كلما تلقى الرئيس الفرنسي إيمانويل
ماكرون هزيمة في معاركة الداخلية والخارجية؛ بحث عن ميدان آخر عله يحقق نصرا يعوض به تراجع شعبيته، في مقابل تصاعد شعبية اليمين المتطرف في
فرنسا، والتي يريد ماكرون أن يلتحق بها بعد أن قدم نفسه من قبل مواجها لها.
وقبل الحفاظ على الشعبية وبعدها، فإن الرئيس الفرنسي ماكرون يحاول تقديم نفسه باعتباره قائد مشروع مناهضة الإسلام في أوروبا والعالم. دعك من الجُمل المغلفة بأغلفة أنيقة عن محاربة
التطرف أو التشدد أو حتى الإسلام السياسي أو الإخوان المسلمين التي كان يختفي خلفها من قبل، إنه
يستهدف مباشرة الإسلام ذاته كدين، ولم يستطع أن يخفي بغضاء لسانه ولا مكنون صدره، فنطقها صريحة: "إن الإسلام يعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم".
ولعل هذا ما يفسر حروبه ومناوشاته في العديد من الدول الإسلامية أو التي تكون إحدى الدول الإسلامية طرفا فيها، وهي الحروب التي يلقى فيها فشلا متصاعدا، بدءا من ليبيا ومالي وأخيرا أذربيجان، وقبل كل ذلك
مواجهته لتركيا وعداؤه الشخصي مع رئيسها رجب طيب أردوغان.
حدد الرئيس الفرنسي شبكة تحالفاته على هذا الأساس (وهو محاربة الإسلام)، وإن كان يغلف كلامه بمحاربة التطرف أو محاربة الإخوان لدى بعض حلفائه (الذين لا يجرؤون علانية على تقبل فكرة محاربة الإسلام بشكل مباشر لأنهم يحملون أسماء وصفات إسلامية ويعيشون وسط المسلمين، مثل حكام السعودية والإمارات والبحرين)، وهو يسعى لتوسيع هذا التحالف أوروبيا ودوليا، وإن كانت العديد من الدول الأوروبية لا تريد الانجرار إلى مغامراته الفاشلة.
في خطابه الأخير الذي ذكر فيه الإسلام بشكل مباشر أو غير مباشر، أكثر من 40 مرة طرح الرئيس الفرنسي مشروع قانون بهدف مواجهة المد الإسلامي في فرنسا (تضم خمسة ملايين مسلم حسب البيانات الرسمية وسبعة ملايين بحسب المصادر المسلمة، يمثلون بين 8 و10 في المئة من جملة سكانها).
وهذا القانون الذي سيقدمه لمجلس الوزراء بداية كانون الأول/ ديسمبر لتتم مناقشته في البرلمان في النصف الأول من العام 2021، أي قبل الانتخابات الرئاسية في 2022 يستهدف التصدي لما وصفه بالانفصال الشعوري وإلى مكافحة المظاهر الإسلامية في فرنسا، مثل انتشار المساجد، والمدارس الدينية، وانتشار الحجاب، والصالات الرياضية وحمامات السباحة التي تراعي الفصل بين الجنسين، وبعض اشتراطات الزواج وفقا للشريعة الإسلامية.. إلخ، وهي المظاهر التي يعتبرها ماكرون ومعه كل اليمين الفرنسي مناهضة لقيم الجمهورية الفرنسية (العلمانية)، في حين أنه لا يرى بعض المظاهر المتعلقة بالديانة اليهودية مثلا مخالفة لقيم الجمهورية.
وليجتذب الرئيس الفرنسي حلفاء وداعمين إقليميين لمشروعه الاستئصالي للإسلام، فإنه يدعي أنه يستهدف التأثيرات الخارجية في فرنسا لجماعات مثل الوهابية والسلفية والإخوان المسلمين، وهي نفس المجموعات المستهدفة من حلفائه الإقليميين في السعودية الجديدة والإمارات والكيان الصهيوني ومصر السيسي وعسكر السودان.
ويساعد ماكرون في هذا المشروع نشطاء وباحثون وإعلاميون عرب ومسلمون يقيمون في فرنسا أو خارجها، وبعض المتحولين من أبناء العرب والمسلمين، وفي مقدمتهم وز
ير الداخلية الفرنسي الحالي جيرالد دارمانين، المنحدر من أصول جزائرية، وبعض المراكز التي أسستها الإمارات في باريس لمواجهة خصومها الإسلاميين، مثل مركز دراسات الشرق الأوسط الذي وضعت على رأسه الإعلامي والبرلماني المصري عبد الرحيم علي.
فرنسا التي تجرم مناهضة السامية، والتي حاكمت الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه غارودي بسبب حديثه عن محرقة اليهود في العهد النازي، ترى من واجبها مناهضة المظاهر الدينية لقسم كبير من مواطنيها المسلمين الذين يمثلون الديانة الثانية في البلاد بعد الكاثوليكية، وهي تحسب الكثير من المظاهر الإسلامية التقليدية باعتبارها مظاهر للتطرف والتشدد، كما ورد في إفادة وزير الداخلية السابق كريستوف كاستانير أثناء حضوره جلسة استماع أمام لجنة القوانين في الجمعية الوطنية، حيث قال إن هناك مجموعة من العناصر التي يمكن من خلالها معرفة المتدين المتطرف، منها تغير في التعامل مع محيطه الاجتماعي، وإن كان يقبل ثم أصبح لا يقبل، هل يقبل إقامة علاقات مع النساء أم لا (بقصد إقامة علاقات غير شرعية)، وهل يقيم الصلوات بانتظام؟ وأن يكون الشخص ملتحيا!! رغم أن الوزير نفسه صاحب لحية!!!
يسعى ماكرون لتقديم نفسه باعتباره خليفة لويس السابع أو التاسع أو فيليب الثاني أو حتى نابليون بونابرت، أحد أبرز قادة الحملات الاستعمارية، ولكنه لا يمتلك مؤهلات قيادية تؤهله لهذا الدور، حيث إن الفشل هو حليفه في كل معاركه التي خاضها حتى الآن، ولكنه يصر على جر أوروبا خلفه في معارك مفتعلة مع الإسلام، ليجدد بذلك سواء بقصد أو بدون قصد نعرات الحروب الدينية التي دفع العالم كله وأوروبا على وجه الخصوص ثمنا باهظا لها. ومن واجب عقلاء أوروبا، سواء كانوا حكاما أو مجتمعا سياسا ومدنيا، الأخذ على يدي هذا المتهور حتى لا يورط العالم في حرب دينية جديدة.
حسنا فعل كل من
الأزهر والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بالرد السريع على ماكرون دفاعا عن الإسلام، وهذا واجبهما، لكنه واجب الحكام المسلمين أيضا، وإذا كان أردوغان كثير النقد والهجاء لماكرون الذي يستهدفه بشكل شخصي، فإن واجب باقي الحكام العرب والمسلمين التصدي لهذه التصريحات إذا كانوا لا يزالون يغارون على دينهم وهويتهم.
twitter.com/kotbelaraby