائيليين والإسرائيليين، بل في رفض هؤلاء التطبيع مع غيرهم وفرض خضوعهم إليهم بوصفهم عبيدا؛ تطبيقا لعقيدة شعب الله المختار.
التطبيع يعني مطالبة المغلوب التسليم بأنه صار عبدا لسيد بيده بعدا العجل؛ أي السلطان المادي بالعملة على اقتصادهم والسلطان الرمزي بالكلمة على ثقافتهم، وتلكما هما أداتا السيطرة الصهيونية على السلطان السياسي في كل بلاد الغرب وكل توابعه من بلاد الشرق. ولهذه العلة؛ فهذا التطبيع لم يجد فيه إلا إعلانه، لأنه حاصل بمجرد تنصيب العملاء على المحميات بعد تفتيت الوحدة الجغرافية والوحدة التاريخية، منعا لشروط التنمية المادية (الثروة) والتنيمة الروحية (التراث).
وهذا التنصيب لا يقتصر على النخبة السياسية الحاكمة، بل هو يشمل بقية النخب الأربعة الأخرى؛ لأن القوامة في أي جماعة تشمل النخب الخمسة، إذ إن السياسة بالمعنى المخصوص تشمل التربية والحكم أي الرعاية والحماية. لكن هذه السيطرة يصحبها دائما الكراهية الشعبية لهم ولمن فرض عليهم التطبيع، وذلك في العالم كله، بمعنى أن الصهيونية تسيطر في الغرب على النخب، لكن الشعوب تعاديها وتلك واحدة من علل السعي للتخلص منهم وتهجيرهم إلى الشرق، فضلا عن علة استعمالهم من الصهيونية ومن الامبراطوريات الاستعمارية أداة في السعي للإبقاء على الشرق عاجزا دون الاستئناف.
وهذه القصة تكررت في كل تاريخ بني إسرائيل منذ خروجهم من مصر إلى اليوم وآخرها كانت في ألمانيا، ولكن قبل شرع الإنجليز في علاج القضية بترحيل يهود أوروبا وإعادتهم إلى الشرق مع إيهامهم بأنهم هم من رشا رشاهم ليحقق لهم وطنا قوميا في فلسطين. ولا أستبعد أن يكون مصيرهم مع الأمريكان من جنس مصيرهم مع الألمان، وقبل ذلك مع الروس وقبله مع المسلمين ومع البابليين ومع المصريين.
وقد وصف ابن خلدون الظاهرة من وجهيها أي بوصفها اجتماع حب التأله وفساد معاني الإنسانية أو العقد التي تنقلب إلى ضدها، وهو ما يسميه نيتشة بأخلاق العبيد أو أخلاق بغضاء من يحقر نفسه، فيضخمها ليجعلها حب تأله، تعويضا على النقص بتضخم الذات.
النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (6)
النخب واشكالية مناعة الأمة العضوية والحصانة الروحية (5)
الإعدام في تونس.. إنفاذ لأحكام فقهية أم أنسنة لعقوبة جزائية؟