الحديث عن الأمن القومي
العربي، مرتبط دوما بـ"التحديات" الخارجية التي ما انفك الطاغية العربي
يتذرع بها بعد كل جولة من جولات الهزائم التي تصيبه في مواجهة تحديات حقيقية
داخليا وخارجيا، فيختار دوما التذرع بالخارج لتوجيه رسائل داخلية متعلقة بإطباق
شمولية القمع والقهر على المجتمعات العربية.
ويبرز النموذجان السوري
والمصري كمعيار مدوٍ لسقوط مفهوم الأمن القومي العربي، في ظل استخداماته الجديدة في
أبو ظبي والرياض، مع سياسة كانت نتيجتها الحتمية تفكك وتشظي ادعاءات وجود "أمن
قومي عربي" بأبعاده وسوياته المتعددة، أو سياسات
ادعت قدرتها على إمكانية تجاوز الهزائم المتتالية، بل وعلى تحقيق انتصار ساحق
بأسرع من وعد الهدهد بقدرته على إحضار عرش بلقيس.
المتلقي العربي يدرك بحدود
قراءته الدنيا، أن ذلك الانتصار لم يكن مجرد شعار سلطوي يستخدم في تراتبية شرائح
النظام الرسمي العربي المسيطر والمستمر بآلية القمع والتسلط والفساد، بل كان حلما يوتوبيا تغذت عليه قوى وأحزاب وحركات ومثقفون؛ يبررون كل لحظة للطاغية سلوكه
ومنهجه تحت الشعار الكبير "للأمن القومي العربي"، لتحقيق ذلك الانتصار
عبر ممارسات لا تتعدى ديماغوجية هذه الشرائح الساعية لتحسين مواقعها واصطفافاتها
المترهلة في هرم النظام الرسمي العربي، وهي قد بررت في الاحتكام لهذا الشعار تأييدها
لسلوك نظام الأسد في سوريا وعبد الفتاح السيسي في مصر.
مفهوم الأمن القومي العربي لدى
تيارات وأحزاب وقوى ظل ملتبسا، كما هو حال استخدامه من قبل الطاغية العربي،
وخطابيا وحماسيا في شكله.
فالتنظيرات التي يقدمها
السيسي في مصر مؤخرا عن الأمن القومي في سيناء وليبيا وغزة، وغياب شبه كلي لها إلى حد التآمر بما يتعلق بالأمن الحقيقي الذي يهدد مصر في مياه النيل، إضافة إلى انحدار مكانة ووزن السياسة المصرية على الصعيد العربي والإقليمي والدولي، خصوصا في عهد انقلاب السيسي، كل ذلك يكشف عن خطورة الدور الذي تقوم به سياسة عربية قائمة
على المناكفة والتآمر المباشر والواضح على الأمن القومي العربي، فضلا عن إحباط
معنوي، وتآكل داخلي مع أزمة حضارية مستعصية في تكرار فشل مريع عن الأمن والاقتصاد
والسياسة، وأحاله لشحنة عاطفية مشبعة بمعاني التفاخر والتباهي الفارغان بهما،
بينما جل السياسة المتصلة بذلك تهدف لبسط سيطرة الطاغية على مفاصل الحكم والمجتمع،
وإحالة الفشل الكلي على المواطن المتهم "الأول والأخير" بتحمل المسؤولية،
لإبراء ذمة الطاغية وتسويرها بخطوط حمراء.
الخطوط التي رسمها النظام
في مصر للأمن القومي لمصر، ليست بحاجة لنبش أسرارها لمعرفة المقصود منها في ملفات
عدة، من الرياض إلى أبو ظبي والقاهرة وتل أبيب ودمشق وبنغازي.. كلها مرتبطة
بالمعيقات الذاتية للاستبداد والاحتلال للأمن الحقيقي، وبقابلية أكثر للتخفي
والتمظهر في أشكال مقنعة تنحو باضطراد لتعميق التمايز بينها وبين الأمن القومي
للنظام العربي المرتبط بتأمين أمن "إسرائيل"، مما أدى إلى توليد شروط
وخصائص تميز لهذا المفهوم. فكل حديث عن الأمن القومي هو شيفرة رسائل وسياسات
اطمئنان للمحتل ورسائل أقوى وأغلظ وأشد فتكا نحو الداخل العربي.
وخلاصة القول: إن معيقات
تحقيق الأمن العربي، هي من النوع المزمن المرتبط بوجود الطاغية والمستبد والمحتل،
ضمن ثلاثية لا ينبغي التهرب من الإقرار بفاعليتها، وتمكنها من وضع العراقيل في
طريق تحقيق أمن غذائي ومائي وسياسي وسيادي محكوم بتعطيل كل وسائل الحرية والديمقراطية
والمواطنة، كأسلحة لا تصدأ ولا تنضب لمواجهة مختلف التحديات.
ومن الواضح أن الأحداث الدراماتيكية
التي رافقت اهتزاز صورة الطاغية العربي وهزيمته كانت مفاجئة؛ في لحظة "انتباهه"
لأمنه القومي المهدد بحرية وكرامة شعوب أخرى تهدد وظيفته، لكنه غير آبه بخردقة
واختراق أمنه صباح مساء من عدو محتل أرضه، فهو منشغل بتدمير المدن والقرى وتهجير
الملايين أو بزج عشرات الآلاف من البشر في الزنازين، أو إدارة ملفات الاقتصاد
والسياسة بحسابات ومرتكزات قابلة أكثر للضعف، والتحطيم المرحلي والجزئي للأمن
القومي، ليتسيد الأمن الإسرائيلي في برامج عمل الطاغية الوريث والمنقلب والمستبد؛
الذي يلخص الأمن القومي للعربي في زنزانة وقبر أو منفى وقهر.
أمراض السلطة وتحديات الإصلاح السياسي والتغيير السلمي بالعالم العربي
تحديات تواجه العمل الخيري العربي: فلسفة نظام الحكم (1)