يُعد كتاب "الجذور التاريخية للشعوبية" للدكتور عبدالعزيز الدوري –على إيجازه- من الكتب الرائدة التي بحثت في شأن الشعوبية في التاريخ الإسلامي (العهدين الأموي والعباسي)، ورغم أنّ الكتاب صدر قبل ثمانية وخمسين عامًا (عام 1962م) فإنه لا يزال المرجع الأساسي في الحديث عن الأزمة التي شهدتها علاقات العرب بالشعوب التي خضعت لسلطانهم في ظل الدولة الإسلامية.
في هذا الكتاب يعرض الدوري لنشأة الحركة الشعوبية في العهد الأموي كحركة تعمل باسم المبادئ الإسلامية، داعيةً إلى المساواة بين العرب وبقية المسلمين، استنادًا إلى تعاليم الإسلام التي تجعل من التقوى أساسًا للتمايز بين المسلمين بصرف النظر عن العروق والأجناس.
وتركّز نشاط هذه الحركة بين الموالي في العراق وبلاد فارس تحديدًا، إذ اتّهم الموالي السلطانَ العربيَ بأنه اضطهدهم واحتقرهم؛ فقد كانت العرب ترفض تزويج بناتهم للموالي كما كانت تأنف من الزواج من بناتهم. كما أنهم حُرموا –في العهد الأموي- من الأعطيات في الحروب والفتوحات، فقد كانت الأعطيات مقتصرةً على العرب.
ووصلت الاستهانة بهم إلى الدرجة التي فرض فيها الحجّاج الثقفي الجزيةَ عليهم. وتزعّم هذه الحركة في العهد الأموي: إسماعيل بن يسار والجعد بن درهم.
ثم تطورت الحركة وانتقلت من طور المساواة إلى الطعن في العرب والحط من شأنهم، وإلى المطالبة باستعادة الأمجاد الفارسية السابقة، فهذا إسماعيل بن يسار يقول:
واسألي إن جهلتِ عنا وعنكم / كيف كنا في سالف الأحقاب
إذ نربي بناتنا وتدسون / سفاها بناتكم في الترابِ
وانتقل المد الشعوبي بين بعض المفسرين والعلماء، ففسروا -على سبيل المثال- الآية القرآنية: "وجعلناكم شعوبًا وقبائلَ لتتعارفوا" بقولهم: "الشعوب من العجم والقبائل من العرب، والمقدم أفضل من المؤخر".
وقد حافظت الدولة الأموية على عروبة المناصب وعلى النزعة القبلية، لذلك انتسب الكثير من الموالي والفرس إلى الدعوة العباسية، كما أن الغلاة وأصحاب الديانات القديمة أيدوها وناصروها (وقد احتفظوا بالمفاهيم الأساسية للمجوسية وغلفوها بغلاف إسلامي أضفوا عليه صبغة علوية على الرغم من أنّ أئمة العلوية تبرأوا منهم).
وقد اشتد ساعد الشعوبية في العهد العباسي بسبب طبيعة الدولة التي اعتمدت عليهم، فصار منهم الوزراء والكتّاب والقادة؛ فكشفت الشعوبية عن وجهها القبيح –كما يرى الدوري- بشكل جليٍّ وسافر.
فأصبحت الشعوبية "تمثل اجتماع الجهد الذي بذلته فئات مختلفة من شعوب متعددة لزعزعة السلطان العربي، أو لإضعاف الإسلام وإرباكه، ولصد تيار الثقافة العربية الإسلامية، ولنسف التراث، كما حاولت تركيز الوعي السياسي والديني بين صفوفها وإحياء تراثها الثقافي".
فأخذ مثقفو الشعوبية بترجمة كتبهم الثقافية والدينية وإنشاء التآليف التي تعيد إشعال فتيل الحضارات السابقة؛ فترجم ابن المقفع "كتاب مزدك" وألّف كتابًا مطعمًا بالمانوية يقوم على نقد المفاهيم الإسلامية والتشكيك فيها بطريقة تأويلية، وأضاف باب برزويه إلى كتاب "كليلة ودمنة" للترويج للمانوية.
وهدفت حركة الترجمة عن الفارسية إلى إحياء العادات والتراث والتقاليد، وهي حركة مستقلة عن حركة الترجمة التي تبّناها الخلفاء، فترجموا كتاب سير الملوك (خداينامة) وكتاب (اختيار نامة) أو سيرة الفرس الذي ترجمه اسحق بن يزيد وترجموا عددا من الكتب الدينية.
وقام الشعوبيون أيضًا بحركة ترجمة معاكسة إلى الفارسية بهدف إحياء اللّغة الفارسية والحفاظ عليها من الضياع، فاللّغة وعاء الهوية.
وفي المقابل انصبّ هجوم الشعوبية على جذور العرب وأصولهم؛ "فهي تهاجم العرب قبل الإسلام وتتهمهم في كل شيء، في أسلوب حياتهم، في مطاعمهم وملابسهم، في فصاحتهم وخطبهم، في أساليب قتالهم، في أنسابهم، في علاقتهم الاجتماعية، في كرمهم، في مقاييسهم الخلقية وفي مروءتهم".
فانتشرت مؤلفاتهم الطاعنة في العرب من مثل كتاب البختكان "فضل العجم على العرب وافتخارها" وانبرى شعراء الفرس في تبادل الهجاء مع شعراء العرب، فهذا شاعر فارسي ينشد أمام الصاحب بن عبّاد:
فلستُ بتاركٍ إيوان كسرى / لتوضحَ أو لحوملَ فالدخولِ
وضبٍ في الفلا ساعٍ وذئب / بها يعوي وليثٍ وسط غيل
أرادت الشعوبية أن تظهر العرب بوصفهم مجموعةً من القبائل التي ليس لها نصيب من الحضارة ولا ملك ينظمهم (نفوا عنهم صفة الأمة) ولا علم ولا فلسفة ولا فلاحة ولا طب، وأن أساليبهم في القتال بدائية وأنهم يأكلون الضباب والأفاعي والجرذان. كما طعنوا في أنساب العرب وقالوا إنها منحولة ومدخولة، وقالوا إن إسحق أبو العجم وإسماعيل أبو العرب، والأول ابن سيدة أما الآخر فهو ابن جارية.
ووضعوا الأحاديث على لسان الرسول(صلى الله عليه وسلم) في تفضيل العجم على العرب، مثل الحديث القائل: "لا تسبوا فارسا فما سبه أحد إلا انتقم الله منه عاجلا أو آجلا".
وأيضا نسبوا حديثًا للرسول عن الفرس يقول: "لأنا بهم أوثق مني بكم"، وفسروا الآية القرآنية في سورة محمد: "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم" حين سئل الرسول عن القوم فضرب الرسول على منكب سلمان الفارسي ثم قال: هذا وقومه.
وسخروا من فكرة الشرف عند العرب ونظرتهم إلى المرأة ومن الكرم العربي، وواجهوا منظومة القيم العربية بالمجون والشراب وجاهروا بالخلاعة والانحراف الجنسي.
وفي المقابل كانت ردة فعل العرب عنيفة ولا تقل قوة عن الهجمة الشعوبية؛ فوضعوا الأحاديث في تفضيل العرب؛ فقالوا على لسان الرسول: "من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي"، وقالوا على لسانه أيضا: "أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة في الجنة عربي".
كما اعتنوا بالشعر العربي وجمعوه وحققوه، واستخدموه في تفسير القرآن وشواهد النحو، وعدوه سجلا لأنساب العرب وأيامهم ومآثرهم (الحماسة والمفضليات).
وانبرى الكتّاب مدافعين عن العرب كالجاحظ في "البيان والتبيين" وابن قتيبة في "كتاب المعارف"، اللذين جعلا من الشعر مادة المعرفة.
وأخذوا في تأليف الكتب التاريخية التي تظهر دور العرب الضخم في نشر راية الإسلام وتكوين الدولة الإسلامية، مثل كتاب "فتوح البلدان" للبلاذري.
وعلى الرغم من أهمية الكتاب فإنّه يلاحظ على المؤلف انحيازه المسبّق للجانب العربي، فهو يقلل من شأن الظلم الذي كان يقع على الموالي في العصر الأموي، ويجد له المسوغات..
في حين يَعد الشعوبية على المطلق حركة عنصرية حاقدة فتحت أبوابها لكل الجهات المعادية والناقمة على الإسلام والعرب لأخذ ثأرها.