فيما تشير آخر تقارير البورصات العالمية إلى التهاوي المتواصل لمعظم اقتصاديات العالم، جرّاء حالة الشلل والركود الاقتصاديين غير المسبوقين، اللّذين فرضهما تفشي وباء كورونا، وفيما كتب هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، بصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، منبّها من خطورة الاضطرابات السياسيّة والاقتصاديّة التي قد يلحقها الفيروس، ورأى أنه يتعيّن على الولايات المتحدة بدء العمل العاجل للتخطيط لما أسماه "بالعصر الجديد"، كان مثيرا للاهتمام التصريح الآخر لفرانسوا هيسبورغ، اختصاصي الجغرافيا السياسيّة ومستشار مؤسسة البحوث الاستراتيجية، في تصريحه لنوفيل أوبسرفاتير الفرنسيّة في الرابع من نيسان (أبريل) الجاري، والذي توقّع فيه أن تشهد أوروبا انخفاضا بنسبة 15 أو 20% في إنتاجها المحلي الإجمالي في عام 2020، وبالتالي سيكون من الضروري إقامة اقتصاد مجتمعي مُوجّه، كما كان الحال في الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن الماضي، أيام الرئيس ثيودور روزفلت.
التصريح الأخير لفرانسوا هايسبرغ، رأى فيه الدكتور محمّد النّوري الخبير الاقتصادي التونسي، مؤشّرا مهمّا على تصاعد الاهتمام بمقولة الدولة الاجتماعية، ليس أدناه التوجّه نحو منح الدولة الحديثة دورا اجتماعيّا أكبر.
وتكمن أهميّة هذا التفكير الجديد، وفق النوري، في تقويض مقولة الدّولة الصّفرية (أو صفر دولة)، ميسم المدرسة الليبرالية الجديدة منذ سبعينيّات القرن الماضي، وهو ما يُعدّ بمثابة الانقلاب الكامل على نموذج "دولة الرفاه" اليبرالية.
نجاح الصّين في تطويق صدمة كورونا المفاجئة صحّيا واقتصاديّا ومبادرتها إلى مدّ يد العون إلى معظم الدّول المنكوبة، بما فيها أوروبا الجريحة ذات النهج الليبرالي، أسال كثيرا من الحبر حول قرب نهاية النموذج "النيوليبرالي"، مقابل احتفاء البعض بنموذج رأسماليّة الدّولة ودعوة البعض الآخر إلى تعميم منوال "اقتصاد السوق الاجتماعي"، الذي تمّ الجنوح إليه في أزمة 2008 العالميّة، يجعل من الأهميّة بمكان مناقشة مدى حاجة البشريّة، وتونس على وجه الخصوص، لفلسفة الدّولة الاجتماعيّة وإمكانات تطبيقها محليا ودوليا في ظلّ هيمنة النظام العالمي الجديد.
فإلى أيّ حدّ يمكن أن تعبّد تطبيقات "اقتصاد السوق الاجتماعي"، المتّبعة منذ أزمة 2008، طريق الدّولة الاجتماعيّة المنشودة؟ وهل تكفي أطروحة هذه الدّولة الاجتماعيّة في كفّ أذى تداعيات كورونا الخطيرة على اقتصاديّات العالم، أم أنّ جلالة الحدث تتطلّب الذهاب أبعد من الدولة الاجتماعيّة واعتماد مقترح الخبير المالي ياسين بن إسماعيل المتمثل في اقتصاد حرب، يرتكز على ثلاثة عناصر: الإنتاج الدفاعي، القطاع الفلاحي وقطاع تكنولوجيات الاتصال؟
المرتكزات الأربعة لليبرالية الجديدة و"توافق واشنطن"
لفهم الوضعيّة الاقتصادية الهشّة التي تمرّ بها معظم اقتصاديّات العالم ومن أجل حسن استشراف مستقبل الاقتصاديات القادرة على مجابهة مختلف الأزمات الطّارئة، يكون من الضروري العود إلى المرتكزات الأربعة للنظام الليبرالي.
ففي تصريحه لـ "عربي21"، يرى محمّد النوري، أستاذ الاقتصاد والخبير في الماليّة الإسلاميّة، أنّ النظام الليبرالي يرتكز على قواعد هيمنة السوق وتقليص الإنفاق على الخدمات الاجتماعيّة، مثل التعليم، والصحة وصناديق الضمان الاجتماعي، والخصخصة والفردانيّة، بما تعنيه من حرية التجارة وحرية الأسواق الاقتصادية، وهو ما يفضي إلى تقليص دور الدولة إلى أبعد حد.
ويضيف النوري بالقول: "انبثق عن النظريّة الليبراليّة الجديدة ما سمّي بـ(توافق واشنطن)، الذي جسّد مفاهيم الليبرالية الاقتصادية الجديدة في برامج محددة للإصلاح الهيكلي، تحت إشراف صندوق النقد الدولي وتتضمن التوصيات التي أضحت مشهورة لدى الرأي العام، وهي عبارة عن عَشرة شروط أساسية، يتحدد على أساسها منح التعامل مع الصندوق والحصول على دعمه وتمويلاته وفي مقدمتها: إلغاء الدعم بكل أشكاله بما في ذلك المواد الأساسية وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام".
وتابع: "يمكن اختصار أبرز عناوين منظومة الإصلاحات التي يشترطها صندوق النقد الدولي، كممثل عن توافق واشنطن، في ثلاثة نقاط أساسية: إضعاف دور الدولة إلى أبعد حد ممكن (صفر دولة)، تسليم مقود الاقتصاد للقطاع الخاص، وفتح الاقتصاد على مصراعيه للاستثمار الخارجي والشركات متعددة الجنسية".
"الإصلاحات الكبرى" وحصاد الهشيم الليبرالي
يقول النّوري: "إنّ حصيلة الإصلاحات الكبرى، التي سوّق لها صندوق النقد وشركاؤه، لم تكن إيجابية بل أدت في معظم الأوضاع التي طبقت فيها إلى المزيد من الاختلالات الهيكلية والعديد من الأزمات والهزّات الاجتماعية، ولم تعد نظرية اليد الخفية القائمة على مبدأ (دعه يعمل دعه يمر) قادرة على تفسير الاختلالات التي تعمّ السوق الرأسمالية أو مجابهة الأزمات المتتالية التي تعصف بالاقتصاد العالمي، وآخرها الأزمة المالية التي انطلقت شرارتها عام 2007، واتضح من خلالها غياب مفعول اليد الخفية لتنظيم السوق، بل برزت أيادي مرئية استحوذت على الثروات الهائلة في الأسواق المالية، وكل ذلك من جرّاء انسحاب الدولة من وظيفتها التّعديلية ودورها الخدماتي الاجتماعي، وتبلور نتيجة لذلك منوال جديد في الاقتصاد عنوانه "اقتصاد السوق الاجتماعي" أو الليبرالية المنظمة".
ميلاد "اقتصاد السوق الاجتماعي"
يقول النّوري: "إنّه ونتيجة تغوّل السوق والنزعة الرامية إلى تأليهه، على حد تعبير المفكر الفرنسي الراحل روجيه غارودي، ونظرا لعجز السوق الليبرالي عن توفير التوازن الاقتصادي بين العرض والطلب، دعا العديد من الاقتصاديين إلى طرح أفكار جديدة قائمة على إعطاء دور أكبر للدولة في إعادة التوازن الاقتصادي بشقّيه الاستثماري والاستهلاكي، وأصبحت تلك الأفكار هي الأساس لأطروحة ما سمّي بـ (اقتصاد السوق الاجتماعي). وترتكز الأطروحة على المزاوجة بين آليات ثلاث: السّوق والدولة والمجتمع، وتحديد لكل منها دورا اقتصاديا واجتماعيا وتنمويا، بهدف إرساء التوازن بين الاهتمامات الاقتصادية والمطالب الاجتماعية والحقوق السياسية للأفراد والمجموعات والفعاليات".
ويضيف النوري: "إنّ اقتصاد السوق الاجتماعي يعني إضفاء طابع اجتماعي أكثر على حيويّة السوق، وأيضا يعني تدخّل الدولة للحفاظ على التوازن الاجتماعي وإطفاء الحرائق التي تولدها الأزمات الدورية والعامة للرأسمالية.. إنه صيغة جديدة لليبرالية ولكنها على حدّ تعبير البعض ليبرالية (رحيمة) أو (ملطّفة). وقد حقّق تطبيقه نجاحات باهرة على صعيد التعايش بين القطاعات الثلاثة:الخاص والعام والاجتماعي التضامني، في العديد من الدول مثل دول جنوب شرق آسيا واليابان والدول الاسكندينافية وتركيا، وهو ما يضمن تضامنا فعّالا بين قوى السوق والدولة والمجتمع".
أزمة كورونا تضرب جهاز الإنتاج
يرى ياسين بن اسماعيل، خبير دولي مالي ونقدي، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ الأزمة الاقتصادية الرّاهنة التي تُسببها كورونا أشدّ إيلاما من تلك التي سببتها أزمة الرهن العقاري الأمريكي سنة 2008، مفسّرا ذلك بأنّ هذه الأخيرة كانت أزمة بنيويّة ماليّة ونقديّة فحسب، في حين أنّ ما يحصل اليوم من خلل شامل بسب الحجر الصحي الشامل قد أصاب جهاز الإنتاج أي جهاز خلق الثروة، بمعنى أنّ أزمة كورونا أصابت النخاع الشّوكي للدورة الاقتصاديّة برمّتها، باعتبار أنّ جهاز الإنتاج يمثّل الاقتصاد الحقيقي وهو الأصل.
من جهته، يرى محمد صادق جبنون، استشاري في استراتيجية الاستثمار، في تصريح لـ "عربي21"، أن أزمة كورونا الحالية تتشابه إلى حدّ كبير، من ناحية مجريات الأحداث، مع أزمة الكساد الكبير التي هزّت العالم سنة 1929، باعتبار أن هذه الأخيرة كانت وليدة انحراف منظومة الإنتاج والمنظومة المالية والبورصات على وجه الخصوص، ثم لا يجب أن ننسى أن أزمة 1929 قد تلت جائحة "الحمّى الإسبانيّة" التي تسببت في وفاة 100 مليون إنسان، لكن بعد تلك الأزمة الوبائية عادت آلة الإنتاج بقوّة دون الاحتكام إلى خط سير فكانت طفرة في رأس المال وطفرة في المضاربة أدّت في نهاية المطاف إلى أزمة 1929 وانهيار البورصات.
في نفس الإطار، يرجع جبنون وجه الشبه الكبير بين أزمة كورونا وأزمة 1929 إلى وجود أزمة عرض وطلب. فالأزمة الحاليّة فيها أزمة عرض تخصّ البترول والمحروقات، بسبب تكدّس إنتاج الغاز الصخري داخل منشآت التخزين بالولايات المتحدة، ونفس الشيء بالنسبة للعربية السعودية وروسيا. نفس الشيء بالنسبة لطفرة العرض في قطاع الفندقة وقطاع السيارات، مضيفا بالقول أنّ كورونا جمّد نشاط ما يقارب 3.5 مليار من البشر، في نفس الوقت الذي برزت فيه أزمة طلب على المواد الطبية والاقتصاد العالمي بصدد خسارة ما يقرب عن 15 نقطة نمو.
بدوره يرى النّوري أنّ ما يحدث اليوم من شلل تام في الحركة الاقتصادية والمالية وتوقّف عجلة الإنتاج في معظم القطاعات الحيوية والإعلان عن بداية مرحلة خطيرة من الرّكود الاقتصادي لم يعرفها العالم منذ أزمة الكساد الكبير عام 1929، وبما يعني ذلك من توقعات باتجاه معظم الاقتصاديات في العالم إلى حالة من النمو السّالب، أي معدلات نمو تحت الصّفر برقم أو رقمين كاملين، كل ذلك يؤشر لبداية مرحلة جديدة من التاريخ الاقتصادي، عنوانها الرئيسي إعادة الاعتبار للدّور الاجتماعي والخدمي للدولة وقبر المقولات النيوليبرالية.
"اقتصاد السوق الاجتماعي" وفرص معالجة أزمة كورونا
بعد نجاح "اقتصاد السوق الاجتماعي" في تجاوز أزمة 2008، يمكن التساؤل عن مدى قدرة هذه الآليّة في معالجة الأزمة المترتّبة عن تداعيات كورونا المستجد. في هذا الإطار، يؤكّد جبنون أنّ آلية اقتصاد السوق الاجتماعي التي تم اعتمادها خلال أزمة 2008، والتي أشار إليها النوري، ما هي إلاّ آليّة تدخل مؤقت للدولة في رأس المال، إمّا لفتح صناعات تم إغلاقها، مثل قطاع صناعة الكمامات الطبية أو إعادة توطين لصناعات أخرى عبر قروض وضمانات من قبل الدولة، أو حتى بتدخّل مباشر من الدولة في رأس المال وتمويل الخواص برفع التعريفات الدّيوانيّة حتى يكسب إنتاجهم قدرة تنافسيّة. مضيفا أنّها تختلف عن معالجة التأميم التي عرفتها تونس خلال ستينيات القرن الماضي، مفضّلا استعمال كلمة إنقاذ مؤسسات بتدخّل مباشر من قبل الدولة على كلمة تأميم.
من جهته يرى بن إسماعيل أنّه تمّ اللجوء إلى عمليّة "التسيير الكمّي " (quantitative easing) من أجل استيعاب الأزمة الماليّة لسنة 2008، وأنّ هذه الآليّة وإن كانت صالحة للتطبيق في أزمة كورونا لكنها تبقى غير كافية بالمرّة. وتتمثّل عملية التسيير الكمّي، وفق بن إسماعيل، في قيام البنك المركزي بشراء أسهم وأصول الشركات الكبرى والبنوك وسندات الخزينة (treasury bond ) الخاصة بعجز خزينة الدّولة لتلك السنة وضخّهم في شكل أموال في الدورة الاقتصادية. وقد طبّق هذه العملية كلّ من الاحتياطي الفدرالي في نيويورك والبنك المركزي الأوروبي.
نحو اعتماد "اقتصاد حرب" لتجاوز أزمة كورونا
رغم إقراره بفعّالية آليّة التسيير الكمّي أثناء أزمة 2008 الماليّة، من خلال إسهامها في ارتفاع كتلة النقد، التي تساهم بدورها في تحفيز كل العملاء الاقتصاديين على الاستهلاك، وفي إمكانيّة اعتماد هذه الآلية لتجاوز أزمة كورونا الحالية، إلاّ أنّ ياسين بن اسماعيل يرى أنّ الأزمة الحاليّة وبحكم ضربها للاقتصاد الحقيقي، فإنّ المعالجة العاجلة لأزمتنا الرّاهنة، والتي تتضاعف حدّتها من أسبوع إلى آخر، تتطلّب اعتماد اقتصاد حرب. ويؤكّد في ذات الإطار على أنّ الدولة الاجتماعية هي الأقدر فعلا على مجابهة الكارثة، لكنها لن تقدر على استيعاب تداعيات الأزمة إذا لم تعتمد منهجيّة اقتصاد الحرب.
ويذكّر بن اسماعيل بأنّ اقتصاد الحرب يرتكز بالأساس على ضمان استمرار قطاعي الإنتاج الدفاعي والفلاحي، لضمان الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية الحياتيّة، مشيرا إلى أنّ تواصل جهاز الإنتاج الفلاحي ضروري حتى لا تتعطّل الدّورة الاقتصاديّة بالكامل.
في ذات السياق، يشير بن إسماعيل إلى أنّ الأزمة الراهنة ونجاح دولة سنغافورة النموذجي إلى حدّ الآن في المحافظة على تواصل عمل القطاعات الحيوية كالتعليم، أضاف الدّليل على ضرورة دعم قطاع الاتصالات وتحريك مجال الرّقمنة إلى جانب القطاع الأولي لتقوية الدفاع ضد الجائحة.
في المقابل، يرى جبنون أنّه طالما أنّ أزمة كورونا غير معهودة وغير تقليدية فإنّ معالجتها الاقتصادية لن تكون معالجة معهودة، ولا يستبعد أن تلتجئ الدولة إلى مفاهيم قد تكون مرفوضة في الأوضاع العاديّة مثل التأمين. مثلما فعلته الولايات المتحدة الأمريكيّة مع GM واستعدادها لإعادتها الآن من جديد، وإن كانت ليست في حاجة إلى ذلك.
وهو يتفق مع ما ذهب إليه بن إسماعيل في حديثه عن عمليّة التسيير الكمي الممكنة في هذه الأزمة، كما وقع في 2008، حيث يشير جبنون إلى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية بصدد ضخ أموال من قبل الاحتياطي الفيدرالي بقيمة 740 مليار دولار وخطّة إنعاش بقيمة 2.2 تريليون دولار.
كما يؤكّد جبنون على أنّه على صعيد التدخّل المباشر ستتغير كيفية تعامل الدّولة مع الاقتصاد وكيفيّة تواجدها فيه، لافتا النظر إلى أنّه لئن يتعيّن على كل بلد صناعة نموذجه الاقتصادي الذاتي، الذي يتماشى وخصائصه وأنّه من غير العلمي إقدام بلد ما على استنساخ كامل لتجربة معينة فإنّه بات واضحا أنّ أولويات الدولة التونسيّة، ذات الناتج الخام الذي لا يتعدّى حدود 40 مليار دولار، سوف تتغيّر في اتجاه إعطاء قطاع الصحة الأولوية الكبيرة في المستقبل.
حتميّة القطيعة مع براديغمات الرأسماليّة التقليديّة
يرى محمّد النوري أنّ الدولة الليبرالية الراهنة لن تكفيها مسحة "اجتماعية" عارضة على غرار ما يعد به الرئيس الأمريكي ترامب، لتتحول بين عشية وضحاها إلى مفهوم الدولة الاجتماعية. وأكد أن الدولة الاجتماعية والدولة الرأسمالية، في صيغتها النيوليبرالية، ضدان متناقضان لا يمكن الجمع بينهما كما بينت النظرية الاقتصادية الحاضنة الفكرية لها. وهو ما يجعله حاسما في القول بضرورة حصول قطيعة حقيقية مع البراديغمات الراسمالية التقليدية، التي ينبني عليها النظام الاقتصادي العالمي وإلا فإن المخاطر التي كشفت عن جانب منها أزمة كورونا، سوف تتفاقم في اتجاه بلورة نظام عالمي جديد محوره الأساسي أخلقة الاقتصاد وأنسنته عبر رافعة الدولة الاجتماعية. وأنّه رُبّ ضارة نافعة أن تعود البشرية إلى رشدها وأن تعتبر أن الإنسان هو محور الاقتصاد وغايته الأساسية وأن تضع على رأس أولوياتها توفير حاجاته الأساسية.
يعرّف ياسين بن إسماعيل الدّولة الاجتماعيّة بأنّها الدّولة القادرة على ضمان تغطية اجتماعيّة لمواطنيها دون أن تكون بالضرورة ممسكة بكلّ القطاعات الحيويّة، فالدولة الاجتماعية، وفق رأيه، هي من تضمن التغطية الاجتماعية لمواطنيها، ولا مشكل البتّة أنّها تقوم بتشريك القطاع الخاص في ذلك، مضيفا أنّ نموذج رأسماليّة الدّولة الفاشل، الذي تكون فيه الدولة هي المنتج الأكبر والمصنع الأكبر ومالكة كلّ القطاعات الكبرى، قد أصبح من الماضي وأنّه من غير المهنيّة العلميّة تجريم القطاع الخاص، الذي يمثّل قاطرة نمو للقطاع العام.
ويقترح ياسين بن إسماعيل تعريفا جديدا للدولة الاجتماعية، ويقول أنّه من واجب هذه الأخيرة تعميم قطاع الاتصالات وجعله ضمن قطاع الأوّل، حتى تضمن حسن تكافؤ الفرص بين مواطنيها.
يشاطر جبنون ما ذهب إليه بن اسماعيل في كون نموذج دولة الستينيات غير قابل للاستنساخ، مؤكّدا على أنّ الدولة الاجتماعية الجديدة يجب أن تكون ناجعة وذات اقتصاد قوي، لكن في خدمة الرقي الاجتماعي والسلامة الاجتماعية، وهو ما جعل المواطن في سنغفورة يحصل على 6 آلاف دولار، تم إيداعها مباشرة على الحسابات الموجودة على الهواتف دون الحاجة لأي تنقل أو ازدحام كالذي نشاهده في تونس وذلك بفضل التكنولوجيا.
وأكد كذلك على أنّ المشكل القائم في تونس ليس مردّه استثمار رأس المال الخاص في قطاع الصحّة، والذي تجسّم في تركّز عديد المصحّات الخاصّة، من عدمه، حيث يشير إلى أنّ كلا القطاعين الخاص والعام يمرّ بصعوبات عمل كبيرة، لأننا لسنا في إطار اقتصاد منافسة، بل إزاء اقتصاد أقطاب مغلقة وعائلي، بمعنى لا وجود لاقتصاد تنافسي. فالقطاع العام نفسه لا يزال مكبّلا بالبيروقراطيّة وبعدم النّجاعة وبعديد الممارسات التي تثقل كل تحرّك للقطاع العمومي. كما تحدث عن وجود تناقض كبير في عمل عديد القطاعات، من جهة نتحدث عن الدور المتقدم للدولة ولوزارة الصحة في مقاومة الفيروس ومن ناحية أخرى تناقضات مع وزارة الشؤون الاجتماعية ومع وزارة التجارة التي تحبط هذه المجهودات.
فخ العولمة ودمار العدالة الاجتماعيّة
يشير التومي الحمروني، باحث مختص في علم الاجتماع، في تصريح لـ "عربي21"، إلى أنّ ترويج منظّري العولمة لمقولات وسياسات مفادها أنّ مراعاة البعد الاجتماعي واحتياجات الفقراء أصبحت عبئا لا يطاق، وأنّ الحاجة لدولة الرفاه كانت مرتبطة فقط بفترة الحرب الباردة، كان ولا يزال سنام الخطاب التضليلي الذي كشفه كتاب فخ العولمة للكاتبين الألمانيين بيتر مارتين وهارلد شومان.
ويؤكد الكتاب، وفق الحمروني، على أنّ عجلة العولمة لا يمكن أن تستمر في الاندفاع دون وجود ما يعرف بالتكافل الاجتماعي الذي ترعاه الدّولة وأنّ وجود نظام حكومي يحتضن هذا التكافل هو الضّمانة للتوازن والاستقرار والمحافظة على السلم الاجتماعي بين جميع شرائح المجتمع وبالتالي فإنّ تراخي المؤسسات الاجتماعية الرّاعية هو من عزّز تآكل شبكات الأمان.
جدل الدّولة الاجتماعيّة والدّولة الدّيمقراطيّة
يشير زهيّر إسماعيل، جامعي وباحث بمركز الدّراسات والبحوث الاقتصاديّة والاجتماعيّة، في تصريح لـ "عربي21"، إلى أنّ الحديث عن الدولة الاجتماعيّة الذي استدعته سرعة تحوّل فيروس كورونا من الصّين إلى بقيّة أنحاء العالم وظهور ضرب من عجز الدّولة عن المواجهة، قد طرح قضيّتين متداخلتين: الدّولة الاجتماعيّة والدّولة الدّيمقراطيّة، مضيفا أنّه بقدر ما صارت الدّولة الاجتماعيّة مطلبا وضرورة في مواجهة الوباء، فإنّ عدم الالتزام بالإجراءات الوقائيّة، في بعض الدّول الدّيمقراطيّة العريقة، أثار غبارا حول قدرة الدّولة الدّيمقراطيّة على محاربة الفيروس ودور ثقافة احترام الحريّات الخاصّة والعامّة وحقوق الإنسان في إفشال خطط المواجهة المرسومة.
في ذات السياق، يقول اسماعيل: "إنه لا خلاف في كون الفيروس طرح بحدّة الدّور الاجتماعي للدّولة والحاجة إلى حضورها القوي ودورها في التعبئة العامّة ودور البنية الصحّية القائمة في هذه الحرب الشاملة والمفاجئة"، مشيرا إلى أنّه لم يسعف الحكومة الفرنسيّة سوى التقاليد الاجتماعيّة العريقة للدولة الفرنسيّة، في حين أنّ غياب مقل هذه التقاليد في الولايات المتحدة، هو ما دفع إدارتها إلى تسخير كل المصحّات وقطاع الطب الخاص.
في حين يرى بن إسماعيل أنّ الصّين التي نجحت نسبيّا في كسر الوباء، ليست اشتراكيّة رغم تواصل حكم الحزب الشيوعي ولجنته المركزيّة ورغم ادّعاء زعمائها في مشروع "حلم الصين العظيمة" أنّها اشتراكية على الطريقة الصينيّة. فهي أقرب إلى أن تكون رأسماليّة على الطريقة الصينيّة بمعنى قفز رأس المال من المجتمع إلى الدّولة فكانت رأسماليّة الدّولة وصار أعضاء الحزب الشيوعي هم كبار الأثرياء والملاّك.
وانتهى إلى القول: "إنّ أمر كسر الوباء متوقف على قدرة الدّولة على حسن الاستباق أوّلا وحسن التخطيط ثانيا، وبالتالي فإن المراجعة التي يطرحها كورونا تتجاوز البعد الاجتماعي للدّولة إلى بنية الدّولة في ذاتها وعلاقتها بالمجتمع وبهويّة انتظامه المحليّة وأنّ كورونا سيعسكر النظر في كلّ شيء: في الدّولة والمجتمع والإنسان والله والأخلاق والاقتصاد".
النظام العالمي يعيق قيام الدولة الاجتماعية
جوابا على سؤال ما إذا كانت أزمة كورونا وتبعاتها الاجتماعيّة الصّعبة يمكن أن تشكّل منطلقا لإعادة تركيز الدّولة الاجتماعيّة، ترى جنّات بن عبد الله، إعلامية وكاتبة مختصّة في الشأن الاقتصادي والتجارة الدولية، في تصريح لـ "عربي21"، أنّه ولئن كانت الأزمة الحالية كغيرها من الأزمات دافع إلى إعادة التفكير في دور الدولة، خاصة على مستوى القطاعات ذات البعد الاجتماعي، والتي تمّ التخلّي عنها لفائدة القطاع الخاص، مثل التعليم والصحة والكهرباء والاتصالات، فإنّ انخراط الدولة التونسية، منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي، في إطار برامج "الإصلاحات الهيكلية" لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إلى جانب ما سمّي بسياسات الانفتاح وتحرير التجارة الخارجية، في إطار النظام التجاري متعدد الأطراف الذي أرسى العولمة المالية والاقتصادية منذ تسعينيّات القرن الماضي، من شأنه أن يحول عمليّا دون انبثاق قرار وطني مستقل قد يفضي إلى تركيز الدّولة الاجتماعيّة المنشودة.
في ذات السياق، تؤكّد بن عبد الله أنّ الترسانة القانونية التي صادق عليها مجلس نواب الشعب (البرلمان) بعد انتخابات سنة 2014 تندرج ضمن مزيد تكريس عدم تدخل الدولة في المجال الاقتصادي، فجاء قانون الاستثمار، والقانون الأفقي للاستثمار وتحسين مناخ الأعمال، وقانون الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص، واتفاقية السماوات المفتوحة مع الاتحاد الأوروبي وغيرها... لفتح المجال أمام القطاع الخاص وخاصة الاستثمار الأجنبي للاستحواذ على القطاعات الإستراتيجية بعيدا عن مقتضيات الدولة الاجتماعيّة.
وتضيف بن عبد الله أن هذه الترسانة القانونية تندرج ضمن برنامج الإصلاحات الهيكلية التي التزمت بها الدولة التونسية تجاه صندوق النقد الدولي للحصول على قرض "تسهيل الصندوق الممدد" بقيمة 2.9 مليار دولار والبنك الدولي في إطار برنامج الشراكة بين مجموعة البنك الدولي وبلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
كما تتناغم هذه القوانين مع متطلبات مشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي الرامي الى تحرير قطاعي الفلاحة والخدمات وتطبيق أحكام اتفاقية حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة للمنظمة العالمية للتجارة.
وبالتالي ترى جنات بن عبد الله أنّ حدّة الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعيشها البلاد، فضلا عن التبعية المقيتة لهذه المؤسسات المالية الساهرة على النظام الليبرالي وعلى النظام العالمي المخترق لسيادة الدول وقوانينها الوطنية يجعل من التفكير في الدولة الاجتماعية من المسائل المستحيلة على الأقل في المدى الآني والقريب، حيث يتطلب ذلك ثورة على القوانين الوطنية التي أصبحت تشرع لتفويت الدولة في مؤسساتها العمومية بما في ذلك الحيوية والحساسة.
من جهته، يرى محمّد النوري أنّ هذه التحولات الكبرى المتوقعة عالميا سيكون لها وقع كبير على الصعيد المحلي، لان بلدا صغيرا مثل تونس لا يملك مقومات مناعته الاقتصادية والمالية، ليس أمامه سوى أن يكون سباقا في اغتنام هذه الفرصة التاريخية للقيام بإصلاحات جوهرية في منواله التنموي والقطع مع مفهوم الإصلاحات الكبرى التي ينادي بها صندوق النقد الدولي، وأنّه آن الأوان للنخبة الفكرية التونسية كي تتعاون على إنجاز هذه النقلة التاريخية من منوال هجين يعود لمرحلة ما قبل الاستقلال إلى منوال جديد عنوانه "اقتصاد السوق الاجتماعي" بصيغة تونسية صرفة تأخذ بعين الاعتبار الثوابت الوطنية والخصوصيات الثقافية والدينية والمجتمعية بشكل عام، يكون فيه للدولة دورها الاجتماعي الوطني المطلوب.
هل يؤسس وباء كورونا لحركة إفتاء جديدة؟
كيف أظهرت جائحة كورونا هشاشة منجزات الحداثة الغربية؟
الإشاعة والفكر التضليلي زمن كورونا.. الجزائر نموذجا