ننسى أنفسنا نحن هنا في هذا البلد الصغير على أطراف أفريقيا والمتوسط.. ننغمس في الصراع السياسي وشراسته اللفظية وجراحه المعنوية إلى الحد الذي نعتقد فيه أننا نعيش "حربا". ننسى أنه على جانبينا تجارب دموية قياسية وماسوية تمثل حروبا برمتها، وأنه مهما حصل لم نصل البتة إلى تلك الحافة المصيرية.
تذكرت ذلك وأنا أقف على اطلال الحرب الإعلامية والكلامية بين مختلف الأطراف السياسية إثر المخاض العسير لتشكيل حكومة الياس الفخفاخ. ليس هناك شك في أن الجروح كانت كثيرة ولن تلتئم بسهولة، وكانت ذروة المخاض فيديو لقاء الرئيس قيس سعيد مع رئيس البرلمان راشد الغنوشي إثر جدل حول ما اعتبره البعض محاولة حركة النهضة لاستعادة المبادرة من الرئيس عبر سحب الثقة من رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد. قام الرئيس بإلقاء ما يشبه المحاضرة، وهو أستاذ القانون الدستوري، أمام رئيس برلمان صامت. بدا المشهد مبهجا لأنصار الرئيس ومسيئا لأنصار النهضة، وأصبح الفيديو من أكثر الأشرطة مشاهدة في الفترة الأخيرة بنسب قياسية.
الخدوش كثيرة، نعم، لكن جميعها "جلدية" وليست غائرة. وهي في إطار وضمن نطاق صراع التأويلات والأفكار والقراءات وفي النهاية صراع الكلام. ليس هناك قتلى أو ركام حجارة لمبان مدمرة أو مقابر جماعية ومذابح. فقط الإثارة اللفظية تجعلنا نستعير بعض القواميس الحربية في صراع سياسي "لاهب"، لكن الجميع يعلم أن المتصارعين على المنصات الإعلامية يركنون إلى المساومات والمناورات المستمرة بدون صراخ عندما يبتعدون عن الكاميرا.
لا أرغب في التقليل من أهمية ما حصل. استغرقنا أشهرا طويلة حتى أتيح لنا أن تتشكل الحكومة، وطال انتظار الناس والجميع يتحدث عن ركود حاد في كل المستويات بسسب عدم تشكل الحكومة.
تونس ليست دولة بلجيكا حتى تبقى لأكثر من عام بدون حكومة. المؤشرات قريبة من اللون الأحمر، وصندوق النقد ينتظر متبرما تشكيل الحكومة حتى يعقد جلسة عاجلة معها لعرض كل الالتزمات المتأخرة، وعلى رأسها العجز الكبير في الميزانية وكتلة الأجور. من الجهة الأخرى منظمة الشغيلة والتي ساهمت في تذليل الصعاب في المشاورات تقف أيضا حذرة من ضغوط صندوق النقد وتداعياتها على المقدرة الشرائية.
المحيط الدولي والإقليمي ليس مستقراأ وتداعياته على الداخل ليست بسيطة من احتمال ارتفاع أسعار النفط وأثر ذلك على الميزانيةأ إلى التهديدات الأمنية بسبب مضاعفات النزاع الليبي الداخلي. ومن الجهة الغربية تواجه الجزائر صعوبات عديدة وهي منصة الغار الأساسية لحاجيات البلاد. فوق ذلك الغضب الرسمي الأمريكي من تصريحات قيس سعيد ضد التطبيع وموقف تونس في الأمم المتحدة من صفقة القرن.. نتحدث عن واشنطن "الراعي" الرئيسي لمسار الانتقال الديمقراطي.
ليس الوضع ورديا ولا يمكن التغني به، لكن، ولكن هذه هي الأهم، تقف تونس استثناء راسخا قويا بتقاليد خاصة بها في مسار التأسيس الديمقراطي. جربنا فقط في هذه الفترة القصيرة من تسع سنوات معظم خصائص أي ديمقراطية حتى أكثرها تعقدا، من تشكيل حكومات ائتلافية من ثلاثة وأربعة وستة
أحزاب، وصعود الشعبوية ضد نخبة سياسية عمرها طفولي، والآن سقوط حكومة وتشكل أخرى وشبح
الانتخابات المبكرة.. كل ذلك بلا مواجهات حربية أو دبابات أو أسلحة، فتبدو تونس ديمقراطية عجوزا وهي بنت التسع سنوات.
يتركز جزء من النقاش حول المعيشة كما هو حال اي بلد. لكن يتركز الجزء الاخر حول مكافحة الفساد والمحاسبة ومواجهة اللوبيات الاقتصادية والتطبيع. والان يمس ايضا طبيعة
الديمقراطية، تقليدية تمثيلية ام من نوع اخر يصبح فيها المحلي اكثر وزنا. نقاشات متقدمة حول الديمقراطية الراديكالية حالمة بحالة مثالية.
أمام جراح تشكيل الحكومة يجب أن نستحضر كل هذا.. يجب أن لا ننسى أننا جزيرة خضراء ساحرة قياسا بالأمواج المتلاطمة.. يجب أن لا ننسى أيضا أن الديمقراطية لا تصنع الخبز ضرورة ولا ترسخ اقتصادا قويا، هي فقط أحد شروط تنمية قوية مستديمة.. يوما ما. وربما تكون هذه الحكومة فاتحتها.
يجب أن لا ننسى هذا التميز في القدرة على حل اقصى الخلافات بانحناءات وتموجات وتكتيكات وان هناك حذرا مستديما من السقوط بل وايضا العودة. حتى المستمسكين بنستالجيا العودة إلى ما قبل الثورة لا يمكن لهم البتة الطعن في محاسن الديمقراطية، فهم يستحون عن مدح الاستبداد.
لا توجد حكومة ائتلافية مثالية، لكن تشكيلها بهذه الروح والصيغة كان ضروريا لضمان حد أدنى من روح الإصلاح التي تحتاجها البلاد والعباد.
الآن إلى العمل بتضامن جماعي، بعيدا عن المشاكسات التي فات وقتها الآن.
عاشت تونس الديمقراطية حرة منيعة.