المنطقة العربية وحدها هي التي استعصت على الخيار الديمقراطي، بينما ساعدت واشنطن شرق أوروبا وأفريقيا على التحول الديمقراطي.
وهناك سببان لهذا الموقف: الأول أن
الديمقراطية في شرق أوروبا والنظم الشيوعية السابقة هو تحصين لهذه الدول ضد الارتداد إلى الشيوعية، خاصة وأن واشنطن اعتبرت التحول الديمقراطي جزءا من معركة تحلل النظم الشيوعية. والسبب الثاني هو أن واشنطن تستخدم الدكتاتورية العربية لقمع الشعوب ونهبها حتى تظل إسرائيل في مأمن والتباهي بزعم أنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، خاصة وأن هذا الهدف وهو محاربة الديمقراطية في مصر بالذات والعرب عموما. تشترك في ذلك واشنطن مع بقية الدول الكبرى، خاصة موسكو وبكين حيث تلعب واشنطن معهما بورقة غياب الديمقراطية وحقوق الإنسان حسبما تواتيها الفرصة.
ولذلك، فإن هذه الدول جميعا انزعجت بقيام الثورات العربية وسارعت إلى إخمادها، خاصة عندما تصدرتها التيارات الإسلامية. ونحن نعلم أن هذه التيارات تسبب مشاكل لكل من موسكو وبكين، حتى أن مجمل سياساتها في المنطقة العربية محكومة بالعداء للتيارات الإسلامية.
وأمراض
السلطة عموما تصيب كل من هو في السلطة حتى في الدول الديمقراطية، خاصة إذا امتدت سنوات الحكم، رغم أنها منتخبة ومحاطة بكل مؤسسات وضمانات الاستقامة السياسية. ولكن السلطة الممتدة حتى لو كانت مقيدة تتفاعل مع الأنا الشخصية وتغير في هرموناتها. وقد فصل وزير خارجية بريطانيا في منتصف الستينيات، وهو أستاذ في التحليل النفسي، ذلك في كتابه القيّم بعنوان "أمراض السلطة". ولذلك، فإن رجل السلطة يمرض إذا انصرفت عنه أضواء السلطة، وبعضهم يصاب بالجنون خاصة في الدول المتخلفة.
ورغم أن السلطة في الدول الديمقراطية مكبلة بالقيود والرقابة والمساءلة وليس فيها أية مزايا شخصية، إلا أن الاستمرار في السلطة هو أهم معايير النجاح والكفاءة، ويكون الاستمرار في السلطة مكافأة للحاكم مستحقة ما دامت إنجازاته تكفل تأييد الشعب له.
أما في النظم العربية، فإن السلطة تقترن بكل المزايا والاستحواذ على الحجر والبشر. وتستند السلطة إلى عامل خارجي، ولذلك يحدث تحالف مكتوب بين العامل الأجنبي والسلطة المحلية، بحيث يحصل العامل الأجنبي على ولاء الحاكم، وخيرات البلاد قسمة بين الأجنبي والحاكم. ولذلك تفقد البلاد استقلالها.
ويكون المقابل الذي يحصل عليه الحاكم من الأجنبي هو إطلاق يده في بلاده، فيستذل شعبه ويستبد بكل شؤونه ويسجن ناقديه ومعارضيه، ويتصرف كمالك البلاد والعباد، فلا يصلح معه قانون أو دستور.
وهذه قاعدة تنطبق على كل النظم العربية لأن جوهرها واحد، ولكنها تتخذ ثلاثة أشكال: الأول هو النظم الأسرية (وليست ملكية)، والنظم الحزبية، والنظم العسكرية.
لهذه الأسباب يستميت الحاكم في السلطة. وفي مصر لم نشهد رئيسا سابقا إلا مبارك الذي أطاحت به ثورة يناير، وبموافقة المجلس العسكرى وترتيبه أيضا. ولذلك فإن الشعب لا يُعترف به في هذه النظم، وأعدى أعدائها ذوو العقول والعلماء والمستقلون عن هيمنتهم والمستغنون عن عطاياهم، وهم أقلية نادرة.
فى هذه النظم تركز على ولاء الأشخاص وليس كفاءتهم، ولذلك يتحول المجتمع إلى داعين للنظام منتفعين، أو داعمين له كالقطيع بفعل الإعلام الذي يتولى تغييب العقول.
وما دامت شرعية النظام تعتمد على موالاة الخارج والقهر في الداخل، فيسمو الخارج والأمن على ما عداه.
والأخطر أن الحاكم العربي يحس دائما بأن حكمه مهدد، ولذلك يكثر من المؤلفة قلوبهم. وهم يطمحون إلى خير الوطن ولكنهم لا يكنون الولاء له، وإنما يريدون أن تدوم النعمة في ظل أي حاكم.
ومن علامات المرض السلطوى في
العالم العربي أن الحاكم يعتقد خطأ أو صوابا أنه الوطن، وأن الوطن بدونه مهدد، بل وأن الوطن ولد يوم ولد الزعيم ويزول يوم يموت الزعيم. وقد زيّن الزبانية وحاملو المباخر هذا الزعم عند الحاكم العربي، ولا فرق بين النظم الثلاثة (أسري/ عسكري/ حزبي)، أو بين نظم ملكية ونظم جمهورية، وهو تقسيم خاطئ في العالم العربي وإساءة إلى كل من النظم الجمهورية والنظم الملكية.
ويعرف الحاكم العربي أن الخارج هو الذي نصبه وأنه عندما تنتهى خدماته سوف ينتهى حكمه، أي أنه لا يملك لنفسه نفعا ولاضرا، وأن انتقاد الخارج لسجل حقوق الإنسان في بلده هو تسجيل عليه للضغط عند اللزوم، وكذلك التلويج بالديمقراطية كعقاب للحاكم الذي لا يستقيم مع هذا الخارج. وهو يعلم جيدا أن هذه الانتقادات غير جادة وإن كانت الوقائع حقيقية. وإذا وقع الانتهاك ضد أحد رعايا الخارج من أصل عربي، فإن التعليمات تصدر للحاكم وينقل فورا إلى الخارج بترتيب من الدولة الأجنبية.
ورغم كل هذه الأوضاع، تحفل الدساتير العربية الوهمية بكل سمات الحكم الديمقراطي ودولة القانون والمؤسسات والاستقلال والوطنية، ويزدحم الخطاب السياسي العربي بأعلى لهجة حول الاستقلال والكرامة الوطنية. ويضيق المقام عن حصر الأمثلة التي حدثت في المنطقة خلال نصف القرن الماضي.
وتبين لنا أن معاداة إسرائيل والقومية وكل هذه الشعارات، بما فيها الحرية، استخدمت للتغطية على العكس تماما. وكانت اللحظة الفارقة بين الحقيقة والوهم هي نكبة 1967 ثم كامب ديفيد 1979، وما أعقبهما من انهيارات في كل المنطقة. ولكن أمراض السلطة في العالم العربي تتفاقم إلى درجة أن الحاكم المريض لا يشعر بالمرض، كما لا يملك علاجا له إلا بزوال ملكه، وهو ليس في يده. وأرجو أن يتحداني أحد في كل هذه المقولات والواقع.
وتتطور أمراض السلطة لدرجة أن الحاكم يشعر بأن المطالبة بالإصلاح إهانة، وأي نقد إساءة إلى الوطن والولاء له، لدرجة أن أحد خريجي الجامعات الأجنبية في العلوم السياسية اعتبر أن الترشح ضد الرئيس مبارك خروج عن حدود الأدب وعدم امتنان لما يقدمه الرئيس للوطن، فهو صاحب نصر أكتوبر ومن حقه أن يحكم مدى الحياة.
فأمراض السلطة العربية تسوي بين الوجود في السلطة والوجود في الحياة، وأي محاولة للإصلاح السياسي تهديد لحياة الزعيم ونكران للجميل. فقد كان مبارك يردد دائما أن على الشعب أن يختار بينه بكل ما يعنيه من توريث وفساد، وبين الفوضى. فالحاكم العربي خيار الله وقدره ولا بد من الصبر عليه في المنشط والمكره، فهو ولي الأمر الذي تجب طاعته، وأن هذه الطاعة واجب ديني.
بقى أن نجتهد في محاولة تفسير أمراض السلطة، أي التمسك بها إلى حد الموت دونها. تظهر أمامنا أربع نظريات: الأولى هي أن تمسك الحاكم واستماتته على السلطة قدر إلهي، فلا يملك إلا أن يمتثل لهذا القدر وألا يتململ منه، وأن السلطة عبء عليه وليست ترفا. وقد قال مبارك في أول عهده إن الكفن ليس له جيوب.
النظرية الثانية هي أن تمسك الحاكم بالسلطة بسبب الامتيازات وعدم المساءلة وشراء الولاءات، فإن صار الحكم للأكفاء وخدمة عامة انصرف الناس جميعا عن أي منصب.
النظرية الثالثة هي أن تمسك الحاكم بالسلطة سببه أن الخارج هو الذي يقرر مصيره فيها وأنه لا إرادة له في البقاء أو الرحيل، ولذلك فإن الخارج هو الذي يملي عليه ما يفعله. وعندما يؤدي مهمته يتم تغييره لأن الخارج لا يعرف الصداقة الدائمة وإنما المصلحة الدائمة، كما قال دزرائيلي، رئيس وزراء بريطانيا في القرن 19.
أما النظرية الرابعة فهي نظرية نزار قباني التي يبسطها في قصيدته الشهيرة يوميات سياف عربي، فالحاكم يتمسك بالسلطة لأنه يعز عليه أن يترك الشعب الذي بذل جهدا لاستبقاره حتى يجد من يقوم بركوبه، وكان ذلك واضحا في آخر القصيدة: كلما فكرت أن أعتزل السلطة ينهاني ضميري، فمن يركب هؤلاء الطيبين؟ فقررت أن أركب البقر إلى يوم القيامة.
في ضوء ما تقدم، يجب الحذر عند دراسة التغيير السلمي في العالم العربي أو
الإصلاح السياسي. وفي تقديرى أن أمراض السلطة العربية صارت مرتبطة ببقاء إسرائيل، فالحاكم العربي مرتهن مصيره بما ينفع إسرائيل.