قضايا وآراء

الصمود الفلسطيني والأردني يُفشل تصفية القضية الفلسطينية وشطب الأردن من المعادلة

1300x600
ثمة تخوفات تتزايد، وهي مشروعة، من حركة التطبيع بين دول عربية وإسرائيل، حيث إنها تهدد مصالح دول عربية أساسية كما تهدد القضية الفلسطينية، لكن التجربة أكدت خلال العقود الثلاثة الماضية أن الصمود الفلسطيني والأردني المساند رسمياً وشعبياً كان عاملاً أساسياً في منع هذه المحاولات من تصفية القضية أولاً ومن تهديد دول عربية أخرى مثل مصر والأردن وسوريا ثانياً، والمقاومة العربية والفلسطينية ثالثاً.

فقد اندفعت دول عربية عديدة في محاولات تطبيع مع إسرائيل بعد توقيع اتفاق أوسلو ووادي عربة عامي 1993 و1994، وزاد هذا الاتجاه في عام 1996، وعلى أصداء الاجتماع الأمريكي بالعرب في شرم الشيخ في ما عرف بقمة السلام، وكان ذلك على شكل مكاتب تجارية أو رعاية مصالح، كما سُمّيت في حينها، باستثناء دولة واحدة فتحت سفارة وأقامت علاقات دبلوماسية أيضاً.

غير أن اندلاع الانتفاضة الفلسطينية عام 2000 ضد الاحتلال الإسرائيلي والمجازر التي ارتكبها تسببت بشكل مباشر في تراجع هذه التوجهات، بل قامت مختلف الدول العربية بالإعلان عن إغلاق مكاتب التمثيل التجاري المتبادل مع إسرائيل، وسحبت دول أخرى لها اتفاقات سلام مع إسرائيل سفراءها، وكان الشعب الأردني والقوى السياسية الأردنية في المقدمة؛ من الشعوب العربية في دعم الشعب الفلسطيني وتعزيز صموده وبذل كل جهد لتقديم أي عون مادي أو صحي أو إعلامي في مواجهة العدوان الإسرائيلي. واستمر ذلك على هذا الحال خلال كل محطات العدوان الإسرائيلي على أهل فلسطين سواء في الضفة أو غزة.

وعلى آثار خفوت الانتفاضة واستمرار المحاولات لاستعادة أجواء التطبيع مع إسرائيل شكلت الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2008/ 2009 ديناميكية جديدة لتتسبب بإعاقة اتجاهات وبرامج التطبيع من جديد، وعلى أصداء الربيع العربي وتقدم الشعوب للضغط على الحكومات أو إسقاطها شعرت إسرائيل بالهلع واختفى من المشهد دعاة التطبيع والمطبعون، حتى إنه تزامن معها قطع العلاقات التركية- الإسرائيلية عام 2011، واستمر ذلك حتى عام 2013، ما جعل إسرائيل في وضع استراتيجي معقد. وهددت البيئةُ السياسية الجديدة اتفاقات السلام جميعها، إن لم يكن بالإلغاء فبالتجميد والبرود، ولولا الانقلاب على حركة الربيع العربي في عدد من الدول العربية ودخول دول أخرى في حرب أهلية، كسوريا مثلاً، وتقاتل شركاء الربيع العربي في اليمن، ثم الصراع المسلح الذي نشب في ليبيا؛ لكان الحال مختلفاً كلياً مع الوضع الاستراتيجي لإسرائيل اليوم.

واليوم، لم يكن هذا التسارع في التطبيع ليحدث لولا الديناميكية العالية التي أظهرتها حركة التطبيع العربية الجديدة برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبالعصا الغليظة والجزرة المحدودة. وإنّ اختيار إيران عنوان مواجهة مشتركة مع إسرائيل للدفاع عن الأمة العربية مما تثيره إسرائيل من خطر إيراني؛ لهو من السخرية بمكان، ولا يكاد يقبله حتى الذين يعانون من اضطهاد إيران لهم، داخلها أو في العراق أو سوريا. والأمة العربية تدرك أن هناك تحديات مع إيران ضمن التحديات التي تواجهها، لكنها تبقى شأناً إسلامياً داخلياً، حيث إن لإسرائيل مقاربات أخرى في التعامل مع إيران لا تلتقي في أغلبها مع مصالح الأمة العربية وقضاياها واهتماماتها.

ولذلك فإن حركة التطبيع الجارية اليوم ليست حركة تاريخية استراتيجية، بل حركة اعتراضية قوية في محاولة لمنع التاريخ أن يسير باتجاهاته الطبيعية التي سطّرتها صفحاته خلال العقود الماضية؛ من أن إسرائيل وبرغم تزايد قوتها العسكرية ووحشيتها تجاه الفلسطينيين وتوقيعها اتفاقات سلام مع بعض العرب وجزء من الفلسطينيين، غير أنها لا تزال تعيش في عقلية "الغيتو" والرعب، وأنها لا تشعر بالأمان، ولا تزال تعتبر أن الخطر الداهم والحقيقي كان وما زال هو القوة الفلسطينية الشعبية والفصائلية بمختلف مستوياتها، بل إنها لم تلتزم بما اتفقت عليه مع الأطراف العربية التي وقّعت معها معاهدات سلام. والتجربة والخبرة الأردنية في العلاقة معها خلال أكثر من عقدين تثبت ذلك، والأردن اليوم رسمياً وشعبياً يؤمن بأن التطبيع مع إسرائيل يخدم فقط مصالح إسرائيل، ولا يحقق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ولا المصالح العليا الأردنية أو العربية.

ولذلك، فإن البحث في مستقبل حركة التطبيع يرسمه اليوم العامل الفلسطيني والعامل الشعبي العربي، والعامل الأردني صاحب الخبرة في العلاقة مع إسرائيل، وليس العامل الإسرائيلي ولا العربي الرسمي المطبّع. ويمكن في هذا السياق تحليل التحركات الأوروبية الساخنة لإنقاذ حركة التطبيع من أي تحولات كبيرة في الساحة الفلسطينية، مثل اندلاع مقاومة شعبية أو مواجهات مسلحة مع الاحتلال، أو التوحد الفلسطيني على برنامج واحد وبقيادة واحدة ضد الاحتلال على مختلف الصعد، كما تحاول الفصائل الفلسطينية بجدية معلَنة أن تفعل اليوم.

وفي هذا السياق يمكن فهم الجهود القائمة اليوم لإحياء ما يعرف بعملية السلام التي قتلها الرئيس ترامب سياسياً بتبني صفقة القرن، وتقتلها إسرائيل يومياً بعدم الالتزام بما اتفق عليه، وباستمرارها في الوحشية والإرهاب ضد الشعب الفلسطيني.

إنّ الفكر السياسي العربي والفلسطيني الذي حافظ على القضية حية طوال 100 عام من المواجهات السياسية والشعبية والمقاومة الشعبية والمسلحة يملك الكثير من الأوراق التي تعيد الصراع إلى طبيعته بين احتلال استيطاني إحلالي وبين شعب صامد على أرضه، وثمة ثلاثة متغيرات مهمة تعطي مؤشراً أولياً على حركة تاريخية قادمة تعيد المسار إلى طبيعته بعيداً عن حركة التطبيع رغم وحشية الاحتلال، أولها أن الشعب الفلسطيني ومقاومته المسلحة وقواه الشعبية تقاتل الاحتلال على أرضها، وفي ظل موقف أردني رافض لصفقة القرن ومخطط الضم الإسرائيلي، وهذا شرط من شروط الانتصار، وثانيها أن القوى الفلسطينية يبدو أنها أدركت أن الاقتراب من الولايات المتحدة والتفاهم مع الاحتلال غير مجد أبداً، وأن الخيار الأساس هو وحدة الموقف الفلسطيني على إنهاء الاحتلال والمقاومة وبقيادة موحدة.

وإنّ اتفاق الفلسطينيين على ذلك هو مفاجأة من العيار الثقيل لإسرائيل، والمكنون فيها أعمق من الآمال الإسرائيلية أو آمال المطبّعين، فحركة المقاومة الفلسطينية ضاربة الجذور في الشعب وتاريخه؛ حيث ضحت منه كل أسرة بأبنائها وبآبائها وبنسائها على مدى العقود الماضية لتحقيق إنهاء الاحتلال والتحرر والعودة، وهي جاهزة لتقديم المزيد في آخر المشوار.

وثالثها أن إسرائيل اليوم تحاول القفز عن النار، القفز على الصراع داخل فلسطين إلى تطبيع اقتصادي وأمني خارجي مع دول عربية تبعد كثيراً عن نقاط الصراع الساخنة، لكنّ ذلك لا يؤمن جنودها في الميدان ولا مستوطنيها في حركتهم في فلسطين ولا مستوطنات الغلاف في غزة والضفة والقدس، فهذه الورقة هي ورقة فلسطينية فقط كما يعلم قادة إسرائيل وخبراؤها العسكريون.

ولذلك فإن التحليل يشير إلى تباطؤ بدأ يعتري مسار التطبيع، وإن الحركة الاعتراضية الأوروبية باجتماع عمان لموازاة ذلك بجر الفلسطينيين إلى مفاوضات سياسية إنما تهدف إلى حماية حركة التطبيع العربي والمحافظة على ديناميكيتها من جهة، كما أنها تأمل بوقف الاندفاع الفلسطيني نحو الوحدة على المقاومة والقيادة الواحدة وتجديد ديناميكية النظام السياسي الفلسطيني المقاوم، الأمر الذي يعيد الكرة إلى اللاعبين الفلسطينيين ويجعل العامل الفلسطيني هو العامل الحاسم، مهما أنجزت حركة التطبيع من ديناميكيات تعمل عكس حركة التاريخ والصراع في المنطقة مع المشروع الصهيوني.

ويعد الصمود الفلسطيني والأردني ضد صفقة القرن وخطط الضم الإسرائيلية وبرامج التهويد للقدس عنواناً مهماً في هذا السياق يمكن البناء عليه، بتوحيد القوى الأردنية والجانب الرسمي والقوى الفلسطينية والجانب الرسمي على برنامج نضالي واحد أساسه إنهاء الاحتلال وطرده، وإقامة الدولة الفلسطينية وتحرير القدس وعودة اللاجئين.