منذ الظهور غير الطبيعي والمشوه لخليفة حفتر في ليبيا، وهو يمشي من فشل إلى فشل، إذ يصلح أن يطلق عليه وصف "الخاسر دائما". يستثنى من ذلك بالطبع سيطرته بمساعدة خليط عجيب من المليشيات على بنغازي وبعض مناطق شرق ليبيا، بسبب ظروف عدم الاستقرار التي شهدتها تلك المناطق في أعقاب إسقاط نظام القذافي.
ما يعني أن "انتصاره" في شرق ليبيا لم يكن سوى نقطة خارج سياق هزائمه، لأسباب لا تتعلق به، بقدر ما تتعلق بظروف محلية وإقليمية ساعدت في إنجاح مهمته.
ظن حفتر وداعموه من دول الثورة المضادة متمثلة بنظام السيسي والسعودية والإمارات، أنه يمكن أن يكمل مهمته ويسيطر على ليبيا كاملة، واعتقدوا أن الانقلاب في ليبيا يمكن أن يكون سهلا كما كان الانقلاب العسكري في مصر، متجاهلين أن الصورة مختلفة تماما.
ففي مصر كان هناك طرف واحد يحتكر القوة وهو الجيش، مقابل طرف يلعب وفق قواعد السياسة والديمقراطية، فانتصر الجيش بسهولة، في حين أن ليبيا تعيش مخاضا لم يصل بعد لاحتكار طرف للقوة دون الأطراف الأخرى، وهو ما جعل مهمة محور "الثورة المضادة" صعبة.
أعلن حفتر مرات عدة الانقلاب على "تقاسم الحكم" الذي أفرزته الاتفاقات السياسية بين الأطراف الليبية المختلفة، وخصوصا اتفاق "الصخيرات" الذي عقد برعاية مغربية، وأطلق عمليات عسكرية عدة بأسماء كبيرة تفوق قدرته على تطبيق معارك ترقى لهذه الأسماء، وتفوق قدرة المتابعين على تذكرها لكثرتها، وكان حليفه في جميع "انقلاباته الوهمية" وعملياته ذات الأسماء الكبيرة هو الفشل.
اقرأ أيضا: بعد استهدافه لمقرات دبلوماسية.. هل يحاكم "حفتر" دوليا؟
ولكن الأشهر القليلة الماضية حملت له ولمن هم وراءه أشد الأخبار السيئة التي عاشها، التي ربما تفوق سوء أخبار فشله واعتقاله في بداية حياته العسكرية في "تشاد"، حيث تحول من حالة الهجوم في معركته الجديدة التي هدفت لاحتلال طرابلس إلى حالة الدفاع، وأصبحت قاعدة "الوطية" مركز عملياته العسكرية في غرب ليبيا محاصرة، وتتعرض لهجوم شرس من قبل الجيش الليبي التابع للحكومة المعترف بها دوليا.
وتكمن أهمية هزيمة حفتر في أنها هزيمة لمحور "الثورة المضادة" من ورائه، حيث اجتمع على مساندته دول إقليمية، ودول غربية مثل فرنسا وبشكل غير مباشر أمريكا، وروسيا.
ولا يجمع بين هذه التشكيلة الواسعة من مساندي حفتر سوى قاسمين مشتركين: الأول أنهم يسعون للحصول على نصيب الأسد من عوائد النفط الليبي وهو هدف لا يمكن تحقيقه إلا بوجود حاكم عسكري تابع لهم، والثاني أنهم يؤيدون أنظمة الاستبداد التقليدية ويرفضون أي انتصار ولو جزئي للثورات الشعبية في أي دولة عربية.
ولا يتعلق الصراع بليبيا فقط، فالربيع العربي أوضح لنا صورة الصراع في المنطقة، ووضعه في سياقه الطبيعي والجذري، وهو صراع بين الأقلية الحاكمة في الدول العربية وبين غالبية الشعوب المسحوقة.
وبالتالي، فإن أي انتصار للأقليات الحاكمة متمثلة في حفتر بليبيا يعني هزيمة للغالبية الشعبية في الوطن العربي ككل، وأي هزيمة لحفتر وداعميه تعني بالضرورة انتصارا للغالبية الشعبية في كل دولنا العربية.
إن هزيمة حفتر في مغامرته الأخيرة، واستمرار تقدم الحكومة المعترف بها دوليا، ستمثل كارثة لأنظمة "الثورة المضادة" والأقليات الحاكمة في منطقتنا، لأنها ستعطي دفعا جديدا للدول المجاورة، وخصوصا تونس والجزائر والمغرب، وهي الدول التي تشهد إصلاحا تدريجيا يمكن أن يشكل نموذجا في دول شمال إفريقيا
ومن المؤكد أن هزيمة حفتر وداعميه ستعطي أفقا أوسع للإصلاح في هذه الدول، بينما سيشكل انتصاره -وهو أمر صار مستبعدا الآن- هزة كبيرة لمسار الإصلاح في الدول المجاورة.
ثمة عامل آخر يلعب دورا مهما في الصورة العامة للصراع بين الشعوب والثورة المضادة، وهو التغيرات الإقليمية والعالمية الناتجة عن "كورونا" وانهيار أسعار النفط والتداعيات الاقتصادية لهذه التغيرات.
وقد علمت "عربي21" من مصادر مطلعة أن السعودية تشعر أنها بمأزق كبير بسبب تراجع أسعار النفط ومستنقع الحرب في اليمن والأزمات الداخلية المتتالية، وهي تسعى لتصفير مشكلاتها بالمنطقة لتخفيف تداعيات هذا المأزق، خصوصا أنه تزامن مع ضغوط أمريكية تمثلت بالاتصال الشهير الذي هدد فيه ترامب ولي العهد السعودي بسحب قوات بلاده من الخليج، وما أعقبه من إعلان سحب بطاريات "باتريوت" من السعودية وإعادة بعض الجنود المتمركزين في الخليج للولايات المتحدة.
اقرأ أيضا: قصف العاصمة.. دوافع توحش حفتر وسبيل احتوائه
ومن المتوقع أن تؤدي هذه الضغوط، لتراجع سعودي في جميع الملفات، ومنها ملف ليبيا، وربما ستسعى لوقف الدعم المالي والعسكري لحفتر، ضمن تسوية تشارك فيها الإمارات، التي تعاني هي الأخرى من ضغوط مالية وأمنية دفعتها للانسحاب التكتيكي من الحرب في اليمن، وتخفيف حدة صراعها مع إيران.
ويترافق هذا كله مع دور تركي عسكري داعم لحكومة الوفاق الوطني الليبية، ما غيّر في ميزان المعركة بشكل واضح.
باختصار شديد، وبجملة واحدة، فإن الظروف الإقليمية والدولية الآن باتت مهيأة أكثر لهزيمة حفتر وإيقاف أحلامه بالسيطرة على ليبيا، وهو ما يمثل هزيمة أيضا لدول الثورة المضادة، وانتصارا للشعوب وللحالمين بالتغيير في العالم العربي.