كتب

الرفض وحده لن يقوض سياسات ترامب.. لا بد من بناء عالم جديد

صحافية وكاتبة أمريكية تعرض لسياسات الرئيس ترامب في مواجهة خصومه وسبل مواجهتها.. (أنترنت)

الكتاب: الرفض ليس كافيا..مقاومة سياسة الصدمة التي يتبعها ترامب والظفر بالعالم الذي نريد
المؤلف: نايومي كلاين
ترجمة: رامي طوقان
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ـ 2018

هل من سبيل لمقاومة المشاريع الاقتصادية الجشعة والسياسية المتهورة التي يتبناها ويمثلها أشخاص مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؟ هل يمكن محصارتها وإضعافها؟ من أين يمكن أن يبدأ التغيير؟ هل يجب أن ننتظر قائدا سياسيا تقدميا يخلصنا من شرور منطق الشركات الكبرى الذي بات يحكم سياسات الكثير من الدول؟ أم أن التغيير والمقاومة يجب أن تبدأ من الأسفل إلى الأعلى، من التحركات الشعبية، ومن ضغط النشطاء المدنيين والفئات المهمشة الأكثر تضررا من هذه السياسات؟ 

سيبدو اقتراح الإجابات معقدا بمقدار صعوبة ووحشية الواقع الذي فرضته السياسات النيوليبرالية، ليس فقط في دول صغيرة وضعيفة بل وفي أكبر الدول وأعظمها حضورا اقتصاديا وسياسيا كالولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك ترى الصحافية والناشطة نايومي كلاين ضوءا في نفق اللحظة التاريخية الخطيرة التي تعيش فيها البشرية منذ منتصف القرن الأخير. لكنه ضوء يمكن الاهتداء بنوره إذا فهمنا الركائز التي قامت عليها هذه السياسات وحاولنا مجتمعين تفكيكها والتصدي لها، لا الاكتفاء بنقدها ورفضها فقط. 

كلاين صحافية سياسية أمريكية مرموقة وصانعة أفلام وثائقية، حازت على عدة جوائز منها جائزة سيدني للسلام في العام 2016. في السنوات الأخيرة انهمكت كلاين بدراسة مواضيع الصدمات الكبيرة على المجتمعات، وتغير المناخ، وأصدرت مجموعة من الكتب منها "عقيدة الصدمة.. صعود رأسمالية الكوارث"، و"هذا يغير كل شيء.. الرأسمالية مقابل المناخ"، و"لا علامة تجارية..". 

وفي صميم عملها هذا كانت منشغلة دائما بفهم وتحليل كيف يستغل السياسيون وأصحاب الشركات الأزمات التي تمر بها الشعوب، التي تربكها الصدمات والكوارث، وكيف يعملون على إطالة أمدها وتعميقها ليحققوا منها أعلى استفادة، لكنها في الوقت نفسه، وفي كتابها الاخير على وجه الخصوص موضوع العرض، تناقش أيضا "كيف يمكن لاجتماع الناس على فهم أزمة مشتركة أن يغير العالم للأفضل". 

تكتيكات الصدمة

ترى كلاين أن ترامب وإن كان لا يستخدم "عقيدة الصدمة" بشكل أساسي ودائم إلا أن سياساته وقراراته ستقود في نهاية المطاف إلى سلسلة من الصدمات والأزمات، إذ أن مشروعه الاقتصادي والسياسي القائم على تفكيك القيود التي تفرضها الدولة، والهجوم على دولة الرفاهية والخدمات الاجتماعية، وإطلاق يد الشركات الكبرى والمستثمرين في الوقود الأحفوري، وبث خطاب الكراهية تجاه الأجانب والمهاجرين والمسلمين، كل ذلك سيؤدي حتما إلى انفجارالأوضاع اقتصاديا وأمنيا ومناخيا. 

"ومع الخطر الكبير الذي تشكله جميع هذه العوامل، فالأخطر منها هو الطريقة التي تستغل بها إدارة ترامب تلك الصدمات للدفع بالمزيد من المراحل الأكثر تطرفا من برنامجها". على سبيل المثال ستعطيه أزمة اقتصادية كبرى الذريعة التي ينتظرها لتفكيك برامج الضمان الاجتماعي، وقد يشكل أي هجوم إرهابي ذريعة أخرى لفرض حالة الطوارىء مع ما يعنيه ذلك من إصدار قرارات أخرى تتعلق بحرية التنقل وحرية الصحافة. 

 

ترى كلاين أن ترامب وإن كان لا يستخدم "عقيدة الصدمة" بشكل أساسي ودائم إلا أن سياساته وقراراته ستقود في نهاية المطاف إلى سلسلة من الصدمات والأزمات،

 



غير أن الأهم من ذلك هو أن هذه التكتيكات ليست عصية على الاختراق والتعطيل في حال أدركنا ـ نحن الطرف الآخر المتضرر ـ "كيفية عمل سياسات الصدمة والمصالح التي تخدمها، وهذا الفهم هو ما يساعدنا على الخروج من الصدمة بسرعة لنبدأ بالهجوم المضاد". وكذلك في حال استطعنا امتلاك رؤية مغايرة للعالم تقدم طريقا بديلا "يقوم على اجتماع البشرية بما يتجاوز حدود العرق والجنس والديانة... وتقدم صورة ملموسة عن حياة أفضل للمصابين بالألم والأذى سواء أكان ذلك جراء عدم توفر الوظائف أو الرعاية الصحية أو غياب السلام والأمن أو انعدام الأمل"، بحسب ما تقول كلاين.

ترامب وساندرز

في الفصل الأول من الكتاب الذي يحمل عنوان "كيف انتصر ترامب عبر تحويل نفسه إلى العلامة التجارية العليا" تقول كلاين: إن فهم ترامب يتطلب فهم العالم الذي شكل شخصيته وتطلعاته، وهذا العالم هو عالم صنع العلامات التجارية الذي يمثل ترامب "أسوأ اتجاهاته.. بدءا من التخلي عن المسؤولية عن العمال الذين يصنعون منتجاته من خلال شبكة من المتعاقدين الخارجيين.. وانتهاء بالحاجة الاستعمارية لوضع علامة باسمه على كل مساحة متوفرة". وعلامة ترامب التجارية هي أنه المدير والزعيم والثري الذي يستطيع فعل كل ما يريده ومتى ما أراد. لذلك لم يكن مستغربا أن يؤكد ويكرر في خطاباته الانتخابية عبارات من قبيل" ثقوا بي فأنا ملياردير ناجح". 

تقترح كلاين تكتيكات بسيط للضغط على ترامب تعتمد على فكرة زعزعة هذه الصورة التي يروج لها، فمثلا السخرية من كونه الزعيم القوي المتحكم يصيب مقتلا لديه، فقد غضب من النكات في تويتر التي تلمح إلى أن الرئيس الفعلي هو ستيف بانون، إلى الدرجة التي دفعته للتغريد ليعلن أنه هو "صاحب القرار الأعلى"، وعلى الأثر تراجع دور بانون . كما أن شن حملات مقاطعة للأماكن التي تحمل علامة ترامب التجارية دفع العديد منها للتخلي عنها. صحيح أن هذه التكتيكات تبدو بسيطة الأثر لكن كلاين تؤكد على أنها قادرة على زعزعة صورة ترامب أمام نفسه وإرباكه وقد تدفعه لكبح جماح قراراته المتهورة أحيانا.

في فصل آخر من الكتاب تتوقف كلاين عند انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2016، وبالتحديد عند الأسباب التي حالت دون إكمال المرشح الديمقراطي الاشتراكي بيرني ساندرز سباق الرئاسة أمام هيلاري كلينتون، رغم أن الكثير من استطلاعات الرأي أظهرت في ذلك الوقت أن لساندرز فرصة أفضل لهزيمة ترامب من كلينتون. 

 

ترامب وأمثاله من "الزعماء" السياسيين "من المعالجين بالصدمات" يراهنون على إرباك أعدائهم بالإقدام على جملة من القرارات والإجرات دفعة واحدة، الأمر الذي ينتج عنه في نهاية المطاف تشتيتهم وإجهادهم وبالتالي تخليهم عن المقاومة

 



ربما كانت المرة الأولى التي يتحدث فيها مرشح ديمقراطي بشكل مباشر عن ثلاث قضايا ملحة هي: النيوليبرالية، واللامساواة الاقتصادية، وتغير المناخ. لكن حملة ساندرز تعرضت، وللمفارقة، لهجوم قوي من أشخاص تقدميين اختاروا تأييد كلينتون المرشحة التي لا تحمل معها أي توجهات لتغيير الأوضاع القائمة. 

أمر آخر ـ هذه المرة أخطأ فيه ساندرز نفسه ـ هو تركيزه على الجوانب الاقتصادية وإهماله لقضايا التمييز القائمة على الجنس ومظلوميات السود. حتى أنه عندما سئل إذا ما كان يؤيد تعويضات عن العبودية رفض الفكرة تماما معتبرا أنها تثير الانقسامات وأن تحسين الأوضاع الاقتصادية كفيل بتحقيق الأثر نفسه. جعله هذا الموقف، ومثل مواقفه الأخرى الضعيفة من قضايا النساء، يخسر الكثير من أصوات الفئتين. 

تلفت كلاين هنا إلى الطريقة التي تدير بها إدارة ترامب معاركها، إذ أنها تشمل كل القضايا من تغيير النظام والقانون والهجوم على حقوق النساء، وتصعيد النزاعات الخارجية، إلى إطلاق يد الشركات الكبرى والأثرياء مرورا بتحميل المهاجرين مسؤولية جميع مشاكل البلاد، باعتبارها "مشروعا واحدا ، مشروعها في جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى". لذلك كان على أي مشروع معارض لترامب أن يتبنى توجها مماثلا لا يفصل بين القضايا ولا يقدم أو يؤخر واحدة على الأخرى، لانها كلها تؤثر في بعضها البعض ومترابطة، وكل إقصاء أو إهمال لواحدة منها تضر بالأخرى.

الذاكرة الجماعية

تشير كلاين إلى أن ترامب وأمثاله من "الزعماء" السياسيين "من المعالجين بالصدمات" يراهنون على إرباك أعدائهم بالإقدام على جملة من القرارات والإجرات دفعة واحدة، الأمر الذي ينتج عنه في نهاية المطاف تشتيتهم وإجهادهم وبالتالي تخليهم عن المقاومة، لكن الكثير من الأحداث والوقائع تؤكد أن هذه الاستراتيجية لا تنجح دائما ، وأنها يمكن أن ترتد سلبا على متبنيها. ويحدث ذلك تحديدا في "الأماكن التي تحمل ذاكرة جماعية من أحداث سابقة استغل فيها الخوف والصدمة لتقويض الديمقراطية. فهذه الذاكرة تعمل كممتص للصدمات يوفر للسكان نقاطا مرجعية مشتركة تتيح لهم معرفة ما يحدث ومقاومته". 

حدث ذلك في الأرجنتين في بداية عام 2002 عندما وقعت البلاد في أزمة اقتصادية كبيرة وسادت الاضطرابات والاحتجاجات، فخرج الرئيس الارجنتيني فرناندو دي لاروا على الشعب ليعلن "حالة حصار تستمر لثلاثين يوما" مع ما يعنيه ذلك من تعطيل لبعض بنود الدستور، وأمر الناس بالبقاء في بيوتهم. 

ذاكرة الأرجنتينيين عن الانقلاب العسكري عام 1976 أيقظت فيهم حس المقاومة لبوادر عودة حقبة مظلمة من تاريخ البلاد، فردوا على إعلان الرئيس بالخروج بالآلاف إلى ساحات المدن رافضين الخضوع. فر الرئيس من قصره، ورفض الشعب في ثلاثة اسابيع ثلاثة رؤساء آخرين. 

تقول كلاين: إن الذاكرة الجماعية هذه عملت بنفس القوة أيضا في الولايات المتحدة الأمريكية،عندما حاول ترامب ومناصروه استخدام الخوف الذي خلفته أحداث 11 أيلول (سبتمبر) ضد المسلمين والمكسيكيين، للسيطرة على الناس وتقسيمهم. لقد " شاركت أعداد لا تحصى من الناس في التحركات والتجمعات السياسية. وكثير منهم للمرة الأولى في حياته، فسارعوا لإظهار التضامن مع أناس  صنفوا بأنهم آخرون. 

وعندما أصدر ترامب قراره بحظر سفر المسلمين احتشد الآلاف من النشطاء والأشخاص العاديون من مختلف التوجهات الدينية والثقافية في الشوارع والمطارات ليعلنوها بصوت عال "كلنا مسلمون"، و"اتركوهم يدخلوا البلاد". لقد تذكر هؤلاء تلك اللحظات القاسية بعد تفجير البرجين والقرارات التي قادت البلاد للدخول في حرب مدمرة على العراق وما نتج عنها من أضرار رهيبة، وتلال الأموال التي ذهبت إلى جيوب الشركات الكبرى، والسياسيين النافذين الفاسدين.

تقول كلاين: "إن ما ينقص عملية الرفض والمقاومة لمثل هذه السياسات كي تنجح في مسعاها هو "القدرة على الخيال، ورؤية عالم يختلف بشكل جذري عن عالمنا الحاضر.. ففي الغرب لا يكاد يوجد أي ذاكرة شعبية لأي نظام اقتصادي مختلف. ( رغم أن) ثمة ثقافات ومجتمعات محددة ، أهمها مجتمعات السكان الأصليين، حرصت على الحفاظ على ذكريات وطرائق ونماذج للعيش لا تقوم على ملكية الأراضي والاستخراج اللامتناهي للربح. ولكن غالبيتنا .. نجد أنفسنا نعيش بالكامل داخل مصفوفة الرأسمالية، ومع أننا لربما نطالب ببعض التحسينات على الظروف الحالية، ولكن تخيل شيء أخر أصعب بكثير علينا". وتتابع بأن هذا ربما يكون السبب وراء ان العديد من الحركات الاحتجاجية التي ظهرت مثل" حركات الساحات" في أوروبا" و"احتلوا وول ستريت" و"الثورة المصرية" كانت تعرف تماما ما ترفضه لكنها افتقدت للرؤية الواضحة "لما ينبغي أن يكون عليه العالم بعد ذلك الرفض". 

 

إننا نحتاج كما تؤكد كلاين إلى رسم مسار يتسم بالمصداقية ويلهم الناس للتوجه إلى مستقبل مختلف. " وجزء لا يتجزأ من هذه الرحلة هو عدم الاكتفاء بالحديث وكالمتابة عن ذلك المستقبل الذي نريد، بل بناؤه أثناء توجهنا إليه".