لعله المونولوجست "فكري الجيزاوي، رحمة الله عليه، الذي ذكر هذه النكتة في إحدى حفلاته، التي كان يخصصها لإطلاق النكات بهدف إضحاك الجمهور، والتي نرويها بتصرف:
فقد كان "بلدياتنا" يمر بالقوم في المملكة العربية السعودية، وقد أضناهم التعب وهم يبحثون عن هلال شهر رمضان، فأخذ منهم مكبر الصورة، ونظر إلى السماء وأشار بأن الهلال هناك، فلما رأوه صفقوا تحية وإعجابا وقرروا له جائزة عظيمة نتيجة ذلك. وإذ أطربته هذه الحفاوة، فقد أخذ منهم مكبر الصورة مرة أخرى ونظر في الاتجاه المعاكس، وأشار إلى السماء وهو يقول لهم: وهناك هلال آخر ها هو!
وعلى هذا النحو كان تصرف جماعة مسلسل الاختيار، الذي خلقوا له دعاية من الذباب الالكتروني، توحي بأحد أمرين، أو بهما معا:
الأول، أن هذا هو العمل الدرامي الأول في دولة تحت التأسيس. والثاني، أنهم انتصروا لوطنيتهم بهذا المسلسل، ودحروا به
الإرهاب، وهزموا الخصوم السياسيين، وآن لهم أن يستريحوا استراحة محارب بعد هذا النصر المؤزر!
والأمر كله بدا كما لو كنا أمام كهل أنجب طفلاً، فصار سعيداً به حد الجنون، لأنه أثبت بقدومه أنه لا يزال على قيد الحياة، وكان يحسب نفسه في عداد الموتى. وهو نوع من الانتصار ذكرنا بمجنون واشنطن (بصوت الرئيس السادات وهو يقول الولد المجنون بتاع ليبيا)، وهو ينشر فيديوهات له وهو يصارع أحد أبطال لعبة المصارعة ويوقع به هزيمة شعر بعدها بالارتياح، فيا له من مجنون أبله!
الحفاوة بالمسلسل بدأت من الدقيقة الأولى لعرضه، إذ تحرك الذباب الالكتروني متحدثا عن الانتصار الكبير الذي حققه النظام الحاكم على أعدائه، على نحو أفقد الأعداء اتزانهم، وقد هزمهم المسلسل هزيمة نكراء، وأوقع خسائر عظيمة في معسكر "أهل الشر"، وبشكل يوحي بأن نقد هذا العمل ولو فنياً، ينال من الانتماء الوطني، ويثبت أن الناقد قد خرج من ربقة الوطنية وسوف يبعث يوم القيامة وقد كتب على جبينه "آيس من رحمة الله"، فلما انتهى المسلسل، تم الإعلان عن جزء ثان له، فذكرونا بحالة "بلدياتنا"، وهو يقابل الحفاوة به عندما رأى الهلال، بإعلانه عن هلال آخر!
فماذا يمكن أن يقدم هذا العمل، في الجزء الثاني منه، وقد انتهت حياة البطلين: الأول وهو الضابط "المنسي" باغتياله، والثاني وهو الضابط أيضا "
عشماوي" بإعدامه؟ لكنها فرحة العبيط بليلة دخلته!
ما قدمه المسلسل للإخوان:
ولا يعلم القوم، وهم في حفاوتهم، مقدار الخدمات الجليلة التي قدموها لجماعة الاخوان، لأن هذا الكشف عن التطرف الديني، والإرهاب لا يضرهم، بل يأتي لخدمتهم، لأن "عشماوي" ليس من شيعتهم، وأنه إذا كان هذا العمل موجه ضد الإرهاب، فقد بدأت عمليات الإرهابيين في سيناء في حكم الرئيس محمد مرسي، ومن جماعات دينية منافسة لتنظيم الإخوان، ومعادية لهم، وتنافسهم في مجال تجنيد العناصر المتدينة. وقد شاهدنا في أيام الثورة ما يؤكد على هذا المعنى!
فقد أخلوا الدائرة لواحد مثل مصطفى بكري في انتخابات البرلمان، فلم ينافسوه فيها، ولكنهم في المقابل لم يخلوا الدائرة للشيخ محمد الصغير، وإذا كان أزهريا ومعمماً، فقد قدموا منافساً له أزهرياً ومعمماً، وإذا كانوا قد جاملوا حمدين صباحي بتنفيذ اختياراته في مرشحي حزبه (الكرامة) على قوائم "التحالف" في هذه الانتخابات، وفي الترتيب الذي يرضيه، فلم يكن كذلك مع حزب "النور"، الذي كان تحالفاً ليس قاصراً على سلفيي برهامي، فقد كان يضم كل الفصائل الإسلامية الأخرى، قبل تأسيس حزب "البناء والتنمية"، وغيره من الأحزاب السلفية. وخرج مرشحو النور من هذا التحالف مع الإخوان بعد التعامل معهم باستعلاء، يصل إلى الاحتقار!
وقد احتشد الإخوان ونجحوا في إسقاط رئيس حزب "الوسط" المهندس أبو العلا ماضي، في هذه الانتخابات أيضاً، وكان هدفاً لهم لأنهم لم ينسوا له ترك الجماعة التي كان عضواً فيها وممثلاً لها في نقابة المهندسين، إلى أن فرضت عليها الحراسة لذلك!
ولعلنا نتذكر أنهم تركوا عدم خبرة السلفيين بالعمل السياسي ينال من رصيدهم، عندما قاموا باتخاذ نفس الموقف الإخواني من تعديلات آذار/ مارس على الدستور، وابتزوا الرأي العام بدعاية من نوعية: "نعم لله ورسوله"، فأخافوا الرأي العام بالشعارات الدينية. وكان الإخوان معهم عند الدعوة لجمعة الشرعية، ثم تركوهم يذهبوا لميدان التحرير، فبدوا كما لو كانوا قادمين تواً من جبال تورا بورا، لتؤدي الدعاية السلبية أهدافها في إحدى دوائر محافظة الإسكندرية عندما كانت الإعادة في انتخابات البرلمان بين مرشح الإخوان ومرشح السلفيين، فاندفعت القوى المدنية كما اندفع المسيحيون للدعوة لانتخاب مرشح الإخوان، لأن بلاءً أهون من بلاءٍ.
فإذا عدنا للخلف قليلاً، فإن جماعة الإخوان لم تكن تقبل بالتعاون مع غيرها من الجماعات الدينية في النقابات المهنية، وفي المحامين كان يرفض ممثل الجماعة في النقابة مختار نوح بصفته؛ السماح بعقد مؤتمرات تخص "جماعة المحامين الإسلاميين" التي ينتمي أعضاؤها للجماعة الإسلامية، بما في ذلك الدعوة لحضور الشيخ عمر عبد الرحمن للنقابة، فكانوا يتغلبون على الرفض الإخواني بالحصول على موافقة النقيب الليبرالي أحمد الخواجة!
وعندما قتل المحامي "عبد الحارث المدني" الذي ينتمي للجماعة الإسلامية، تحت وطأة التعذيب في مباحث أمن الدولة، ودعت جماعة المحامين الإسلاميين لمسيرة احتجاج من النقابة لقصر عابدين (أحد القصور الرئاسية)، كان مختار نوح يجري عملية جراحية، فغادر المستشفى قبل أن تلتئم جروحه، بهدف إفشال المسيرة، لكنه عندما فشل ووجد في النقابة حشد قتال، كانت خطته البديلة سحب البساط من تحت التنظيم المنافس، فخرج على رأس المسيرة، ليتم اعتقاله أمام باب النقابة مع المعتقلين من الجماعة الإسلامية!
وفي هذه الفترة لم تتوقف جماعة الإخوان عن إدانة العمليات الإرهابية التي تقوم بها الجماعة الإسلامية، وكانت الجامعات تشهد نزاعات عنيفة بين طلاب التنظيمين المتنافسين على المشهد الجامعي!
بعيداً عن العنف:
وإذا كان مسلسل "الاختيار" قد حرص على "هشام عشماوي" على أنه من الإخوان، فالجنين في بطن أمه يعرف الحقيقة، ومن ثم فإن دعاية هذا المسلسل لا بد أن تصب لصالح الجماعة التي لم تضبط متلبسة بالعنف على مدى ربع قرن. وفي التسعينيات قال لي المستشار مأمون الهضيبي وأنا أحاوره: "طلقنا العنف بالتلاتة"، فلم يشأ الرجل أن يبرر عمليات القتل التي قام بها النظام الخاص، لأنه كان معاديا لوالده، المرشد العام الثاني للجماعة المستشار حسن الهضيبي!
ولأن فكرة إخراج التيار الديني من المعادلة السياسية في
مصر الآن ضرب من الخيال، فإن الناس سيبحثون عمن لا يمثلهم (هشام عشماوي)، والذي عرضوا مشهد إعدامه في سابقة لم تحدث من قبل!
لنصل هنا إلى بيت القصيد، فإخراج هذه الفيديوهات من الجهة الحكومية التي تحتفظ بها، كاشف عن أننا أمام عمل يمثل السلطة الحاكمة، وهو أمر لا يحتاج إلى مزيد من التأكيد. والشركة المنتجة هي ضمن الشركات المهيمنة على المجال الإعلامي والدعائي والتابعة لشخص عبد الفتاح السيسي!
وهي سابقة، لأنه لم يحدث أن عرضت صور عملية إعدام، لما فيها من قسوة ترفضه القوانين، حتى في القضايا التي تعرض تنفيذ الأحكام فيها إلى جدل حول عدم تنفيذها، كما جرى مع قتلة الرئيس السادات. ورغم أن "شوقي خالد"، أحد محامين خالد الإسلامبولي (قاتل الرئيس السادات) ذكر في كتاب له أنه اصطحب والدة خالد، وذهبا معا للسجن، وحصلا على ملابسه صبيحة يوم تنفيذ الحكم وهي مبللة بدمائه، فإن التشكيك في عملية تنفيذ الحكم استمرت لفترة طويلة، وهو تشكيك كان يلازمه دائماً أن مبارك كان متورطا في الجريمة، وهو ما استقر في وجدان كثيرين على غير الحقيقة، ومع هذا لم يجد النظام نفسه مطالباً بإخراج صور تنفيذ الإعدام!
إن دعاية الذباب الالكتروني تقوم على قاعدة البجاحة: لقد عرضنا صور الإعدام وشفيت صدورنا، وهي طريقة في التعامل فاقدة للرشد، وغير مدركة لدلالة ذلك!
لقد أظهر الفيديو صوراً لرجال الشرطة وممثل النيابة الذي شهد عملية الإعدام، وهو ما يمثل خطراً على حياتهم، ولا أعرف إن كان قد تم استئذانهم في هذا العرض غير المسبوق أم لا.
لقد لاحظت بعد كل عملية تستهدف ضباطا وجنوداً في سيناء، أن الصور دائما حاضرة للضحايا، فتنشر مع خبر الاغتيال لهم في أماكن تواجدهم. وكانت البداية بهذا الضابط الذي تم اختطافه من قبل مسلحين، وتقديم تسجيل له وهو يبكي ويخاطب أمه بألا تدفع بأخيه للجيش حتى لا يموت مثله، وهو حديث انتهى بإطلاق الرصاص على رأسه!
إن فيديوهات انتشرت عبر منصات التواصل لنفس هذا الجندي وهو يفخر بما فعله ضد هؤلاء المسلحين.. وهكذا في كثير من العمليات الإرهابية!
هذا الأمر دفعني لطلب التنبيه على الضباط والجنود بعدم القيام بنشر صورهم وفيديوهات، حتى لا نسهل على المسلحين اصطيادهم من خلالها. فهل انتبه القوم إلى خطورة ظهور صور حاضري عملية تنفيذ حكم إعدام "هشام عشماوي"؟!
التعاطف مع عشماوي:
وبعيدا عن الحديث عن أن مشهد الإعدام أثار التعاطف مع المذكور، فهو أمر لم ألمسه، كما لم ألمس عكسه، فإن أحكام الإعدام وإذاعة تنفيذها إنما يصب في خدمة التيار الإسلامي ودعوته بتطبيق الشريعة، عندما يختزلها في الحدود. فالرد الرافض يُبنى على قسوتها بما لا يتماشى مع روح العصر. وكانت هناك دعوة واسعة لإلغاء عقوبة الإعدام لهذا، فماذا كان يمكن القول على تطبيق عقوبة القصاص مثلا، وركن صحة التنفيذ بأن يشهد العذاب طائفة من المؤمنين؟ وقد سقطت هذه الحجة دوليا بإعدام صدام حسين، وسقطت محليا بأحكام الإعدام في مصر، وسط صمت دولي، وإذاعة تنفيذها في واقعة هشام عشماوي!
ودائما ما يتم التأكيد على قسوة المسلحين بنشر فيديوهات تنفيذهم قتلهم للضباط والجنود، وهو ما يحتاط له فيسبوك فيحجب هذه الصور لقسوتها، فماذا يمكن الرد الآن وقد تشبهت بهم السلطة في مصر في القسوة من خلال إعلان تنفيذ حكم بالإعدام؟!
الانتماء للجيش:
وإذا كان مسلسل "الاختيار" لن ينجح في عملية الإلحاق القسري لـ"هشام عشماوي" بالإخوان، فإنه أكد على انتمائه الأصيل للجيش، ليطرح هذا سؤالاً عن أسباب التطرف الديني عند الضباط، رغم أنهم من الطبقة المتميزة، بما يسقط نظرية إلحاق التطرف بالفقر والتهميش، ورغم أن الضباط تحت المراقبة، ويتم إبعادهم تماما عن أي مؤثرات فكرية يمكن أن تغير مجرى حياتهم، بما يضعف الحجة بأن تدريس الدين في المدارس والجامعات من أسباب الغلو الديني!
فالذين قتلوا السادات كانوا ضباطاً.. وضباط شكلوا تنظيما دينيا في نهاية الثمانينيات وتم القبض عليه.. وها هو ضابط يذهب بعيداً، وقد كان إلى وقت قريب من ذهابه هو من خير أجناد الأرض!
هم ضباط، وليسوا إخواناً، ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله!
فهل لا يزالون مصرين على الجزء الثاني من مسلسل "الاختيار"؟!