الأمن والأمان من المصطلحات التي دأب الإعلام الرسمي العربي على ربطها بحالة الاستقرار السياسي والاجتماعي التي كانت تميّز ممارسة السلطة في المنطقة مشرقا ومغربا. بقطع النظر عن زيف هذا الاستقرار الذي كان يُخفي أبشع الأنظمة القمعية كما هو الحال في الدول التي عرفت ثورات مؤخرا فإنه يعكس حالة من الإيهام العميق بالانعدام الحاجة إلى التغيير وهو جوهر الهدف من تدوير المصطلح واستغلاله.
لكنّ مفهومي الأمن والأمان عرفا تحوّلا كبيرا استعمالا وتوظيفا ودلالة خلال المدّة التي فصلت ما قبل ثورة تونس إلى حدود الوضع الراهن اليوم في الإقليم وما جاوره. خطورة المصطلح وخطورة دلالته وما يخفيه من معطيات تتجاوزه أبعادا وأهدافا إنما تكمن أساسا في قدرته على إظهار النظام السياسي بمظهر القادر على التوفير الانضباط الاجتماعي ومنع الانفلات بكافة أشكاله المدنية والمسلّحة. إنّ ما كشفته التحولات التي عرفتها المنطقة مؤخرا يُجبر على إعادة قراءة المفهوم والفضاء الدلالي المرتبط به من أجل المساهمة في تفكيك البنية المعجمية والذهنية التي تأسس عليها وعي الاستبداد وثقافته.
السلطة ومفهوم الأمن
يعتبر الأمن بأوجهه المختلفة الشرط الأول والأساسي لقيام أية سلطة سياسية أو مجتمع مستقرّ إذا لا يمكن الحديث عن دولة بشقيها السياسي والاجتماعي وكذلك الاقتصادي دون توفر شرط الأمن. الأمن هو المظهر الخارجي لبسط السيادة والقدرة على التحكم في الموارد البشرية والطبيعية وتوفيرها لصالح المجتمع بشكل يضمن استقراره وقدرته على الإنتاج بأشكاله المختلفة الذي هو أساس الدورة الاقتصادية بما هي شريان السلطة والمجتمع على حدّ سواء.
من هذه الزاوية فإن الأمن بالمفهوم العام الذي هو محاربة الجريمة بكل أصنافها وبسط سيادة القانون وفرض هيبة الدولة ليس إلا الوجه الأظهر له. إن القوات المسلحة العسكرية منها والمدنية ليست في الحقيقة إلا آخر الحلقات المكونة لمفهوم الأمن المصاحب لمقولة الاستقرار وانعدام الفوضى. الأمن الغذائي والأمن المالي والأمن الاقتصادي والأمن المائي والأمن الطاقي ... تمثل كلها مظهرا من المظاهر المشروطة بهذه المقولة . بل إن التطور التكنولوجي المتسارع الذي يعرفه العالم اليوم قد طرح منذ سنوات مسألة الأمن الرقمي أو السيبراني باعتباره مستوى حساسا من مستويات الأمن الذي يحمي الدولة ومؤسساتها من القرصنة والتحيّل.
يرتبط المفهوم من هذه الزاوية بمقولة الاكتفاء والتحكم أي أن تكون مؤسسات الدولة قادرة على توفير الاكتفاء من الغذاء والدواء والمرافق الحيوية للمجتمع وتكون قادرة على توزيعها والتحكم في طرق إدارتها. في حالة حدوث خلل في هذه القدرة ينعدم شرط الأمن كعجز الدولة مثلا عن توفير مواطن شغل مما يتسبب في الإضرار بأمن المجتمع واستقراره ويفتح الباب أمام كل الظواهر المرضية الناتجة عن هذا الانخرام في التوازن.
الأمن في منظار السلطة العربية
ارتبط أو رُبط لفظ الأمن اصطلاحا ودلالة في الدولة العربية بمفهوم الشرطة أو "البوليس" بشكل كبير حتى صار ملازما لهما بل إن قوات الشرطة صارت تحتكر مصطلح " قوات الأمن" بمختلف التشكيلات التابعة له والمنضوية تحته. عون الأمن صار هو الممثل الأساسي للمفهوم وهو الساهر على تطبيقه وليس المشرّع أو القاضي أو المحامي أو غيرهم من ممثلي السلطة القانونية.
إنّ محاولة حصر الأمن في السلطة التنفيذية الحاملة للسلاح يعدّ أخطر المغالطات التي مارسها النظام الرسمي العربي لأن قوات تنفيذ القانون ليست إلا الطرف الأخير في المعادلة الأمنية. بل إنّ كل مجالات تحرك السلطة التنفيذية إنما تتحدد بمستوى تفعيل بقية مستويات الأمن الاجتماعي والمالي والاقتصادي والسياسي. فإذا فُقد توازن الأمن الاجتماعي ممثلا في انعدام مواطن الشغل وإنهاك الطبقة الفقيرة والمتوسطة وانتشار الفساد ونهب المال العام فإنّ معدلات الجريمة والانحراف والتطرف وكل أشكال الاعتداءات على الأفراد والممتلكات ستنفجر ولن يكون في إمكان السلطة التنفيذية مهما بلغت من السطوة أن تواجهها.
إن وعي المرحلة الجديدة من عمر الأمة يستوجب إعادة النظر في المقولات والمفاهيم التي عمل الاستبداد وأذرعه الإعلامية والثقافية على ترسيخها بشكل يسمح بإقامة منظومة جديدة على أنقاضها.
بناء مفهوم الأمن في منظور السلطة العربية هو بناء معكوس في تصوره لأنه بناء يبدأ من قاعدة الهرم بدل أن يبدأ من قمته. إن توفّر الأمن في المجتمع والدولة لا يتحقق إلا بتحقق مستويات الأمن الأخرى مثل الأمن الغذائي والتعليمي والوظيفي والصحي والاقتصادي التي بدونها يفتقد الحديث عن الأمن كل دلالته.
في السنوات الأخيرة وحتى قبلها نجحت منظومات الحكم العربية في فرض معادلة الأمن والإرهاب وهو مصطلح عزيز على المنصات الإعلامية والسياسية العربية. الأمن هو الوجه المقابل للإرهاب الذي تمّ تصعيده ليصبح مدار الأمن القومي في البلاد العربية خاصة بعد ان أعلنت الإدارة الأمريكية غداة اعتداءات 2001 الحرب الكونية على الإرهاب. فلا حرب على البطالة ولا على الفساد ولا على تردي المنظومة الصحية والتعليمية وانهيار القدرة الشرائية والبنى التحتية التي هي في الحقيقة أصل الإرهاب الحقيقي وسببه وصانعه.
من جهة أخرى ألمْ يكن غزو العراق للكويت طعنة لأمن العراق وأمن الأمة قبل أمن الكويت؟ أليس غزو اليمن اليوم تهديدا لأمن العمق السعودي؟ أليس التدخل المصري والإماراتي في ليبيا تهديدا مباشرا لأمن القاهرة؟ ماذا يسمى حصار قطر والتهديد بغزوها غير تهديد أمن كل الخليج؟
الأمن بعد ثورات الربيع
من المفيد تحليليا استدعاء دروس ثورات الشعوب وتداعياتها لإعادة اختبار تداعيات مفهوم الأمن ودلالته في المخيال الجمعي العربي وفي الواقع. إن أول ما أثبتته الثورات هو أنّ الأمن والأمان والاستقرار والسلم الاجتماعي ليست إلا شعارات جوفاء تغطي فساد سلسلة من الأنظمة القمعية. إنّ الانفجار الكبير الذي دشنته ثورة تونس مطالبة بالحرية والكرامة والحق في التشغيل إنما يمثل دليلا دامغا على فشل منظومة الأمن الحقيقي في المحافظة عليه. بل إنها أكدّت على أنّ الأمن ليس إلا مفهوما وظيفيا يتعلق بأمن النظام وسلامته وبقائه في السلطة لا بأمن الدولة: إنه أمن الحزب الحاكم لا أمن الشعب.
الأخطر من ذلك هو أنّ أمن النظام الاستبدادي الحاكم واستقراره رغم كل فساده وجرائمه إنما يتأسس على محاربة الشعب أي أنّ الأمن بمفهومه العربي لا يقي من العدو الخارجي ولا من الفساد والجريمة بل يتوقّى أول ما يتوقّى من الشعب نفسه الذي قد يثور فيهدد أمن النظام. إن مظاهر القمع الدامية والقنص المتعمد الذي وصل إلى حدود إحراق الناس أحياء في الشوارع مثلما حدث في مجزرة رابعة بمصر أو قصف المدن والقرى بالبراميل المتفجرة إنما يمثل أحد تجليات مفهوم الأمن ومحاربة الإرهاب في عرف السلطة العربية.
كانت مقولة الأمن في قلب مشروع الثورات المضادة وأحد أبرز مخزونها الاستراتيجي من المفاهيم والمقولات حيث اعتبرت الثورات نقيضا للأمن وتهديدا له فحركت أذرعها الإعلامية والدينية بالدفع بمقولات الفوضى والخراب إلى السطح. فماذا جلبت لنا الثورات غير الفوضى والاقتتال والتناحر؟ وماذا حقق الخريف الإسلامي حسب مقولاتهم غير دمار الأوطان وتشريد الملايين ؟ هكذا عملت آلة الاستبداد الإعلامية على تحميل الشعوب أسباب انخرام الأمن منكرة أنّ الثورات كانت سلمية في منطلقاتها ومساراتها حتى واجهها النظام بالرصاص والدبابات والقناصة.
النظام الرسمي العربي هو الذي سلّح الثورات وجرّها إلى مربع العنف وهو الذي أثبت زيف مقولة الأمن التي لم تكن تعني في الحقيقة عنده غير قمع الشعب والتنكيل به إذا طالب بحقوقه. هكذا سقطت أكذوبة الأمن والأمان فلا أمن مع الاستبداد ولا أمان مع القمع ولا استقرار دون حرية الشعب وكرامته.
هكذا غيّرت ثورات الشعوب معادلة الأمن مقابلة مصادرة الحرية التي فرضتها منوالات الحكم العربية ونسفت مقولة إمكان الأمن في ظل السلطة المستبدة وهي اليوم تؤسس لعقد اجتماعي وسياسي جديد يقوم على توازن الحرية والأمن فلا وجود لأحدهما دون الآخر ولا إمكان للأول دون الثاني. فحتى مقولة الفتنة التي أخرجتها ملحقات النظام الدينية من رفوفها القديمة لتسلّح بها وعي الثورات المضادة لم تؤت أكلها لأن الفتنة الحقيقة هي فتنة تحالف الطغاة مع الغزاة في سبيل وأد كل نفس قادر على استرجاع السيادة والأرض والثروات.
بناء على ما تقدّم فإن وعي المرحلة الجديدة من عمر الأمة يستوجب إعادة النظر في المقولات والمفاهيم التي عمل الاستبداد وأذرعه الإعلامية والثقافية على ترسيخها بشكل يسمح بإقامة منظومة جديدة على أنقاضها. إن تفكيك هذا البناء الاصطلاحي والمفاهيمي هو أحد المداخل الأساسية لبناء وعي قادر على مواجهة تحديات المرحلة القادمة. ليس الأمن إذن مقولة منزّلة تحرسها فيالق قوات مدججة بالسلاح وزنازين مكتظة بالمعتقلين بل هو حرية الفرد واكتفاؤه وقدرته على الفعل والتحرر من كل أشكال الاستبداد والفساد والانحراف عن طريق الوعي السليم والتعليم الهادف ليحقق بنفسه أمنه وأمن محيطه وأمن وطنه وأمن أمته.
لماذا كل هذا البون في فرعي العربية؟
السعودية ومساعي التلغيم الدستوري للحكومة المقبلة
هل أوقفت السلطة الفلسطينية العمل بالاتفاقيات مع الصهاينة؟