يقولون إن
كورونا قد تجاوز مفهوم "الوباء" الذي يحصد الأرواح ويدمر الاقتصادات والمعايش، وأصبح محور صراع مكتوم بين أمريكا والصين على من يقود العالم خلال الفترة المقبلة؛ صراع على النفوذ والاستحواذ والهيمنة أكثر وأكثر على مقدرات العالم. وما كانت مسارعة
الصين الى
إنقاذ الدول الأكثر تضررا (إيطاليا وايران) إلا لإظهار القوة والنفوذ واستحقاق الزعامة. وتم كل ذلك بعيدا عن البروباجندا التقليدية للماكينة الإعلامية الأمريكية.. ترامب وإدارته لم يظهرا أي تعاطف مع أزمة الشعب الإيراني، والتي كانت
العقوبات سببا اكيدا في مضاعفتها، بل وكانت أنفاس الشماته تفوح من كل تصريح..
* * *
منذ اللحظة الأولى اكتشفت الصين طبيعة التحدي، وقررت بسرعة محسوبة أن
تواجه هذه التحدي بقوة وبحزم وبلا شفقة. إذ أنها قدرت الخطورة أولا، كما يقولون في علم إدارة الأزمات.. تلك خطورتها لم تكن على الصحة والاقتصاد ومستقبل المشروعات الكبرى (طريق الحرير الجديد) فحسب، بل على مستقبل الدولة الصينية ذاتها، الدولة ذات السبعة آلاف عام، فوضعت سياسة العزل التام والوقاية وتسريع البحث العلمي لاكتشاف كل أسرار الفيروس، وشيدت مستشفيات خاصة وجهزتها خلال عشرة أيام.
كانت فرصة كاملة لإظهار عظمة الصين كأمة، وكمستقبل بالغ الوعد والبشارة للإنسانية، بل وإطلاق مفهوم جديد وغير قابل للجدل حول فكرة "
حقوق الإنسان" واحترام الإنسان وصون الإنسان.. وبدا أن هناك أوقاتا حقيقية يتم فيها اختبار المفاهيم ووضعها على المحك الحقيقي..
لحقوق الإنسان صورة أخرى إذاً غير تلك التي صال وجال بها الرجل الأبيض صاحب "العبء الشهير" الذي حمله كذبا وزورا.. وهو ما جعل للصين عالميا، في الفترة الأخيرة، هيبة واحترام كبيرين.. لم تنظر الدولة الصينية للخسائر الاقتصادية كأولوية ولم تقلق، بل وقامت بضخ المليارات من أجل إنقاذ "الإنسان" ونجحت الخطة في تجاوز مفهوم الوباء الذي يحصد الأرواح ويدمر الاقتصادات والمعايش.
* * *
الصراع بين العملاقين الصيني والأمريكي (ينتجان أكثر من نصف الإنتاج العالمي) كان متوقعا أصلا بحلول نهاية هذا العام (2020م).. لذلك سيكون مهما هنا أن نعلم أن الصين مصرة وتسير بهمة كبيرة لإتمام طريق الحرير الجديد (طرق وممرات تجارية تربط أكثر من 68 دولة وتشكل 65 في المئة من سكان العالم وتنتج نحو 40 في المئة من الإنتاج العالمي) والسيطرة على الإنترنت العالمي.. وأمريكا تريد إجبارها على التفاوض والجلوس أمامها لترتيب الدنيا قبل إتمام ذلك المشروع؛ لأنه ببساطه سيضعف قوة أمريكا وهيبتها في قيادة العالم، فالدولار سيفقد قوته الضاربة التي تتحكم بها أمريكا في العالم..
وهو ما يجعلنا ننتبه إلى ما قاله متحدث رسمي صينى على تويتر (12 آذار/ مارس) بأن الجيش الأمريكي ربما كان وراء تفشي فيروس كورونا في الصين، وأن المجتمع الدولي لديه "أفكار مختلفة" حول أصل الفيروس الذي أصاب أكثر من 100 ألف شخص على مستوى العالم. وقال: تحلوا بالشفافية! أعلنوا بياناتكم! أمريكا مدينة لنا بتفسير.. وفورا استدعت الخارجية الأمريكية السفير الصيني وطلبت منه تفسيرا لهذه التصريحات.
لكن آراء أخرى تقول إن الصين تشتغل على هذا الفيروس (كورونا/ كوفيد-19) أصلا من عام 2003 (سنة غزو أمريكا للعراق) قبل تحوله الأخير، وكان اسمه "سارس"، وانتشر فيها بشكل مفاجئ، ويقال إنه كان بفعل فاعل ( الصدفة الذكية تقول إنه كان في شهر الغزو الأمريكي للعراق، آذار/ مارس!!) وأثر سلبيا بالفعل وقتها على الاقتصاد الصيني وتماسك القيادة السياسية الصينية التي كانت لا تزال تمر بفترة انتقاليه.. وأن الفيروس تم تخليقه في مختبر بمدينة ووهان الصينية، وأن الصين استخدمت الفيروس داخليا ثم صدرته خارجيا من خلال مليون شخص دخلوا وخرجوا من الصين خلال الشهور الأربعة الأخيرة.. إنها
المؤامرة التي تكثر حولها ظنون الاتهام هنا وهناك.
* * *
قد لا يكون الصراع على النفوذ والهيمنة بالمنطق القديم هو المهم والحاسم، بل الأكثر أهميه هو ما طرحه "توماس فريدمان" في مقال له في نيويورك تايمز الأسبوع الماضي، حول "الثقافة العميقة" للعم سام في التفكير والسلوك والنظر إلى الذات والآخر، وهو ما سيكون في مرحلة ما بعد كورونا.. متسائلا: هل ستتغير الثقافة أو السياسة الأمريكية بشكل جذري بسبب هذا الوباء؟
وتحدث عن كتاب لأستاذة بجامعة ميريلاند (ميشيل جلفاند) صاحبة كتاب "صانعو القواعد ومخالفو النظم: كيف تربط الثقافات الضيقة والواسعة العالم"، وقال إنها نشرت هي وزملاؤها في مجلة ساينس قبل عدة سنوات تصنيفا للدول من حيث إعطاء الأولوية للقواعد على الحرية إلى: "ضيقة" أو "فضفاضة". وقالت إن المجتمعات الضيقة مثل الصين وسنغافورة والنمسا لديها العديد من القواعد والعقوبات التي تحكم السلوك الاجتماعي.. لقد اعتاد المواطنون في تلك الأماكن على درجة عالية من الرقابة التي تهدف إلى تعزيز السلوك الجيد.. أما الثقافات الفضفاضة في دول مثل الولايات المتحدة وإيطاليا والبرازيل، فلديها قواعد أضعف وأكثر تساهلاً.
فالدول التي لديها أقوى القوانين وأشد العقوبات هي تلك التي لها تاريخ من المجاعات والحرب والكوارث الطبيعية وتفشي الأمراض.. لقد تعلمت هذه الدول المعرضة للكوارث الدرس الصعب على مر القرون، وهو أن القواعد الصارمة والنظام ينقذان الأرواح.. في حين أن الثقافات التي واجهت القليل من التهديدات مثل أمريكا فإنها تتمتع بترف القوانين الفضفاضة.
وأختم بتذكير توماس (وهو الذي اهتم كثيرا ولا زال بثقافة الشرق) بأننا في الشرق أبناء ثقافة تعتبر "النظافة الشخصية" عبادة دينية وعمل صالح.. وإن ما قاله الدكتور كريج كونسيدين في تقريره المنشور في 17 آذار/ مارس الماضى في نيوزويك عن الإسلام والنبي الكريم جدير بأن تهتم به وتعلق عليه، وإن الصرامة لدينا في الرقابة على "الذات" خلق ديني قبل أن تكون قانونا حكوميا.