بدا الأمر كما لو كان مفاجأة لكثيرين، ولأنهم لم يتمكنوا من هضمه فقد أحالوه إلى التفسير التآمري للأحداث!
فبرنامج "على مسؤوليتي" على قناة "صدى البلد"، يجري مقدمه "أحمد موسى" حواراً مع "مكرم محمد أحمد"، رئيس المجلس الأعلى للإعلام، بدا الرجل فيه كما لو كان يصلي صلاة مودع، فقد ظهر شجاعاً وهو يقر بأن حرية
الإعلام منقوصة،
ويتحدث عن سياسة تكميم الأفواه، وكيف أن التعيين في المناصب القيادية في الإعلام يكون على قواعد العلاقات العامة، وأنه منع نشر مقال له في جريدة "الأهرام"!
وعندما سأله المحاور: أين اختفت "المانشيتات.."، قال لأن الإعلام الآن يرى نفسه مكلفاً بالترويج لشخص واحد هو رئيس الجمهورية، للشخص وليس للأفكار. وقال إن السلطة التنفيذية هي من تهيمن على الإعلام، وقد انتزعت اختصاصات من المجلس الأعلى بدون مناقشته أو الرجوع إليه!
لا يختلف اثنان على بؤس المشهد الإعلام في عهد الانقلاب العسكري، لكن الجديد هو أن يعبر عن هذا البؤس ويكشف للرأي العام واحدا من الذين يتم النظر إليهم على أنهم من سدنة المعبد، فماذا هناك؟!
اختفاء اللون الرمادي:
تفسيرات كثيرة لهذه الاطلالة، تراوحت بين أن هناك جهات تقف وراء هذا الرأي، أو أن الرجل ينتقم لذاته بعد تعيين وزير دولة للإعلام قال هو إنه لم يتم التنسيق بينهما إلى الآن، ووصلت إلى حد تساؤل أحد شباب الصحفيين إن كان "مكرم" يستعد بهذا الخطاب الحاد لخوض الانتخابات على موقع نقيب الصحفيين بعد عام من الآن!
وفي تقديري أنه في غياب الوعي بشخصية الرجل، كانت أخطاء التقديرات والتفسيرات لهذا الموقف الواضح والجسور، ساعدت عليه تصنيفات ما بعد الثورة للمواقف والأشخاص، بين أبيض وأسود، وحلال وحرام، وخير وشر. في البداية كان التصنيف بأنه لا خير في أحد لم يكن مع الثورة، ثم صار لا خير في أحد البتة ناصر الانقلاب أو خرج في 30 حزيران/ يونيو، ثم اختلف التقييم الآن، ليصبح لا خير في أحد لم يكن من الإخوان "جماعة المسلمين"!
وبطبيعة الحال، فإن الذين كانوا ضد حكم الرئيس محمد مرسي وشاركوا في الانقلاب عليه، لديهم تقييمات مختلفة للمواقف والأشخاص، تدور أيضاً بين لونين فقط "أبيض" هو كل من شارك في الثورتين، و"أسود" وهو كل من وقف مع شرعية الرئيس المنتخب!
وضاع اللون الرمادي بدرجاته، الذي كان حاضراً لدى جميع الأطراف في مرحلة ما قبل الثورة، ونظرا لدخول جدد على خط السياسة فليس لهم وعي كامل بحال
مصر في هذه الفترة السابقة على يناير!
رجال الدولة:
ليس كل رجال دولة مبارك سواء، وليس كل مؤيدي النظام عملاء للأجهزة الأمنية، فقد عرفنا من كانوا ينظرون لأنفسهم على أنهم رجال دولة، وإن تم تهميشهم في مرحلة جمال مبارك، لصالح الحرس الجديد من الذين روعي عند اختيارهم أن يكون من التابعين، الذين لم يكونوا يروا أنفسهم جزءاً من الدولة، أو شركاء في الحكم. كل في دائرة اختصاصه، ولكنهم "خدم في البلاط"!
ورجال الدولة هم من ورثهم مبارك من العهود السابقة عليه، وكان الأداء يختلف بحسب طبيعة أي شخص، فإبراهيم نافع يختلف عن مكرم محمد أحمد، والأول رجل دبلوماسي ومفسد، والثاني واحد من عموم الصحفيين. وبحسب الساخر محمود السعدني، فإن إبراهيم نافع إمبراطور، أما مكرم فهو واحد مثلنا. يعلو صوت أحد الصحفيين عليه ويصفه بأنه نقيب السلطة ورجل مبارك، فيسبه على مشهد من الناس ويسب مبارك!
كان أحد الصحفيين قد درج على إصدار بيانات ضد النقيب والمجلس حادة وعنيفة، وكانت البداية في ولاية مكرم محمد أحمد، وقال نافع إنه يطالعها فيقشعر بدنه لقسوة المفردات التي يستخدمها الزميل، وقال إنه لو حدث معه هذا، فلن يحتمل وسيكون في اليوم التالي في مكتب النائب العام. وهو ما حدث فعلا بعد أن عاد نقيبا للصحفيين، واستصدر حكما بحبس الزميل شهراً، كان يريده للردع لكن من صدر ضده سلم نفسه لإدارة تنفيذ الأحكام ليسجن فعلا. وبعد خروجه حاول محمود السعدني أن يعقد "جلسة صلح" بينه وبين النقيب، ورفض زميلنا بحجة أنه لم يقبل الصلح مع مكرم مع أنه لم يسجنه، فكيف يقبله مع من سجنه، ورد عليه السعدني بما ذكرته آنفا، وقال للزميل إنك بهجومك على إبراهيم نافع كنت كمن وقف أسفل منزل محمد علي كلاي، وأخذ يشتمه ويتحداه أن ينزل له. سينزل لكنه لن يتركك حتى يحطم عظامك!
ومن يعرف تاريخ مكرم محمد أحمد، سيدرك أن ما قاله مع أحمد موسى هو عودا إلى طبيعته، لكنه منذ سبع سنوات كان يعاند هذه الطبيعة التي كان يتفهمها نظاما السادات ومبارك، ويقبلانه بعيوبه هذه. وقد كان السادات يهاجمه ويصفه بـ"الصحفي صديق هيكل" عندما كان مديرا لتحرير "الأهرام"، بعد الخلاف بين الرئيس ومحمد حسنين هيكل، وإقالته من رئاسة مؤسسة الأهرام الصحفية!
اعتقالات سبتمبر:
ومع هذا فأنور السادات قربه، وعينه رئيسا لمؤسسة دار الهلال، وعندما أقدم السادات على اعتقالات أيلول/ سبتمبر، وجمع رؤساء المؤسسات الصحفية ليضعهم "في الصورة" للدفاع عن قراراته عندما تصدر، فقد تحفظ عليه وقال للسادات إنها ستجر عليه متاعب هو في غني عنها، مما دفع بالرئيس الراحل لاتهامه بأنه يمسك بالعصا من المنتصف. وعندما طلب السادات من كل واحد فيهم كتابة قائمة بأسماء "الصحفيين المشاكسين" في مؤسسته لتشملهم قرارات التحفظ (الاعتقال)، وكتبوا جميعهم فلم يكتب هو، بل احتد على "عبد الله عبد الباري"، رئيس مجلس إدارة جريدة "الأهرام"، لأنه كتب اسم "محمد سلماوي" في القائمة، وقال إنه لا يفعل شيئا يستحق عليه الاعتقال، وطلب منه أن يوافق على نقله لدار الهلال، إن كان لا يريد استمراره في "الأهرام" بدلا من اعتقاله، ولم يتوقف إلا عندما استنكر عليهما السادات أن يتشاجرا في وجوده!
وفي عهد مبارك، عندما اعتقل وزير الداخلية زكي بدر في نهاية الثمانينيات ثلاثة من الصحفيين، وهم مدحت الزاهد، ود. محمد السيد سعيد، ومصطفى السعيد، ومعهم الباحث فاروق عبد الخالق، بتهمة تشكيل خلية شيوعية، ذهب لزيارتهم في السجن بصفته نقيبا للصحفيين ومعه عدد من أعضاء المجلس، وقد أحضروا المعتقلين من الزنزانة لحجرة مأمور السجن، إلا محمد السيد سعيد، الذي قيل إنه اعتذر عن الحضور لأنه نائم، لكن مكرم تلقى إشارة من أحد المعتقلين فهم منها أن كلام المأمور غير صحيح، فأعلن أنه لن يغادر السجن إلا بعد أن يشاهد محمد السيد سعيد، وقد جيء به، محمولا على "نقالة"، فقد تعرض لتعذيب شديد، لم يقوَ معه على السير!
يقول شهود العيان إنه تحول إلى ثور هائج، عندما وجد آثار التعذيب على جسده، وأخذ يسب ويلعن في الجميع ويحطم كل شيء في حجرة المأمور قابلاً للتحطيم، وقال إنه لن يغادر إلا وهم في يده، وتدخلت أجهزة الدولة لتهدئته، وبعد أيام تم الإفراج عن المعتقلين جميعهم!
وإذ اشتبك زميلنا سليمان الحكيم مع أحد ضباط الشرطة في محافظة السويس وجاء بملابسه الممزقة للنقابة، وفي مكتب اللواء مصطفى عبد القادر رئيس جهاز مباحث أمن الدولة وفي حضور الضابط المعتدي، طلب من الحكيم بصورة آمرة أن يضرب الضابط كما ضربه، فلما قال سليمان الحكيم إنه يقبل الاعتذار، اندفع هو نحو الضابط ليعتدي عليه، فيحول سليمان الحكيم بينه وبين ذلك!
فمكرم محمد أحمد ومن خندق انحيازه للنظام هو "حالة"، لكن حدث بعد هذا ما لم يكن في حسبانه!
بداية أزمته:
لقد قامت الثورة بينما هو نقيبا للصحفيين، وبدا اليسار بالنقابة متعجلاً لانتهاز هذه اللحظة الثورية والفوز بالنقابة.
لقد تمت الدعوة إلى جمعية عمومية في اليوم التالي لتنحي مبارك، لسحب الثقة منه والدعوة لانتخابات مكتملة، لكن الجمعية لم تكتمل! وحدث أن قُتل الزميل محمد محمود عندما كان يقف على باب مؤسسته "التعاون" القريبة من ميدان التحرير لتصوير المظاهرات، فتلقى رصاصة لم يعرف مصدرها أردته قتيلا، وإن كان الإجماع انعقد على أنه قناص يتبع وزارة الداخلية، ونفت الوزارة أن يكون لديها قناصة!
وتقرر أن تخرج الجنازة من مقر النقابة، وبينما كان المشهد الجنائزي في انتظار الساعة المحددة للتحرك في اتجاه ميدان التحرير، كان مكرم محمد أحمد يتحدث مع زوجة الفقيد، وهي صحفية أيضاً، عن وقوف النقابة معها في صرف معاش ونحو ذلك، وأنه اتصل بوزير الداخلية الذي وعد بتعويض مناسب للأسرة، واحتد أحد الصحفيين اليساريين عليه وهو يطلب منه أن يتوقف عن هذا الكلام الفارغ، ليدفعه آخر حتى كاد يسقط على الأرض لأنه كان يقف على نهاية درج. وإذ نفى الزميل أن يكون قد دفعه فعلا بعد ذلك واعتبر ما جرى هو بسبب هذا الوقوف على الحافة، فكان أن ارتفع الهتاف "بره" في مواجهته ليتم طرده من النقابة!
وقد وجدت وزميلي محمد منير أن تقاليد نقابية تنهار في هذه اللحظة باسم الثورة، فاعترضنا على محاولة الدفع بالرجل بهذه الطريقة، لكن أصوات الهتاف كانت أعلى وغادر مكرم النقابة مطروداً، وفي تقديري أن هذا المشهد أثر عليه وعلى مواقفه بعد ذلك!
ولم تستفد مجموعة اليسار من هذه اللحظة، فعندما اجتمع مجلس النقابة لتعيين قائما بأعمال النقيب الغائب، كان ينطبق عليها المقولة الشعبية "عملت الخائبة للغائبة". فقد أصر وكيل أول النقابة صلاح عبد المقصود على تطبيق اللائحة، ليصبح هو القائم بالأعمال وليس أحدا من الجناح الذي طرد مكرم محمد أحمد!
لقد عاد مكرم إلى النقابة يُستقبل بالهتاف من قبل الهاتفين في الواقعة الأولى، لكنهم كان يهتفون هذه المرة: "الصحافة فين؟.. النقيب أهوه"، وهم يشيرون إليه في حفاوة بالغة. ولم يكن هو النقيب فقد شغل الموقع ممدوح الولي بالانتخابات، وهو المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، وإن لم يكن منخرطا فيها!
كان هذا الحضور بعد الخطاب الشهير للرئيس محمد مرسي، والذي ذكر فيه بالاسم مكرم محمد أحمد ضمن آخرين.. وتساءل مستنكراً إن كان مكرم يعبر عن الثورة!
كان استقبال النكاية، لكن لا أعتقد أن الرجل شعر بأنه قد رد الاعتبار إليه، لكن الاعتبار رد فعلا عندما أنزله الانقلاب العسكري منزلته، بأن عيّنه رئيساً للمجلس الأعلى للإعلام فتماهى معه مخالفا لطبيعته فقد ردت إليه الروح، ومن الطبيعي أن يؤيده فهو ابن الدولة وليس ابن الثورة، لكن من غير الطبيعي أنه لم يحتفظ بدرجة الاستقلال التي كان يتمتع بها في عهدي السادات ومبارك، ليس فقط لأنه نظام أرعن لن يسمح بذلك، ولكن لأنه ممتن لهذا النظام لدرجة أنه تماهى معه!
وإذ ذهبت السكرة وحلت الفكرة، فظني أنه قرر العودة إلى طبيعته، وهي معارضة النظام من أرضيته، لكني أجزم أن الحكم العسكري لن يتحمل ذلك!
لقد قرر مكرم محمد أحمد أن يختم حياته بهذه الشهادة، وبما يرضيه على المستوى الشخصي لا أكثر ولا أقل.
فالشهادة لا تعني أن النظام قرر ترك هامش للحرية للتحرك بعد حالة خنق
الحريات!
فلا شيء هناك أكثر من أن مكرم محمد أحمد عاد إلى طبيعته!