تحمل هذه الرواية اسمين: الأول هو
"التميمة السوداء" وهو المكتوب على غلاف الرواية، أما الثاني فهو
"فصل المقال فيما جرى للشيخ ميمون الهذّال" المكتوب تحت العنوان الأول
في الصفحة الداخلية وهو عنوان مسبوق بحرف العطف "أو" الذي يفيد التخيير
هنا. الأمر الذي يحيلنا إلى عناوين كتب التراث التي اختلف المحققون في تسميتها أو
أنها حملت في الأصل أكثر من اسم. وهي إحالة مقصودة من الكاتب الأردني حسام الرشيد
الذي يختفي خلف الرواية ويقدمها لنا كمخطوط تراثي كتبته شخصية تاريخية عاشت في
القرن الثامن الهجري. وكي يوهمنا بواقعية الشخصية والمخطوط حددَ الكاتب اسم صاحبه
بدقة كما يفعل في كتب التراجم؛ فهو الشيخ زكي الدين بن محمد بن علي الدمشقي، كما
حدد سنة وفاته بالعام 784 للهجرة.
الصراع بين السلطة والمثقف هو المحور
الرئيس لهذه الرواية: السلطة يمثلها الملك الأفضل الذي تدور أحداث الرواية في زمنه
وهو أحد أبناء السلطان صلاح الدين الأيوبي. وهو شر خلف لخير سلف، كما تقدمه
الرواية، إذ يتصف بالظلم والبطش وسوء التدبير، كما أنه ألعوبة في يد وزيره ابن
الأثير. أمّا المثقف فيمثله الشيخ ميمون الهذّال إمام المسجد الأموي والقاضي
العادل، قبل أن يعزله الملك الأفضل.
والاستبداد لا تقوم له قائمة إلا
بمساعدة الأعوان والأنصار، فالمستبد لا يكون كذلك إلا إذا وجد من يزيّن له هذا
الطريق ويسانده، وفي الرواية كان هناك ابن الأثير وعلقمة الجاسوس وهناك البصاصون
والعسكر. أمّا المثقف فقلّة الذين يساندونه، فنجد الواسطي الشيخ الكبير الذي سيدفع
الثمن غاليًا في سجون الأفضل، والرمّاني صاحب البستان الذي اعتدى عليه الأفضل
فانتصر له الهذّال حينما كان قاضيًا، والذي سيسعى إلى رد الجميل بماله وعياله
وسيفقدهما وهو يحاول إنقاذ الشيخ ميمون. وهناك تلاميذ الشيخ ميمون في المسجد
الأموي الذين يحاولون منع الجند من اعتقاله ولكنهم أضعف من القدرة على تخليصه. ومن
يقرأ أعمال حسام الرشيد الأخرى في القصة والرواية يجد أنّ هاجس الصراع بين السلطة
والمثقف (محور الشر ومحور الخير) حاضر في هذه الأعمال ويتكرر فيها.
إنّ جوهر الصراع في الرواية يدور حول
المخطوط العجيب الذي يبحث عنه الملك الأفضل ووزيره باستماته، ويعثر عليه الشيخ ميمون
الذي يهرب من دمشق كي ينجو بحياته بعد أن عرف سر المخطوط وقرأ النبوءات التي
يحتويها، وكي ينقذ المخطوط من بين يدي الملك الأفضل. وفي حين يقرر الهرب إلى مصر
قاصدًا الملك العزيز (شقيق الملك الأفضل وعدوه في الوقت نفسه)، فإنه يدخل في سلسلة
من المتاهات والابتلاءات كوقوعه في يد اللصوص، وذلك قبل أن تلوح في الأفق علامات
وصوله إلى مبتغاه.
الرواية مكتوبة بلغة سلسة وشائقة، كما
أنّ استخدام الكاتب المتعدد للتقنيات، مثل تقنية التقطيع، والتنقّل في أشكال السرد
وحيله، يجعلنا خارج دائرة الملل. غير أنّ هناك ملاحظات جوهرية على الرواية تقلل من
فنيتها على الرغم من هذا الحشد الهائل للتقنيات، وهي:
أولاً: على الرغم من كثرة المقتبسات
وهي تقنية يلجأ إليها الكاتب كي يستحضر شخصيات من خلال متعلّقات هذه الشخصيات أو
أفعال صادرة عنها، مثل مقطع من خطبة أو من تقرير لكبير البصاصين أو من كتاب للملك،
فإنّ لغة هذه المقتبسات لا تتمايز عن بعضها كثيرًا، بل نجدها لغة متشابهة النسق.
كما أنّه لا توجد مراعاة بين لغة المقتبس وطبيعة عمل المتحدّث بها قولاً أو كتابه.
فعلى سبيل المثال نطالع تقريرًا أمنيًا كتبه كبير البصاصين، يتحدّث فيه عن ظهور
المخطوط العجيب الذي سيجعل الخلافة في مهب ريح هوجاء ويتنبأ بالكثير الكثير كالفتن
التي ستقع في بلاد المسلمين، ويعلّق كبير البصاصين:
"ولا عجب في هذا، وتاريخنا هو
تاريخ الدم والدسائس والمؤامرات الخبيثة، كلما دالت دولة جاءت أخرى ألعن منها،
وهذا ما حدث، ها هي دولة خلافتنا ممزقة الأطراف تتكالبها سيوف الكيد، ولاة أمرها
لا يملكون من أمرها ولو شروى نقير، دمى في يد غلمانهم وخصيانهم، يولونهم متى
شاءوا، أية سخرية هذه".
إنّ هذا الكلام لا يدخل في نطاق اختصاص
كبير البصاصين حتى وإن كان يعتقد به، فليس مطلوبا منه ذلك في تقرير وظيفته الإخبار
ومرفوع إلى ملك ظالم. كما أنه شريك في هذا الخراب ومنتفع منه ويسعى للحفاظ عليه.
إن لغة التقرير أقرب إلى لغة الشيخ ميمون. وهذه معضلة أساسية عانت منها الرواية.
اقرأ أيضا: كيف نفهم الأدب وكيف نفسره؟
ثانيًا: إن قيمة المخطوط العجيب تظل
محفوظة ما ظل عجيبًا وغامضًا لكن الكاتب قتل غموض هذا المخطوط من خلال منح القارئ
حق قراءة بعض المقاطع منه التي تكشف لنا طبيعة النبوءات التي يحتويها. الأمر الذي
يقلل من شأن هذا المخطوط في نفس المتلقي؛ فنجده يتنبأ بأحداث مستقبلية من مثل قيام
دولة "إسرائيل" وأيضًا إعدام صدام حسين صبيحة الأضحى. وهي مستقبلية
بالنسبة لزمن أحداث الرواية ... لا بالنسبة لزمن كتابة الرواية أو قراءتها، الأمر
الذي يقلل من حيّز الدهشة في العمل.
وأخيرًا: إنّ الحُبكة في الرواية تعاني
من ضعف في غير قليل من المواضع؛ فالمأساة التي تتعرّض عائلة الرماني والتضحيات
التي تقدمها غير مبررة. أي أنّ هذه الأحداث تحتاج إلى التسويغ المنطقي والنفسي كي
يتقبلها المتلقي، إننا بحاجة إلى الدخول إلى نفس الرماني كي نفهم تضحياته ولا
نحتاج فقط الإطلال الخارجي على الأحداث. فعلى سبيل المثال، إذا تأملنا قصة الهذّال
والرّماني مع اللصوص وتضحية الأخير بالماشية والإبل، ثم تأملنا قصة ابن الرماني
والهذّال مع اللصوص وقافلة الحج، ومن ثم حادثة مقتل ابن الرماني، نجد أنّ أغلبها
تضحيات غير محسوبة ولم تبنَ عليها نتائج منطقية تخدم العمل الفني وتبرره من
الداخل.
الشيخ مصطفى إسماعيل.. أذن مرهفة وحس موسيقي عال
فائزون بجائزة درويش السنوية.. من بينهم تشومسكي واللعبي وبزيغ