المتتبع لمسار سياسات القابع على رأس السلطة في البيت الأبيض دونالد ترامب، يُدرك أن هذا السبعيني ذا الشعر الأشقر، لا يجيد سوى سياسة الهروب إلى الأمام إزاء الأزمات التي تضرب مفاصل الولايات المتحدة كافة تحت إمرته، وهي الاستراتيجية التي اتبعها على مدار الأيام القليلة الماضية، من أجل التخفيف من آثار حالة الترهل التي صاحبت تعامل الإدارة الأمريكية مع تفشي فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19".
أمريكا التي هتك الوباء الوافد من الصديق الصيني اللدود منظومتها الصحية، مُخلّفا نحو مليون مُصاب، وأكثر من 53 ألف ضحية، في حصاد هو الأضخم حول العالم؛ خطف سجال إدارة ترامب مع منظمة الصحة العالمية الكثير من الأضواء تجاه الكارثة الإنسانية التي تضربها، خاصة بعدما أعلن ترامب عن فك الارتباط مع المنظمة المعنية بصحة العالم.
سياسة هروب ترامب إلى الأمام التي جربها من قبل في أزمة تورط الروس في التلاعب بالانتخابات، وغيرها من المصائب التي خيمت بظل ثقيل على البيت الأبيض على مدار السنوات الأربع المنصرمة، أراد من خلالها خلق عدو خارجي يشغل الرأي العام في الداخل عن التعامل المأساوي الباهت مع الأزمة الحالية، والتهاون والتباطؤ الذي صاحب التعامل مع اختبار كورونا، خصوصا في هذا التوقيت تحديدا، حيث يخشى من تأثير تلك الأزمة على فرصه في الانتخابات الرئاسية القادمة، الأمر الذي اعتبره الكثيرون محاولة لتسييس الجائحة وتجاهل المعركة الأهم إلى حروب فرعية، الكل فيها خاسر دون استثناء.
الاتهامات خنقت ترامب وجوقته دون شك، بأنه لم يأخذ الأمر بالجدية المطلوبة، بعدما عدّ أن الفيروس خدعة إعلامية ليبرالية، وبالغ في الاستهانة باعتماد دواء الملاريا لعلاج الوباء، ليصبح في مرمى الديمقراطيين، باتهامه بانتهاج سياسات متخبطة، والفشل والكذب تجاه التعامل مع الوباء، بعدما تفرغ منذ بداية شباط/ فبراير وحتى منتصف آذار/ مارس لنفي مخاطر الفيروس، وأمام العالم بات الرئيس الذي فضح هشاشة أمريكا وضعف بنيتها التحتية.
لكن، هل كالعادة ترامب جاء متأخرا، أم إن المنظمة العالمية شاب أداءها الكثير من الخداع والتواطؤ ومجاملة الجانب الصيني على حساب صحة العالم، حتى خرجت الأمور عن السيطرة تماما، وفقد العالم أرواح نحو 200 ألف شخص في أقل من 125 يوما، إلى جانب نحو ثلاثة ملايين مُصاب، مع ضبابية تخيم حول موعد محدد لتجاوز هذا الكابوس؟
نحن هنا أمام فرضيات بالجملة، ومعطيات لا تقود إلى إجابات محددة؛ فترامب تعامل منذ البداية مع الفيروس بكثير من الاستهتار دون شك، ولكن في المقابل لم يلق اللوم على نفسه بطبيعة الحال، وإنما برر الفشل وسوء قراءة المشهد، وأحال الأمر لخداع تقارير الصحة العالمية، التي ما فتأت تجامل الصين دون داع، بينما الكثير من الضحايا يترامون على جانبي الطريق، ويفتك هذا اللعين غير المرئي بالجميع دون رحمة.
وعلى الفور، وبعد كثير من الاتهامات، هرب ترامب إلى الأمام، وأعلن وقف التمويل عن المنظمة العالمية، بسبب طريقة تعاملها مع كورونا، خطوة على صدمة توقيتها، تعكس عقلية الأمريكي الذي هدد من قبل بعدم دفع مساهمة واشنطن في تمويل الأمم المتحدة، ومغادرة حلف الناتو.
وعدّ ترامب أن المنظمة أخفقت في واجبها الأساسي ويجب محاسبتها، حيث روجت لمعلومات الصين المضللة عن الفيروس، مما أدى على الأرجح إلى انتشاره على نحو أسرع، إلا أن أحدا لم يدعم الرئيس الأمريكي، ليس بسبب التشكيك في دوافعه، ولكن لأن الوضع لا يحتمل تبادل الاتهامات "اللوم لا يفيد"، كما غرد وزير الخارجية الألمانية هايكو ماس.
توالت ردود الفعل على خطوة الأمريكي، حيث أعرب أمين عام الأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريس، عن استيائه من موقف ترامب "ليس وقت خفض موارد"، كما أبدى وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أسفه العميق "لتعليق المساهمة الأمريكية غير المبرر".
وجاء رد التنين الصيني مسرعا دون استحياء ليس فقط لينتقد موقف واشنطن، بل بإعلانه تقديم "رشوة مقننة" للمنظمة بقيمة 30 مليون دولار، التي بررها الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية قائلا، إن هذا المبلغ "سيستخدم في الوقاية من وباء كوفيد-19 ومراقبته ودعم تطوير الأنظمة الصحية في الدول النامية".
ولندع سجال الساسة جانبا لبعض الوقت، ونوثق دعم المنظمة العالمية في تلك المحنة، لكن لن نغفل مسببات ما حدث أو نترك البحث في كواليس البدايات التي ساقت إلى تلك الخواتيم، وهل تورطت المنظمة بالفعل عن عمد أو تقصير، وإلى أي مدى تغول التنين الصيني على الصحة العالمية؟
ما هو واضح دون تدقيق، أن المنظمة التي تمر بمنعطف حرج في تاريخها، تتحمل مسؤولية ما آل إليه الوضع العالمي، وأن الانتقادات التي طالت رئيسها الإثيوبي تيدروس جيبريسوس، في محلها تماما، منذ أن رفض في 23 كانون الثاني/ يناير إعلان الطوارئ، ما جعل عدد الضحايا يتضاعف خمس مرات في 130 ساعة، ليتأخر سبعة أيام أخرى ليعلن حالة الطوارئ العامة.
المنظمة انساقت تماما لبيانات بكين، حتى اعتبرها البعض "منظمة الصحة الصينية"، ولم تتحرك لسبر أغوار الفيروس، وروجت لمعطيات النظام الشمولي، وهو الذي اعتقل طبيبا كشف حقيقة الفيروس مبكرا، قبل أن تعلن وفاته بالمرض في شباط/ فبراير. وبالغت المنظمة في التضليل عندما زعمت في 14 كانون الثاني/ يناير أن التحقيقات الأولية تبين أن بكين لم تعثر على أدلة لتأكيد أن الفيروس ينتقل عبر البشر.
فرانسوا جودمان، من معهد مونتين الفرنسي، شدد على أن المنظمة ارتكبت خطأين جوهريين، عندما أخفقت في الكشف أن العدوى تنتقل بين البشر، والثاني عدم إعلان كورونا جائحة إلا بعد تسجيل 118 ألف حالة في 114 بلدا، كما تقاعست عن إرسال فريق للتحقيق بشأن الفيروس إلا في 13 شباط/ فبراير، ولم تلتفت المنظمة لصرخة تايوان المبكرة في كانون الأول/ ديسمبر 2019، بأن العدوى تنتقل بين البشر.
وكشف الرئيس السابق لجهاز المخابرات البريطاني، أن الصين أخفت معلومات عن انتشار الفيروس عن بقية العالم، وينبغي أن تُحاسب على هذا الخداع، كما رصدت المخابرات الأمريكية تلاعبا صينيا في أرقام الوفيات، ومبالغة في قدرة بكين على السيطرة على الفيروس، وهي الخدع التي صدقتها المنظمة دون تدقيق.
وعلى الرغم من التضليل، إلا أن "منظمة الصحة الصينية" رفضت انتقاد بكين، أو مجرد توجيه اللوم، حيث أشادت بشفافيتها، وجهودها في التعامل مع الوباء، ودعت دول العالم لعدم غلق حدودها مع الصين، وهو الأمر الذي ساهم في انتشار المرض المتسارع.
المنظمة التي تأسست عام 1948، باتت في مأزق أمام أكبر مموليها، الولايات المتحدة بنحو 15 في المئة، في مقابل نيل رضا الصين، التي لا تسهم سوى بـ0.2 في المئة من المساهمات الدولية، ليخرج جيبريسوس بحزمة من التبريرات الوهمية لتملق بكين، باعتبار أن الثناء طال العديد من العواصم.
ولم تكن سهام ترامب وحدها التي ضربت صدر المنظمة، بل سبقتها اليابان وتايوان باتهامها باتخاذ قرارات متأخرة، وتضليل العالم حتى 3 شباط/ فبراير، بمعارضة المنظمة فرض قيود على السفر إلى الصين، ومن ثم الانتظار حتى 11 آذار/ مارس، لوصف كورونا بـ"الجائحة".
الواقع أن المنظمة بالفعل في مرمى الإدانة، حيث كان بإمكانها تجنيب العالم هذا المصير المُظلم، لو أنها عزلت الصين مبكرا، وأعلنت الطوارئ، الأمر الذي كان يمنع تمدد الوباء، ومحاربته في موطنه، لكنها تبقى أمام فرصة أخيرة لحفظ القليل من ماء الوجه، إذا ما عجلت بالكشف عن لقاح يعيد إليها بعض الثقة المفقودة، إلا أن هذا لن يمنع تغيرات جذرية في هيكلة المنظمة وسياساتها بعد انتهاء الأزمة، تلوح في الأفق المنظور.
https://www.linkedin.com/in/alaa-zaria-ab5156126/
دروس الكساد الكبير والرهن العقاري.. هل يصمد اقتصاد أمريكا أمام عاصفة كورونا؟
عالم ما بعد الجائحة.. هل سيشكل كورونا نظاما عالميا جديدا؟
كورونا يتربص بفرص الإدارة الأمريكية لفترة ثانية