بعد التخلف الأول عن سداد اليورو بوند بقيمة مليار و200 مليون دولار للدائنين الدوليين والمحليين، مطلع آذار/ مارس 2020، تتجه الحكومة
اللبنانية الحالية إلى أزمات بالجملة، تبدأ بالتعاطي المر مع جائحة كورونا وما فعله هذا الفيروس في قتل حياة اللبنانيين الذين لم يكن ينقص همومهم الهائلة إلا حضور كورونا الثقيل الوطأة، طبيا وصحيا وماديا ومعنويا ونفسيا. وبجانب فيروس كورونا المصحوب بفلتان الأسعار ووجع الناس، حتما ستتخلف الحكومة عن دفع استحقاق نيسان/ أبريل 2020 والذي تبلغ أرقامه ما يقارب 700 مليون دولار، مما يزيد الطين بلة لصورة الدولة المهزوزة من التخلف الأول أساسا، علما أنه حتى الساعة ما رأينا أي حوارات مع الدائنين، ولم نعلم ما هي حظوظ إعادة الجدولة أو إعادة الهيكلة. كذلك لا زال التخبط سيد الموقف، فلا تعيينات ولا قرارات جدية تمس بملوك الطوائف.
وللحقيقة، لم تنجز الحكومة خطتها
الاقتصادية والتي لا بد أن يكون قوامها ملفات رئيسية كالكهرباء صاحبة الجلالة في سلم الديون اللبنانية. وللتذكير فقط، فإن حجم الإنفاق فاق الأربعين مليار دولار على قطاع الكهرباء في بلد يعاني من نقص في ساعات التغذية الكهربائية لمواطنيه.
كذلك لا بد من إعادة النظر بحجم القطاع العام الذي يستهلك ما يفوق ثلث الموازنة اللبنانية، والتي بالمناسبة ضاعت أرقامها إنفاقا وإيرادات بعد انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وفيروس كورونا المستجد في 2020. ولا بد من إيجاد آلية للحد من خدمة الدين العام الذي جاوزت أرقامه كل التوقعات، حتى استحوذ على ثلث الموازنة المنهكة، والتي فقدت ما يزيد عن نصف إيراداتها قبل حلول الفيروس الذائع الصيت، وإن لم يتم تدارك الأمر سريعا، فسينهي أي رؤية للنهوض.
إن الخطة المنتظرة من الحكومة "الديابية" المدججة بالخبراء المشهود لكفاءتهم لا بد أن تعد بالتعاون مع البنك الدولي، بعد أن رفع حزب الله بمكان ما إمكانية الاستعانة بالبنك ما لم تنتهك السيادة اللبنانية، وتاليا لا بد للحكومة الديابية وبسرعة فائقة حتى ضمن الظروف الطارئة، من عرض خطتها والمضي بها موضع التنفيذ، لأن مهلة المئة يوم التي أشار إليها وزير الاقتصاد الذي يُشهد لخبرته وقدرته وجرأته، السيد راؤول نعمة، بدأت بالنفاد، وتاليا هل نفاد هذه الفترة (100 يوم) وعدم إعداد الخطة الاقتصادية التي تلقى القبول دوليا ومحليا مع سعر صرف تجاوز 2900 ليرة للدولار الواحد؛ سيكون مدخلا للشروع في حكومة جديدة تعيد سعد الحريري إلى رئاسة الوزراء في ظل العجز الحكومي القائم وتبدل المزاج الدولي؟ وعليه ضمنا، هل الخطة ستحمل مع التخلف عن الديون رؤية لتنشيط الاقتصاد؟ وتاليا ماذا عن إعادة جدولة الديون أو إعادة هيكلتها أساسا؟
وهنا يبرز السؤال الذي يؤرق جنوب اللبنانيين ويكاد لا يسمح لهم بالنوم: هل من "هيركات" (قص شعر للديون)؟ وماذا سيشمل من الودائع؟ وعند أي عتبة من الأرقام المودعة، وذلك طبعا بعد إيجاد حلول مع الدائنين اللبنانين والدوليين بآليات مقبولة ضمن معايير دولية ظهرت سابقا في الأرجنتين وقبرص واليونان؟ فالأرجنتين فعلتها عام 2005 وقبرص في العام 2013، واليونان كذلك في العام 2015 والقائمة تطول، وللمناسبة، هذه دول تعتمد النظام الاقتصادي الليبرالي الحر.
ببساطة ووضوح نرى أن القاعدة تقول إن من أكل من خيرات هذه البلاد وتنعم بها لأعوام خلت من البحبوحة؛ عليه أن يكون شريكا في عملية الإنقاذ وإلا فالمركب سيغرق بالجميع.
وكتعريف علمي للهيركات، فإنّه الخصم القسري للدين (قص الشعر)، وهو عبارة عن حسم قيمة الأصول المالية، مثل سندات الخزينة ووحدة قياسها دائماً النسبة المئوية للقيمة الرئيسة. وبكلام عملي، إذا افترضنا أنّ قيمة سند خزينة 10 ملايين دولار، وتمّت عملية خصم قسري للدين بنسبة 25 في المئة، تصبح قيمة هذا السند 7.5 مليون دولار. أي أنّ صاحب هذا السند سيحصل على 7.5 مليون دولار بدل مليون دولار كاملة.
إن الحل الأجدى من الحكومة اللجوء إلى الهيركات الفعلي، الذي يضمن خفض الفوائد وتحريك العجلة الاقتصادية الزراعية والصناعية والسياحية التي هي عماد الاقتصاد السليم، بدل قتل القطاعات الحيوية في مهدها، وتاليا يضمن ضخ الأموال الجديدة (فريش مني) وتفعيل خفض خدمة الدين، بدل الهيركات المقنّع عبر الشيكات المصرفية المخصومة لدى التجار والصيارفة وتسرق من جيوب اللبنانيين جهارا نهارا تارة، أو عبر سحب العملة اللبنانية على سعر صرف الدولة من المصارف وتحويلها على سعر الصرف المتداول في السوق السوداء مع فارق أشبه بالهيركات.
لذلك وبكل ثقة لا بد من هيركات قانوني بضمانة الدولة العادلة، واضح وشفاف ورؤيوي، فيه من الجرأة لمقاربة الأمور بحساسيتها دون لبس قفازات.
إن الناظر في أموال المودعين اللبنانيين وتوزيعها يجد الآتي:
إن 60 في المئة من الودائع هي في حسابات لا تتجاوز قيمتها 3500 دولار للحساب الواحد، وهي تشكل ما نسبته 1.1 في المئة من المجموع النقدي للودائع. أم الشريحة الثانية من الودائع المصرفية فتضم 32 في المئة من الودائع، في حسابات تتراوح قيمتها بين 3500 دولار إلى مئة ألف دولار وهي تشكل ما يقارب 13.7 في المئة من المجموع النقدي للودائع، والشريحة الثالثة من الودائع المصرفية فتضم حوالي 7.6 في المئة من المودعين، والذين تتراوح قيمة ودائعهم ما بين المئة ألف دولار وصولا إلى المليون دولار، وهذه تشكل ما يقارب 36.2 في المئة من المجموع النقدي للودائع. أما الشريحة "الحرزانة" (الممتلئة) باللبناني العامي، فهي الشريحة التي تتجاوز حساباتها ما قيمته المليون دولار أمريكي، وهي تشكل 0.84 في المئة من المودعين، ويشكل حاملوها حوالي 49 في المئة من المجموع النقدي للودائع.
ولمزيد من توضيح من أين يؤكل الكتف وأين هي الشرائح التي تتركز الثروة بين يديها، وتاليا تستطيع الدولة العادلة والحيوية فرض الهيركات بقوة القانون عليها، نستعرض الآتي:
إن الشريحة الأولى والتي تشكل 60 في المئة من الحسابات، مجموع ودائها مليار و900 مليون دولار، في حين أن الشريحة الثانية والتي تشكل 32 في المئة من الحسابات؛ مجموع ودائها قرابة 23 مليار دولار، والشريحة الثالثة والتي تشكل 7.6 في المئة من الحسابات؛ مجموع ودائها 61 مليار دولار، في حين أن الشريحة "الحرزانة" والتي تشكل 0.84 في المئة من حسابات المودعين؛ تبلغ مجموع ودائعها 82 مليار دولار، علما أن مجموع 167 مليار دولار قد هبطت بحوالي تسعة مليارات دولار بفعل عدة عوامل؛ أبرزها التحويلات التي جرت بالتزامن مع صرخة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 في شوارع بيروت، والتي ما زالت موضع مساءلة قانونية وشعبية في البلاد.
ببساطة ووضوح بعد سقوط مشروع قانون الكابيتال كونترول بالضربة القاضية من قبل رئيس البرلمان وسحبه من التداول، أقله في الوقت الراهن، فإننا نرى أنه إذا كانت الخطة الاقتصادية محملة بالهيركات (قص الودائع) قادرة وفاعلة بالنهوض وإن كانت على سنوات، ولكنها تحمل العلاجات اللازمة، فأهلا وسهلا بها على قاعدة الاقتطاع من الأمكنة الظاهرة من البيانات المالية المصرفية المستعرضة وعلى قاعدة عدم المس بالطبقات الدنيا والوسطى من الودائع، والتي تشكل ما يزيد عن 92 في المئة من مجمل الحسابات. وعليه لا بد من تحميل الهيركات وبكل عدالة للحسابات التي تشكل ما نسبته دون 1 في المئة، والتي تراكم رقما يفوق 80 مليار دولار، والتي هي بمعظمها ودائع ريعية غارقة في بحر من فوائد حققتها على مدار السنين السابقة من خيرات هذه البلاد المتعبة.