تمضي ساعات نهار معظم البشر هذه الأيام بشكل متشابه، فالجميع في منازلهم يقضونها ما بين العمل عن البعد والمتابعة الحثيثة لآخر التطورات، إلى تبادل الأخبار فيما بينهم حول الواقع غير المعتاد الذي فجره الانتشار المباغت لفيروس "COVID-19"، الذي قلب حياتهم على حين غرة رأسا على عقب، والذي ما أن أطل برأسه الكريه حتى أبدل واقع حالهم المفهوم والمعتاد بالمجهول. ترتفع درجة الترقب مع اقتراب موعد الإيجاز الصحفي اليومي، حيث تحتبس الأنفاس وهي تنتظر إعلان السلطات الصحية عن عدد الحالات المسجلة في هذا اليوم.
ثم لا تلبث حتى تبدأ التكهنات والتحليلات التي تكاد لا تتوقف، ربما رغبة برفع الغطاء عن الحقيقة التي تقبع وراء الرقم نفسه زاد أم انخفض، لتملئ النفوس بالأسئلة التي لاتنتهي؛ هل الأرقام مقلقة أم إنها ما زالت تحت السيطرة؟ متى ينتهي كل هذا؟ إلى غيرها من الأسئلة التي من الطبيعي أن تنبع من النفس الإنسانية عند تعرضها لخطرٍ مجهول وواقع غير مألوف، إلا أن المؤسف ربما الحقيقة بأن لا أحد يمتلك إجابات لتلك الأسئلة دون معلومات إضافية.
فعدد الحالات المسجلة في أية دولة، هو فعليا عدد الحالات التي تم إجراء اختبار لها، وجاءت نتيجته لها إيجابية. والنقطة المهمة التي يجب أن تصل إلى إدراك الجميع؛ أن عدد الحالات وحده هو رقم أصم، لا يعني عمليا سوى أنه في الوقت الحالي الموجود في العزل وتحت الرعاية الطبية، العدد ذاته. والرقم منفردا (كمعلومة) لا ينبئ عن واقع أو حقيقة مطلقة عدا ذلك، ومن ثم فهو لا يسهم في توقع وتحليل المستقبل، إلا عند توفر أرقام أخرى لتوضيح الصورة بأكملها.
بمعنى آخر، حتى يكون الرقم ذا دلالة كاملة، يتحتم معرفة عدد
الاختبارات التي تم إجراءها في فترة معينة لحالات مشتبه بها، أو مخالطة لحالة معينة تم تتبعها وتم إجراء الاختبار لها، بالإضافة إلى الماهية المتبعة لتقصي وتتبع الحالات المخالطة والمشتبه بإصاباتها، وطبعا مصدر
العدوى الأساسي.
شددت منظمة الصحة العالمية، على أن كسر تسلسل فيروس "COVID-19" يتم عن طريق مواصلة إجراء الاختبارات وفرض العزل، بالإضافة إلى تتبع اتصالات المصابين خلال اليومين الماضيين قبل أن تبدأ الأعراض بالظهور عليهم، وقبل أن تكون نتيجة الاختبار إيجابية لديهم أيضا.
من هنا، نستنتج أهمية رفع عدد الاختبارات التي تجري بالتوازي مع عمليات التقصي، والتي قد تفضي في أحيان كثيرة إلى معلومات بالغة الأهمية، مثل تحديد بؤر تفشي معينة، والأهم إعطاء الصورة كاملة لمدى الانتشار.
نستنتج مما سبق، ضرورة توضيح أهمية نقطتين مهمتين عند مكافحة جائحة بحجم "COVID-19"، المتمثلة باتباع السلطات الصحية مبكرا توصيات منظمة الصحة العالمية، بالإضافة إلى الشفافية في التعامل مع الظروف الراهنة، ومن ثم تجنب اتخاذ إجراءات صحية بناء على مقاربة سياسية أو اقتصادية لأسباب قصيرة الأمد، ستفضي لاحقأ إلى حالات من التفشي ربما تفقد بعدها السلطات السيطرة عليها، وطبعا حينها ستترك بدلا من ذلك آثارا بعيدة الأمد. طبعا، لا داعي هنا للتذكير بحالات مثل إيران والولايات المتحدة الأمريكية، حين تعاملت السلطات السياسة في البلدين مع الموضوع من باب النكران والتجاهل في البداية، كلٌ تبعا لأسبابه.
أما الحالات التي يجب تسليط الضوء عليها، فهي قصص النجاح التي جنبت بلدانها كوارث ربما لم تكن ستقوى على القيام منها فيما لو لم تتخذ منذ البداية قرارات سليمة، نتج عنها إجراءات صحيحة حدت بسرعة من تفشي الوباء، ومن ثم تجنب آثاره الاقتصادية طويلة الأمد. بحسب الخبراء، فإن أهم أسباب نجاعة كوريا الجنوبية باحتواء الجائحة بالرغم من ارتفاع عدد المصابين النسبي، يعود إلى سببين: الأول هو إجراء عدد كبير من الاختبارات، التي كشفت عن عدد كبير من الإصابات الفعلية، لكنها في الوقت نفسه قلصت احتمالية بقاء حالات في الخفاء. أما الثاني، فهو التتبع الفاعل للحالات المصابة لتحديد المخالطين وحصرهم، حيث وظفت السلطات في كوريا الذكاء الصناعي من خلال تتبع تحركات الحالات وتحديد مخالطيهم عبر تطبيقات هواتفهم الذكية.
في البداية، نظر البعض إلى ارتفاع عدد الحالات في كوريا التي وصلت إلى حوالي تسعة آلاف حالة بأنه رقم مرتفع مقارنة بعدد السكان الذي لا يتجاوز 52 مليون نسمة، لكن النظرة ربما ستتغير (لتعتبر الرقم ليس بالكبير) عندما تعرف بأن كوريا قد أجرت ما يقارب 360 ألف اختبار خلال ثمانية أسابيع فقط. فعدد الاختبارات إلى جانب التتبع الفعال حاصر الوباء فعليا في فترة قصير نبسيا، مع الأخذ بالاعتبار طبعا بأن كوريا من أولى الدول التي انتشر فيها الفيروس.
المراد التأكيد هنا مجددا، بأن الرقم الأصم الذي تحدثنا عنه، سواء أكان مرتفعا أم منخفضا، فهو غير مؤهل وحده بأن يبعث الطمأنينة أو يبث الهلع، ودون معرفة العوامل الأخرى المتبعة لتطويق الجائحة من إجراءات الاختبارات ومن ثم العزل، يبقى الرقم دون أن أي دلالة ولا يحدد مسار الوباء. هناك دول، بعد أن غيرت طبيعة إجراءاتها المتخذة بناء على تغيير القرار السياسي لها، حدثت لديها قفزات بالأرقام؛ لا لأن الوباء وصل إليها للتو، بل لأنها في الواقع قد بدأت الآن فقط بالتعامل معه بالطرق السليمة من الناحية العلمية، من أمثلة ذلك الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن المؤسف بحق، أنه ما تزال هناك حتى اللحظة في دول أخرى على طرف النقيض من كوريا؛ المعايير التي تفرضها السلطات الصحية فضفاضة بشكل أكبر، حيث لا يتم إجراء الاختبارات قبل أن تظهر الأعراض بشكل حاد، ما يعطي بالمقابل مؤشرات مغلوطة عن أعداد المصابين الفعليين، والأخطر من ذلك ترك مصابين خفيين يمرون دون اختبار بالرغم من مرضهم، ببساطة لأن أعراضهم غير حادة، مما يجعلهم خطرا خفيا ينقل المرض ربما للفئات ذات الخطورة العالية، وقنابل موقوتة قد تتسبب في نشوء بؤر للوباء، فيما يبقون هم خارج رادار السلطات الصحية؛ فهم من ناحية ينقلون المرض دون تشخيصهم، تاركين حلقات ناقصة في السلسلة لاحقا عند اكتشاف حالات، سيصعب الرجوع لتتبع أسباب إصابة أصحابها من ناحية أخرى.
ويبقى هنا الرقم المعلن بشكل يومي مجرد رقم أصم لا يحمل في طياته أي مؤشر يقدم أو يؤخر لأخذ إجراءات إضافية مثلاً، ما دامت السلطات تعرف جيداً في قرارة نفسها بأن الرقم بحد ذاته لا يعني شيئا.