قضايا وآراء

عصام العريان الشهيد المظلوم من الجميع

1300x600

رحم الله الدكتور عصام العريان، الشهيد في محبسه، والذي ناله ظلم من الجميع، القريب والبعيد، الصديق والعدو، للأسف، هذا ما نكتشفه عندما نتأمل حياة العريان قبل السجن وأثناءه، حتى استشهاده بالإهمال الطبي.

عصام العريان رجل توافقي، يميل إلى محبة الجميع، ورضا الجميع، ولا يحب أن يخسر أحدا، ولا أن يقصر مع أحد، هذا ما فعله طوال حياته، حاول قدر استطاعته أن يجعل مسافة من الود والتقدير بينه وبين الجميع، خصوما كانوا أم حلفاء، في جماعة الإخوان، أم خارجها.

بحثت عن سر توافق العريان في حياته الفكرية والسياسية، بل والتنظيمية، فقد كان خلاف الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، الذي كان إذا رأى خطأ لا يصبر عليه، بل يجاهر برفضه، وبأعلى صوته، وكان العريان إذا قابلني وتحدثنا عن صديقه أبي الفتوح، يشكو لي أنه شديد على إخوانه، وأنه ربما شتمهم إذا رأى منهم ما يكره، أو ما يرفض، وأن عليه أن يكون هينا بعض الشيء. ويجيب أبو الفتوح ـ كما حدثني العريان ـ بأنه ليس صاحب جلد سميك مثله، يستطيع تحمل الخطأ.

إلى أن عرفت سر نشأة العريان وميله للتوافق، رحمه الله، وتقبله في الصالحين، فالعريان نشأ يتيما، بين أخوين أكبر منه، وكان الأخوان يختلفان أحيانا، ووقت الخلاف كل منهما يريد كسب ود الصغير: عصام العريان، وكان محبا جدا لأمه رحمها الله، ومطيعا لأمرها، فكانت دوما إذا وقع خلاف بين أخويه، ويسأل أمه: أيهما يُرضي؟ تجيبه: لا تجعل أحدا يغضب منك يا عصام، وبالعامية: متزعلش حد منك يا عصام.

فتعلم العريان منذ صغره، من أمه، كيف يتوافق مع أخويه إذا اختلفا، وبالتالي تعلم كيف يتوافق مع المختلفين في الطباع والأمزجة، هذا التوافق الذي بدأ بسماع نصح أمه، ثم صار منهجا له في حياته، وهو ما يذكرني بشخص ذهب للإمام مالك يشكو إليه ويسأله، فقال: إن أبي يأمرني، وأمي تنهاني، فماذا أفعل؟ فأجابه مالك: أطع أباك، ولا تعص أمك!! هي معادلة صعبة، لا يحسن فعلها إلا القليل من الناس، وكان العريان منهم.

فما الذي حول هذا الشخص التوافقي، المحبوب من الجميع، إلى شخص عصبي المزاج في أواخر فترة حكم الإخوان؟ هل تغير العريان؟ أم أن الرجل وجد أنه لا يحصد ما يغرس، فقد غرس التوافق، وعامل الجميع بود، وخدم الجميع، من كل التيارات الفكرية والسياسية، وكان أكثر ما خدم الجماعة والتنظيم الذي انتمى إليه، فقوبل ما قدمه الرجل في مرحلة ما بنكران، وربما بحرب ناعمة عليه، أحس مرارتها بلا شك، وقد لقيته قبل الانقلاب، وكان حديثه ملؤه المرارة والضيق رحمه الله.

 

عصام العريان رجل توافقي، يميل إلى محبة الجميع، ورضا الجميع، ولا يحب أن يخسر أحدا، ولا أن يقصر مع أحد، هذا ما فعله طوال حياته، حاول قدر استطاعته أن يجعل مسافة من الود والتقدير بينه وبين الجميع، خصوما كانوا أم حلفاء، في جماعة الإخوان، أم خارجها.

 



لقد ظُلم العريان من التيار المدني، والذي كان تقاربه منه، سببا في عداء بعض من في التنظيم له، وبحكم شهادتي في حقه، فقد كان دائم التوسط لكل صاحب خدمة، لا يتردد في خدمة من يطلب، بغض النظر عن انتمائه، ومن هؤلاء مثلا: الكاتب الصحفي عبد الحليم قنديل.

فقبل ثورة يناير، حدثت حادثة اعتداء على قنديل، وجرد من ثيابه عاريا تماما في الطريق، فزاد ذلك من عناد قنديل في مهاجمة نظام مبارك، فعوقب وقتها بالمنع من الكتابة في أي جريدة تعطيه مقابلا ماديا، وكان من بين هذه الصحف الراية القطرية، ومعروف توجه القائمين على الراية بأنهم أميل للتيار الناصري، أي نفس توجه قنديل.

فوجئ قنديل وتوقف التعامل معه من قبل الجريدة، اتصل بي العريان رحمه الله، وقال لي: إن النظام يحارب قنديل في لقمة عيشه، لأجل موقفه، ونريد أن نقوم بدور معه، سألته: ما المطلوب؟ قال: كلم الشيخ القرضاوي، يتصل بأي جريدة قطرية له فيها شفاعة، ليكتب فيها قنديل بمقابل مادي، بالفعل أوصلت رسالة العريان للشيخ، ولم ينتظر، فاتصل بجريدة أخرى، ورحبوا، وأبلغت العريان بما تم، ففرح لذلك، وطلب شكر الشيخ، ولا أدري ما تم بعدها. وما أشعره أن العريان فعل ما فعل دون إخبار قنديل، مراعاة لشعوره.

مثل هذا المواقف شهدت مواقف كثيرة مثلها للعريان، فكثيرا ما يأتي أناس للعمل في قطر، ويطلب مقابلتي، أو موعد مع القرضاوي، ويكون سبب الزيارة، أنه جاء برسالة توصية من العريان على حاملها، لمساعدته فيما يحتاج، أو التوصية به في عمله. ولم تكن التوصية تقتصر على أشخاص من التيار الإسلامي، بل من غير التيار الإسلامي كذلك. 

ثم جاءت ثورة يناير، ورأينا جميعا ما تم من خلاف بين الإخوان والتيارات المدنية الأخرى، وحُسب العريان في كفة التنظيم بلا شك، وكانت خطة الثورة المضادة آنذاك: حرق معظم كوادر الإخوان المتكلمة، فتارة يتم تسليط الضوء على صبحي صالح، ثم بعدها العريان، بهدف حرق مثل هذه الرموز، فإذا صرح أحدهم أو تكلم، تناولتهم الآلة الإعلامية آنذاك، بهدف الضغط والابتزاز، وللأسف كانت تستجيب قيادة الجماعة، فكلما هوجم رمز، سحبوه من ميدان الحديث العام، صبحي صالح، ثم العريان، ثم غيرهم.

كان الكلام الذي رُوج ضد العريان، حديث عن عودة اليهود المصريين لمصر، وأنه حق مشروع لمن يريد العودة، كمواطن مصري، وأن قرار عبد الناصر كان خطأ، وهو كلام له سياق، وله تأويل، بناه العريان على مبدأ معروف، وهو: أن عداوتنا ليست مع اليهود، عداوتنا مع الصهاينة المعتدين، والإسلام ليس معاديا للأديان، بل معادي للمعتدين.

ثم جاء انقلاب 2013م، وكان العريان آخر من تم اعتقالهم من القيادات، فقد ذهب وحده إلى شقة، وأقام فيها وحده، ولم يكن يخرج منها، إلا فقط لإلقاء (القمامة)، وبالصدفة كان البوليس يفتش العمارة، وجاء عند شقة العريان وسأل البواب: هل هنا أحد؟ قال: لا، فكادوا أن يذهبوا، ولكن الضابط نظر فوجد سلة القمامة، فيها قمامة حديثة، فشك في الأمر، وفتح الباب فوجد العريان فتم القبض عليه، وخرج ينطلق بابتسامته التي رآها الجميع.

دخل السجن، وطوال هذه الفترة، لم تصدر نقابة الأطباء، أي حرف يدافع عن عضو فيها، وكادر مهم من كوادرها، لم يُعرف عنه عنف، لا دعوة، ولا تأصيلا، ولا ممارسة له، وطوال فترة سجنه، يعرفه جيدا التيار المدني بكل طوائفه، لم يصدر عن أحد منهم كلمة أو حرف، يندد باعتقال هذا الرمز الذي تعاملوا معه سنين طويلة، منذ اتحاد الطلاب وهو طالب في كلية الطب، إلى ثورة يناير، كأن كل ذلك قد مُحي من حياة الرجل.

ثم يموت الرجل بالإهمال الطبي، والله أعلم هل هناك سبب آخر أم لا؟ وتكتب نقابة الأطباء نعيا، لأحد كوادرها السابقين، فيتم الضغط الإعلامي فيحذفوا النعي، ثم يكتبون اعتذارا في غاية السوء، أشبه باتهام للرجل البريء، صاحب الفضل على الكثيرين.

هذه بعض المظالم التي تعرض لها العريان من أناس لم يروا منه إلا كل خير، عاش هذه المظالم بعد ثورة يناير، وقبل الانقلاب، ورأى هذا التنكر، وربما لو رجعتم لمداخلة العريان مع الأستاذ محمود سعد في يوم أحداث الاتحادية، وكيف يستأسد سعد على العريان، ومواقف أخرى، بعضها يفسر لماذا كان العريان عصبي المزاج قبل الانقلاب بشهور قليلة، والبعض الآخر كان من إخوان له نفصل بعضها في مقالنا القادم لتكتمل الصورة عن الرجل الذي ظُلم من الجميع، رحمه الله وتقبله في الصالحين.  

Essamt74@hotmail.com