تسربت مؤخرا لقطة تظهر تجارب عملية للمحفظة الرقمية الصينية
لليوان الرقمي. بعد هذا بأسبوع ما لبثت شركة فيسبوك الأمريكية أن أعلنت عن قرب طرحها لمحفظتها
الرقمية الخاصة ليبرا 2.0 في عام 2020. بهذا الاحتدام في التصريحات يبدو أن الصين
والولايات المتحدة في سباق مع الزمن لطرح عملتيهما الرقميتين، فمن سيفوز في هذه
الحرب المستعرة؟
حكاية اليوان الرقمي
هو النسخة الرقمية المزمع إطلاقها عن العملة
الصينية الورقية (اليوان الورقي) التي يقوم بإصدارها بنك الشعب الصيني كأساس
للتبادل التجاري داخل الصين وخارجها، وستصدر من خلال محفظة رقمية. سيعزز إصدار اليوان الرقمي من سيطرة الدولة على إدارة النقد، وسيسحب
البساط من تحت المحافظ الرقمية التجارية، كـ"علي باي" و"ويي تشات"
المستحوذة على حصة 96 في المئة من التعاملات الرقمية المالية في الصين.
وتسعى
الصين لإطلاق اليوان الرقمي بالتوازي مع تعميم نظام الرصيد الاجتماعي (Social Credit System) في كل البلاد هذه السنة، والذي يقوم بتعيين قيمة رقمية لكل فرد
أو شركة حسب التزامهم بالقانون. وبهذا وخلافا لليبرا التي تعتمد قيمة عملتها على
سلة من العملات المعومة، فإن العملة الرقمية التي سيطلقها بنك الشعب الصيني ستعتمد
على الائتمان الوطني، وبالتالي فإن قيمة
العملة ستكون أكثر استقرارا.
يعد
هذا النظام ثوريا، فهو يتيح للدولة مجازاة الأفراد والشركات بناء على عملهم الصالح
والتزامهم بالقوانين ومساهمتهم في تعزيز الأمن المجتمعي. وبناء على حجم رصيد الفرد
أو الشركة الاجتماعي، سيتمتع بالتسهيلات المالية وغيرها من الخدمات. سيستخدم هذا
النظام مع العملة الرقمية والمحفظة في نظام مالي شامل متكامل؛ سيشكل النظام الصيني
المالي المعولم الذي سيربط المواطنين الصينيين بالاقتصاد العالمي والدولة
المركزية في بكين. وبهذا تسعى الصين أن تنقل ثورتها الفكرية في النقد إلى الخطوة
القادمة.
ما
الذي ستستفيده الصين؟
سيساعد
اليوان الرقمي على إنجاز المعاملات المالية بشكل سريع وبكلفة
أقل من النظام المالي التقليدي، بل وحتى العملات المشفرة مثل البيتكوين. فحاليا،
تأخذ التعاملات النقدية وقتا أطول نسبيا لأنها تمر عبر شبكة طويلة من الإجراءات
والفحوصات قبل أن يتم إيداعها في حساب المستحق، مما يؤخر إتمام عمليات الدفع. ستفضي
زيادة السرعة والفعالية في التعاملات المالية إلى زيادة حجم التبادل التجاري
وسرعته، مما سيحقق نموا أكبر للاقتصاد ككل والاقتصاد الرقمي بشكل خاص، وبالتالي ستتطور طريقة التجارة الصينية الدولية ومعاييرها ومحدداتها. فمثلا، سيصبح بإمكان الصيني في أي مكان في العالم القيام
بالتعاملات المالية بسهولة ومجانا دون أي تكلفة إضافية للتحويل النقدي، وسيكون ذلك
امتيازا كبيرا يعزز من القدرة الصينية على التجارة الدولية بأمان.
كما
سيتيح استخدام اليوان الرقمي أيضا لبنك الشعب الصيني دعم المستهلكين الصينيين بشكل
مباشر في حالات الأزمات، كأزمة كورونا. فمن خلال الحقن المباشر
لحسابات الصينيين بالسيولة النقدية الرقمية، بإمكان الصينيين تحمل التباطؤ
الاقتصادي دون الخوف من نفاد العملة وما ينشأ عن ذلك من أزمات سيولة محلية ودولية.
وبهذا سيساهم اليوان الرقمي في تجنب الكوارث المالية، لأن النظام سيراقبه
كمبيوتريا بشكل دائم وسيتدخل بشكل تلقائي أو شبه تلقائي لتصحيح الاضطرابات المالية
في النظام الوطني إن اقتضى الأمر. وأخيرا ستسهل العملة الرقمية الرقابة على الأنشطة غير المشروعة،
كالتهريب وتجارة المخدرات والاتجار بالبشر وتمويل الإرهاب والتهرب الضريبي، عبر
تتبع مصادر الأموال وهوية أصحابها ووجهتها وأغراض إنفاقها.
غياب الدولار الرقمي
في الحقيقة، بينما عبر بنك الاحتياط الفيدرالي عن بحثه
في مسألة إطلاق الدولار الرقمي، إلا أن ذلك لم يترجم إلى أية خطوات عملية، وهذا
لاعتبارات عدة؛ منها السياسية المتعلقة بطبيعة النظام الاقتصادي في أمريكا. ففي أمريكا لا يوجد فعليا بنك مركزي
تابع للدولة، بل هناك تجمع فيدرالي من مجموعة من البنوك المركزية الإقليمية الخاصة،
وتعتمد هذه البنوك على شبكة كبيرة من البنوك الخاصة الأصغر المنتشرة في كل أصقاع
الولايات المتحدة (يبلغ عدد البنوك في الولايات المتحدة 4700 بنك).
إن إصدار عملة رقمية سيعني تضرر أعمال الكثير من البنوك
الصغيرة والمتوسطة، نتيجة خسارتهم لودائع المستهلكين التي تشكل الأساس النقدي
لتعاملاتهم. إن تضارب المصلحة الحاصل بين المصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة
والقطاع المالي فيها ذي التأثير القوي على الحكومة؛ عنى تعثر قدرة الدولة على إطلاق
مشروع وطني للعملة الوطنية الموحدة، كون البنوك لا تخضع للدولة وهي في حصيلة الأمر
قطاع خاص ذو مصالح ربحية، وليست بالضرورة وطنية. لحل هذه المعضلة كان يجب طرح بديل
من القطاع الخاص.
ليبرا 1.0
في حزيران/ يونيو 2019، كانت شركة فيسبوك قد أعلنت عزمها على إطلاق عملة
عالمية مشفرة خاصة بها، مستغلة قدرتها على الوصول لمليارات البشر. لكن هذه العملة
تمت مقاومتها بشدة من قبل المشرعين الأمريكيين والمنافسيين التقليديين في هذا المجال، كفيزا وماستر كارد وباي بال، وما لبث
المشاركون في المشروع أن أعلنوا انسحابهم رويدا رويدا من دعم الفكرة.
شملت الإشكالات الرئيسية التي واجهت النسخة الأولية
لليبرا عدم وضوح رؤيتها بخصوص كونها عملة عالمية أم عملة أمريكية، وكيف ستكون
علاقاتها بالمشرعين في العالم، وكيف ستكون تبعات ذلك على الاقتصاد الأمريكي
والعالمي. لقد دفع الهجوم المضاد على ليبرا؛ فيسبوك إلى إعادة النظر جوهريا في
عملتها، بحيث تخفض سقف تطلعاتها.
ليبرا 2.0
في نيسان/ أبريل 2020، أعلنت فيسبوك عن أطروحة جديدة من
مشروع ليبرا الأصلي أسمتها "ليبرا 2.0"، تأخذ فيها بعين الاعتبار التحفظات والمخاوف التي
عبر عنها الشركاء في مشروع ليبرا، والتي تساءلت بخصوصها الحكومة الأمريكية وحكومات
أخرى. بالإمكان القول إن النسخة الجديدة من ليبرا تعكس بشكل أكبر إرادة المشرعين، وتحافظ
إلى حد ما على الخصوصية الوطنية ودور الدولة في تنظيم النقد وإصداره.
من
أهم ملامح ليبرا 2.0، أنها تطرح خيارات للتعامل بعدة عملات رقمية ضمنية في محفظتها
الرقمية إضافة إلى عملتها الذاتية، بينما اقتصرت النسخة الأولى على إصدار عملة
ليبرا موحدة فقط. وبناء على ذلك سيكون بإمكان مستخدمي محفظة ليبرا استخدام عملات الدولار
واليورو والجنيه الإسترليني الرقمية، إضافة إلى عملة رابعة هي عملة ليبرا نفسها
التي ستعتمد قيمتها على قيمة سلة من العملات الدولية المستقرة. هنالك أيضا توجه
لضم المزيد من العملات الوطنية الرقمية لهذه القائمة.
الغريب
في هذا التغيير أن الدول التي تصدر العملات التي ستحتويها محفظة ليبرا لم تعلن عن إطلاق عملاتها الرقمية بعد،
على الرغم من تعبيرها عن رغبتها في ذلك ودراستها للموضوع. ومن غير الواضح إن كانت
ليبرا قد تواصلت مع الحكومة الصينية لإدراج اليوان الرقمي ضمن سلة عملاتها، على
الرغم من أنه من أكثر مشاريع العملات الرقمية تقدما. يوضح ذلك أن هناك محاولة
لتسريع عملية إصدار العملات الرقمية لتلك الدول حتى قبل أن يكون ذلك معمولا به
محليا، ويوضح
الطبيعة التنافسية بين الصين والغرب عموما للاستحواذ على حصة كبيرة من سوق العملات
الرقمية الواعد.
كما ستنسق ليبرا عملها مع المشرعين ورجال القانون في الدول
التي تصدر العملات الرقمية التي ستحتويها، وذلك لتعزيز الثقة والشعور بالأمان في
المحفظة لدى الدول والمواطنين والشركات، وهو ما افتقدته النسخة الأولى من العملة
التي سعت لأن تكون ليبرا عملة "فوق وطنية". سيعني ذلك أن سرعة الدفع
باستخدام ليبرا ستنخفض عن السرعة المعلن عنها في النسخة الأولى وذلك لضرورة إلتزام
ليبرا بقوانين مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب وغيرها من القوانين التي تحافظ
على استقرار العملة، مما سيعني بطء عملية الدفع.
أخيرا، سيكون الأساس النقدي لعملة ليبرا هو سلة من
العملات المركزية العالمية التي ستخضع لاعتبارات البنوك المركزية بخصوص ضمان
استقرار النظام المالي، وخصوصا في حالات القلاقل والكوارث المالية. سيساهم هذا في
جعل ليبرا أكثر استقرارا، إلا أنه يعني أن ليبرا تحولت لمجرد محفظة رقمية للعملات الرقمية
الوطنية، وأن مشروع عملتها الرقمية العالمية انحسر إن لم يكن انتهى.
جائحة
كورونا وتسريع إصدار العملات الرقمية
أدى
انتشار جائحة كورونا لاعتبار التعامل بالنقد الورقي والعملات النقدية خطرا صحيا
أثار حفيظة كثير من الناس. عنى ذلك أن لدى الكثير من الناس الاستعداد للتخلي عن
التعامل المالي بهذه الطريقة وتفضيل التعامل الرقمي. ساهم انتشار وباء السارس سابقا في تقوية انتشار
التجارة الالكترونية في الصين وعزز استخدام المحافظ الرقمية. قد تشكل جائحة كورونا
وتبعاتها حافزا للدول وللناس والشركات للدفع نحو استخدام العملات
الرقمية.
التنافس الاستراتيجي بين أمريكا والصين ونهاية الدولار
تود
الصين أن تكون أول دولة في العالم تستخدم العملات الرقمية، لأنها تعتقد أنها بذلك
ستحظى بأكبر حصة سوقية في سوق العملات الدولية المتوقع تشكله، وتتمتع بميزة المحرك
الأول للأحداث مما سيجعلها أكثر تنافسية في مقابل العملات الرقمية المرتقبة
منافستها.
كدولة
عظمى، ترى الصين أن خضوعها لسيطرة الدولار في تجارتها الدولية وللعقوبات الأمريكية
المالية أحيانا خسارة لسيادتها الوطنية واستمرارا لظلمها التاريخي من قبل
الاستعمار الغربي، ويعتبر الصينيون أن التحرر من سيطرة الدولار المالية على عالم
المال هو استمرار لمسيرة التحرر من السيطرة الاستعمارية الغربية واستعادة مكانة الصين العالمية بعد "قرن الإهانة".
ترى
الصين أن الاستقلال عن التجارة الدولية بالدولار سيوفر حرية أكبر في التجارة
الدولية، كالتجارة مع إيران وروسيا الخاضعتين للعقوبات الأمريكية واللتين بلغ حجم
تبادلهما التجاري مع الصين بنهاية عام 2019 أكثر من 120 مليار دولار. وبشكل عام،
ستكون الدول المشتركة في مبادرة الحزام والطريق الدولية أكثر الدول
التي ستسعى الصين لإقناعها باستخدام عملتها الرقمية الجديدة، مما سيساهم في تعزيز
مكانة الصين الاستراتيجية الدولية ويحول اليوان تدريجيا لعملة احتياط عالمية.
ولو
نجحت الصين في إطلاق عملتها الرقمية المستقرة، ستظل الولايات المتحدة منافسا قويا
للصين في مسألة العملة، إلا أنه من المتوقع أن تكون العملة الأمريكية أقل قيمة
نتيجة لانخفاض عدد مستخدميها نسبيا وانخفاض احتمالات النمو الاقتصادي في أمريكا.
استراتيجيا ستجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها مضطرة لمواجهات جيوسياسية على
النفوذ في العالم، فتحرر دول الحزام والطريق من هيمنة الدولار الأمريكي على عملتها
سيعني توجهها للعمل مع الصين، مما ستعتبره أمريكا سببا للخوض في صراعات على النفوذ
في تلك الدول.
على
الرغم من أن اليوان الرقمي قد يعزز المكانة الاستراتيجية للصين، إلا أن على الصين
أن تكون حذرة في إصداره واستخدامه بحيث لا يؤذيها استراتيجيا. فقد تحصل الصين على
وضع أفضل كونها اكتسبت مزية المتحرك الأول، لكن ذلك قد يشكل خطرا في حد ذاته.
فالعالم يراقب الصين ويقيم مدى نجاح التجربة. فمثلا لو لخص العالم إلى أن اليوان
الرقمي ستتم إساءة استخدامه أو سيستخدم في القمع السياسي والاجتماعي، فلن تجد
الصين إقبالا على العملة، بل وسيتحرك العالم بعيدا عنها نحو خيارات أخرى أكثر
أمانا مثل العملات المشفرة الخاصة التي تحافظ على الخصوصية وقدر معين من الحرية،
أو العملات الرقمية الأخرى الصادرة عن دول ديمقراطية تحافظ على الحرية الشخصية.
نهاية
العملات الوطنية وبزوغ عملة عالمية موحدة
قد يكون من أهم تبعات إطلاق العملات الرقمية العالمية،
نهاية الحاجة للعملات الوطنية الأقل استقرارا. فكثير من الدول تعاني اقتصاديا بسبب
عدم استقرار عملتها الوطنية نتيجة لصغر حجم اقتصادها وتعرضها للحروب والتدخل
الخارجي والنزاعات. سيجعل انتشار العملات الوطنية تشكيل عملة عالمية موحدة أمرا
أقرب مما كان سابقا، مما سيساهم في عولمة أكثر استقرارا ونفعا للبشرية.
الصعود الصيني.. هل تهيّأ العرب لما بعد كورونا؟
العولمة العليلة.. أزمة القيادة ونذر الفوضى
"منظمة الصحة الصينية" تنُقذ رقبة بطل الهروب إلى الأمام!!