في الوقت الذي لا تملك فيه الفلسفات والأفكار البشرية إجابات مقنعة عن جملة الأسئلة الوجودية التي طالما أشغلت العقل الإنساني، وحفزته بشكل دائم على التفكير العميق بها، تقدم العقائد الدينية إجابات متميزة عن تلك الأسئلة الوجودية بحسب أتباع تلك العقائد المؤمنين بها.
كما تمنح العقائد الدينية أتباعها يقينا وطمأنينة وسكينة تجعل الإنسان المؤمن مدركا لمقصد وجوده في هذه الحياة، متصالحا مع نفسه، عاملا بجد واجتهاد لتحقيق مقصد وجوده ما يورثه طمأنينة النفس، وهدوء البال، والرضا عما يصيبه ويواجهه من أعباء الدنيا ومصائبها المختلفة.
وعادة ما يُشار في الأوساط الدينية إلى أن شيوع أنماط الحياة المادية النابذة للدين والمعرضة عن تعاليمه يفضي إلى الوقوع في جملة من الأمراض النفسية كالقلق والاكتئاب والخوف والرهاب وارتفاع نسب الانتحار، وبالتالي اللجوء إلى الأدوية المنومة والمهدئة والمخدرة لمواجهة تلك الأمراض، والتخفيف من أعراضها وتأثيراتها المقلقة والمزعجة.
وفي هذا الإطار ذكر المفكر الهندي وحيد الدين خان في كتابه (الإسلام يتحدى) أن "سبب الأمراض النفسية (نبذ الدين والحرمان منه) حقيقة جلية اعترف بها علماء النفس، وقد لخص عالم النفس السويسري الشهير (C.G.Gung) تجاربه عنها في الكلمات التالية "طلب مني أناس كثيرون من جميع الدول المتحضرة مشورة لأمراضهم النفسية في السنوات الثلاثين الأخيرة، ولم تكن مشكلة أحد من هؤلاء المرضى ـ الذين جاوزوا النصف الأول من حياتهم، وهو ما بعد 35 سنة، إلا الحرمان من العقيدة الدينية الصحيحة".
لكن ثمة من يثير التساؤل حول طبيعة العلاقة بين العقائد الدينية والأمراض والمشاكل النفسية، فإن كانت تمنح أتباعها ذلك اليقين وتلك الطمأنينة فكيف يكون يكونون عرضة للإصابة بتلك الأمراض والمشاكل النفسية على مختلف مسمياتها ومستوياتها، وهو ما يصيب المتدينين تماما كما يصيب غيرهم؟ وبصياغة أخرى: هل الأديان تكسب أتباعها حصانة ضد الأمراض النفسية؟.
ولتوضيح ذلك قال الخبير والمعالج النفسي الأردني، الدكتور أحمد عيد "الأمراض النفسية مختلفة، وأسبابها متعددة، وهي تصيب جميع الناس بصرف النظر عن دينهم ودرجة تدين المتدينين منهم، والجميع بحاجة إلى علاج، وعلاجها يكون علاجا دوائيا، وعلاجيا سلوكيا معرفيا".
وأضاف لـ"عربي21": "بعض الأمراض النفسية لها أسباب فسيولوجية وأسباب وراثية، ومنها ما له أسباب وعوامل بيئية ومجتمعية، وأتباع الديانات كغيرهم عرضة للإصابة بهذه الأمراض، فهي كالأمراض العضوية التي تصيب الناس جميعا، ولا فرق بين المتدينين وغيرهم في هذا المجال".
وتابع "دور الدين في التخفيف من أعباء الأمراض والضغوط النفسية يكون في تأثيره على المتدينين الذين يصابون بتلك الأمراض ويقعون في تلك المشاكل، حيث يشكل العلاج الديني عاملا قويا ومساعدا في تجاوز حالة المرض، وعبور مرحلة الضغوط النفسية المقلقة بسلام، باستحضار مفاهيم القضاء والقدر، والرضا بما قسمه الله للإنسان، وأن يكون الإنسان متوكلا على الله في كل شؤونه وأحواله".
ولفت عيد إلى وجود فرع من علم النفس يُعرف بـ"علم النفس الديني" يعنى بدراسة الظواهر الدينية بالتركيز على سلوكيات المتدينين، وما يؤثر فيها ويحكمها من انفعالات، بما يساعد على فهم تلك السلوكيات وتحليلها، لتسهيل ضبطها وتعديل ما يحتاج إلى تعديل منها، وتقويمها في حالة الجنوح عن السلامة النفسية والسلوكية".
وعن نوعية الأمراض التي يصاب بها الشخص المتدين، ذكر عيد أنه عرضة للإصابة بكافة الأمراض النفسية المختلفة، لكن ما يلاحظ أنه إذا ما أصيب بالوسواس مثلا فمن الوارد جدا انعكاسه على سلوكياته التعبدية في وضوئه وصلاته وسائر عباداته، لذا غالبا ما نجده يتشكك في وضوئه وصلاته، وربما أعاد الوضوء والصلاة أكثر من مرة وهكذا".
بدروه رأى الباحث في فلسفة الأديان وعلم الاجتماع الديني، فيليب مدانات أن "الأديان عادة ما تقدم لأتباعها توصيفا تُصنف فيه الهموم والمشاكل النفسية باعتبارها نتيجة للبعد عن العلاقة الصحيحة مع الله، وابتعاد الإنسان عن مصدر راحته الحقيقي" لافتا إلى أن "الإيمان المسيحي يقدم العلاج الدائم والأبدي في تصحيح علاقة الإنسان بالله، عبر تشكيل إرادته وفق ما يريده الرب منه".
أما عن مدى إصابة المتدين المسيحي بالأمراض النفسية، فأكدّ مدانات أنه عرضة للإصابة بتلك الأمراض كغيره من الناس، وأنه في حالة ظهور أعراض أمراض نفسيه فعلى المريض مراجعة الأطباء المختصين في العلاج النفسي أولا، وليس مراجعة الكاهن لأن الأخير ليس لديه قدرة على تشخيص حالة المريض.
وأضاف في حديثه لـ"عربي21": "وعلى الكاهن إذا ما استشاره أي مؤمن مسيحي في مشكلة نفسية أو اجتماعية، فإن وجد أن أسبابها مرضية فينصحه بمراجعة الأطباء النفسيين، والمعالجين النفسيين، أما إن كانت أسبابها روحانية فيعالجه علاجا روحانيا وهو علاج معروف في الكنائس على أيدي كهنة مخولين بذلك".
وشدد على أن "الإيمان المسيحي في جوهره الديني، يقدم الحل الأبعد والأبدي والأسمى، المتمثل في المصالحة مع الله، مستشهدا بما جاء في الكتاب المقدس "اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ،لأن نيري هيِّن وحِمْلي خفيف." (مت 11: 29 ـ 30).
بدوره قال الداعية والباحث الإسلامي المقيم في أمريكا، محمد الحايك "ثمة علاقة إيجابية بين التدين بوجه عام وبين الصحة النفسية، هذا ما تؤكده أغلب الدراسات والبحوث العلمية المنشورة خلال الثلاثين عاما الماضية".
واستدل الحايك في حواره مع "عربي21" بما أورده مركز بيو للبحث Pew Research Center في تقريره الصادر العام الماضي من أن تحليل نتائج 175 دراسة علمية من أصل 224 دراسة علمية منذ بداية القرن الحالي يؤكد تلك العلاقة الإيجابية بين الدين من جهة والرضا والسعادة والثقة النفسية..".
وتابع: "لكن قد يتخلف هذا الأثر في بعض أتباع الأديان، بسبب هشاشة تدينهم، وقد يكون تخلف أثر الدين في الصحة النفسية راجع لانحراف في بعض نواحي التدين، وهو ما تشير إليه بعض الدراسات والبحوث".
وأكدّ الحايك أن "القرآن الكريم والسنة النبوية يتضمنان أدلة كثيرة على هذه العلاقة الإيجابية بين الإيمان بالله تعالى وصفاته رحمة وحكمة ولطفا وقضاء وقدرا من جهة وبين الصبر والرضا والاحتساب والأمل وغيرها من مفردات ومقومات الصحة والسلامة النفسية".
وأردف "كما نجد في القرآن والسنة جملة وافية من الآيات والأذكار والأدعية للوقاية والعلاج من الآفات والأمراض النفسية، وبعض هذه الأدعية والأذكار يذكر مفردات محددة كالهم والغم والحزن، وهي مرادفات لمصطلحات شائعة ومعروفة في حقل الأمراض النفسية اليوم".
وعن تعرض المسلمين للأمراض النفسية المختلفة، لفت الحايك إلى أن "المسألة جد معقدة، وثمة تداخل شديد في الأسباب والعوامل، فثمة أمراض نفسية يصاب بها جميع الناس بما فيهم أتباع الديانات، مع أن البعد الإيماني/ الروحي حاضر بقوة ويؤثر في الحالة النفسية ،ولا ينكره أي باحث منصف".
وختم حديثه بالإشارة إلى أن "صدق التدين ودرجة الإيمان، وروحانية المؤمن ذكرا ودعاء وصلاة من أهم العوامل المؤثرة في سلامة النفس المسلمة، ودرجة تعافيها مما يعاني منه الناس من حالات التوتر والقلق والاكتئاب وما إلى ذلك من مشاكل نفسية مختلفة".
"أزهر الجزائر".. المسجد الأعظم على الأرض "المحمدية" (1من2)
التفكير الديني خارج الصندوق إبداع وتجديد أم تمرد وتبديد؟
لماذا لم يكن القرآن الكريم كله مُحكما؟ باحثون يجيبون