دائما كنت أسأل نفسي: كيف حافظ المسلمون في البلقان على وجودهم في هذه المنطقة الشائكة عرقيا ودينيا وتاريخيا رغم ضعفهم؟
لم أجد الإجابة الحقيقية عند سياسي أو مسؤول، ولا عند مفكر أو فيلسوف، وإنما في قصص أناس بسطاء مثل "فاتا"، وفاتا اسم الدلع لفاطمة عند مسلمي
البوسنة.
في مثل هذه الأيام قبل 28 عاما، فرت فاتا أورلوفيتش مع أولادها السبعة من بيتها في بلدة كونيفيتش بولي شرقي البوسنة، بعد مقتل زوجها في الحرب التي
شنها صرب البوسنة ضد المسلمين هناك.
عام 2000، أي بعد خمس سنوات على انتهاء الحرب، عادت فاتا إلى بيتها، لكنها لم تستطع العيش فيه طويلا، لأن في فترة غيابها عام 1995 بنى
الصرب في حديقة البيت
كنيسة أرثوذكسية. نعم
كنيسة يرتفع برج جرسها لأزيد من 20 مترا.
لجأت فاتا إلى المحكمة لإزالة الكنيسة واسترداد أرضها. صعّدت الكنيسة من مضايقاتها بقرع الأجراس وارتفاع صوت القداس بالنهار، وإرهابها بشجار من شباب منفلتين في الليل.
بعد سنتين، فلت صبر فاتا عندما جاء قس الكنيسة ومعه مجموعة من الصرب للاحتفال بذكرى قديس أرثوذكسي، نبهتهم إلى أن اليوم عيد الأضحى، فاعتدوا عليها، وتواطأت الشرطة معهم فجاء في التقرير أن فاتا اعتدت بالضرب على القس والشرطي، حكمت المحكمة بسجنها شهرا مع وقف التنفيذ.
وقد أكدت لي فاتا آنذاك أن عددهم كان أكثر من عشرين رجلا، فكيف لإمرأة عجوز أن تعتدي على كل هؤلاء الرجال؟ وتعجبت فاتا من سرعة قرار المحكمة بإدانتها، وهو ما لم يحدث مع قضية إزالة الكنيسة من أرضها. وأضافت: "كيف يصلون في كنيسة مبنية على أرض حرام، ليست ملكهم؟"، وأكملت: "والله لو كان هذا مسجدا ما صليت فيه أبدا".
منذ ذلك الحين انتقلت فاتا للعيش عند ابنتها في شمال شرق البوسنة، وكانت تتردد على بيتها بين حين وآخر.
في عام 2008 قررت المحكمة المحلية لصرب البوسنة إزالة الكنيسة، لكن السلطات التنفيذية ماطلت.
عندما تحدثت معها بعد ذلك لم يكن لديها بديل آخر، لكنها أكدت على احترامها القانون لأنها صاحبة حق وأن الله لن يضيعها.
علمت عام 2015 من محاميها أنهم سيلجأون إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وبالفعل أنصفتها المحكمة بعد أربع سنوات من المداولة بقرار يلزم سلطات صرب البوسنة بإزالة الكنيسة في موعد أقصاه الأول من نيسان/ أبريل لهذا العام.
بدأ نقل محتويات الكنيسة أواخر شباط/ فبراير الماضي، لكن انتشار فيروس كورونا أوقف كل شيء، ما عدا حماس فاتا لاسترداد أرضها. شيخوختها لم تفت في عضدها، ولم تقلل من إصرارها على أن يكون بيت أسرتها المسلمة بدون كنيسة.
تقتنص فاتا فرصة اعتدال الطقس فتذهب أحيانا إلى كونيفيتش بولي، تنظف فناء البيت وتزرع قطعة الأرض خلفه، لأنها ترى أن نمو الزرع في حقلها الصغير يغذي أملها الكبير في عودة الحق إلى أهله.
هل سيحدث ذلك فعلا بعد انقشاع غمامة فيروس كورونا؟
الأمر ليس بهذه السهولة، صرب البوسنة لديهم خطة بديلة، فهم يرون أن الكنيسة مقدسة، ولا يجوز هدمها وإنما نقلها، هذا النقل عملية تستغرق وقتا ومالا، والتقديرات الأولية تقول إنه سيكلف 50 ألف يورو.
وبما أن قضية فاتا أمام المحكمة الأوروبية كانت ضد دولة البوسنة التي تضم كيانين هما جمهورية
صرب البوسنة وفيدرالية
المسلمين والكروات، لأن المحكمة تتعامل مع الدولة وليس الكيان، فإن كيان صرب البوسنة سيطلب من دولة البوسنة التي يشكل المسلمون 52 في المئة من سكانها، دفع تكلفة نقل الكنيسة، حسب كلام مارك أتشيتش، مدير مكتب النازحين واللاجئين لصرب البوسنة.
مع ذلك، لا تشك فاتا لحظة في إزالة الكنيسة من أرضها، وتشكر ربها أنه منحها على مدى ربع قرن الصبر، والإيمان بأن من له حق يجب أن يطالب به.
لذلك فإن فاتا متفائلة بأنها ستجلس في شرفة بيتها تشرب قهوتها وترى الجبل أمامها لا الكنيسة.
وتحلم أن تستقبل أحفادها في عيد ميلادها الثامن والسبعين في آب/ أغسطس القادم، لقضاء إجازة الصيف معها وتراهم يلعبون في فناء البيت.
لذلك هي تتوعد أولادها بضرورة العيش ولو قليلا في البيت الذي بناه أبوها حمزة قبل خمسة عقود.
كنت محظوظا أن قابلت فاتا مرتين، فهي وأمثالها بإخلاصهم لقضيتهم وبساطتهم في التعامل وقوة إصرارهم؛ يحافظون على وجود المسلمين في البلقان.