شكّل ظهور حزب التيار الديمقراطي حدثا سياسيا لافتا في وضع ديمقراطي تعددي يتشكل بصعوبة بعد الثورة. وقد تضافرت وقائع كثيرة لتفتح الطريق لهذا الحزب الناشئ، فصار أمل فئات كثيرة تبحث عن مواقع وأدوار خارج
الأحزاب والتيارات السياسية القديمة، مثل الإسلاميين واليسار الفرانكفوني والراديكالي والتيار القومي.
قدم الحزب صورة جميلة عن نفسه، فهو حزب أفكار أكثر مما هو حزب جماهير عريضة.. حزب شاب يستقطب من الطبقة الوسطى المثقفة ويميل إلى اليسار الاجتماعي بأطروحات العدالة الاجتماعية التي تعتمد سياسات عمومية ذات طابع اجتماعي أولا، دون انغلاق أيديولوجي يذكّر بالأحزاب الاشتراكية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين.
لكن المتابع لما يقوم به الحزب في مرحلة تشكيل حكومات ما بعد انتخابات 2019 يستنتج أن الحزب استعجل الفرح، ففقد الطريق إلى دوره المعلن وكشف أن نخبته القائدة مصابة بنفس مرض من سبقها من السياسيين الغنيمة السريعة، فضلا عن توجهات استئصالية تراود اليسار باستعادة الحرب على الإسلاميين.
سنحاول تتبع أعراض هذا المرض السياسي النخبوي الذي تشترك فيه النخب الوسطى
التونسية بلا استثناء، ويعيق تشكل مشهد سياسي ديمقراطي.
ملخص المشهد السياسي التونسي
كان المشهد السياسي التونسي قبل الثورة منقسما بين المكونات التالية:
- حزب التجمع الحاكم، وهو حزب بلا هوية اقتصادية، يميل إلى لفلفة السياسات ويشتغل وسيطا لدى الممولين الخارجيين. وقد ناور طويلا تحت حكم الدكتاتورية لتفكيك القطاع العام الذي أسسه حزب الدستور منذ الاستقلال، فتقلصت على عهده قدرة الدولة على رعاية الشأن الاجتماعي، وكانت سياساته سببا رئيسيا لحدوث الثورة، لذلك كان مطلب حله أحد أهم مطالب الشارع وقد حصل.
- حركة النهضة الإسلامية المطاردة منذ نشأتها والمغيبة عن التأثير طيلة حكم التجمع / ابن علي. وبفعل المطاردة لم يتبين خطها السياسي والاقتصادي، فلم تصنف في اليمين ولا في اليسار، وإن دمغها خصومها دوما بصفة اليمين الديني، وهي تسمية أيديولوجية جاهزة مبنية على مواقف مسبقة من كل حزب يعلن هوية دينية.
- تكوينات حزبية صغيرة يمكن وصفها بأحزاب الوسط الاجتماعي، منها حزبا التكتل من أجل العمل والحريات (حزب بن جعفر) والتجمع الاشتراكي التقدمي (حزب الشابي).
- مجموعات يسارية راديكالية، أهمها حزب العمال الشيوعي (حمة الهمامي) وتكوينات أصغر منه (الوطد). ويمكن تصنيف المجموعات القومية ضمن هذا الفريق، وهي كثيرة ومجهولة لدى الجمهور الواسع.
بعد الثورة اختل هذا المشهد كثيرا وإن بقيت الزعامات القديمة ظاهرة، فقد حاز حزب النهضة منطقة كبيرة وظهر وجهه الليبرالي. وذابت مكونات حزب التجمع المنحل بحكم قضائي في تكوينات حزبية عديدة، وتسربت قيادات منه إلى أحزاب أخرى حتى عاود الالتقاء في حزب النداء (الباجي)، ثم تفكك من جديد دون أن يختفي وزنه الانتخابي الذي ظل يؤثر في تكوينات بديلة، بينها حزب عبير موسي.
تجمعت الفرق اليسارية في الجبهة الشعبية ودخلت البرلمان في 2014 ثم تلاشت تقريبا في 2019، لخلافات حول الزعامة ولتمسكها الأبدي بمعركتها الأيديولوجية مع الإسلاميين، ولاستعاضتها عن العمل الحزبي باستعمال النقابة كأداة تأثير فعالة من خارج المشهد الحزبي.
بنى الدكتور مرزوقي حزب المؤتمر من أجل الجمهورية قبل الثورة، ونما الحزب بسرعة بعدها حتى حاز موقعا متقدما في المجلس التأسيسي. وحاول شغل منطقة الوسط الاجتماعي واجتنب المعركة الاستئصالية، لكن الخليط غير المتجانس سياسيا الذي دخله ساهم في تفكيكه بسرعة، ولم يفلح الدكتور في بناء حزب بديل حتى انتهى سياسيا.
هذا الحراك السياسي السريع والمتقلب ترك منطقة الوسط الاجتماعي فارغة، خاصة وأن حزب التكتل والجمهوري (الشابي) ذابا منذ انتخابات 2014، ولم تعدل تيارات اليسار خطابها لتحوز منطقة الوسط وظلت حركة النهضة تراوح حتى الآن بين ميل ليبرالي وحديث عن المكتسبات الاجتماعية الثابتة، لكن دون أطروحة ديمقراطية اجتماعية.. هذا الفراغ استدعى حزب التيار.
فراغ المنطقة الوسطى نادى حزب التيار
سحب السيد محمد عبو وزوجته، المؤسسين للحزب، مجموعة هامة من منتسبي حزب المؤتمر، وبنيا بهم النواة الأولى لحزب التيار الديمقراطي، وفتحا الباب لنخبة من المثقفين والشباب للانتساب على أساس أطروحة ديمقراطية اجتماعية تؤلف حول الدولة الاجتماعية ولا تنغلق دون المبادرة الخاصة. وقدم الحزب أفكارا عريضة حول مشروع اجتماعي تركه الآخرون فارغا. وكانت العين على الخائبين من حزبي التكتل والجمهوري واليسار المستقل عن الجبهة. وقدم الحزب صورة عن تسيير ديمقراطي شفاف، حتى أن المؤسس خسر الأمانة العامة في انتخابات داخلية لفترة.
فرضت على الحزب معركة الهوية من خارجه إثر فتح النقاش حول تعديل قوانين المواريث الإسلامية، فاضطر إلى موقف يبعده عن تهمة القرب من الإسلاميين (وهي التهمة التي ألصقت بحزب المؤتمر سابقا)، ويقربه من تيار الحداثة، حيث يمكنه أن يستقطب أنصارا لا يحبذون الإسلاميين بل يعافونهم. كان اجتهادا ضمن معركة لم يخطط لها (أو تعمد الهروب منها لحظة التأسيس) فدفع فيها ثمنا باهظا، خاصة أن الإسلاميين شنعوا عليه الموقف من النص الديني، لكنه استدرك جمهورا آخر معاديا للإسلاميين سيوجه سياسات الحزب بعد انتخابات 2019، وسيعيد الحزب إلى معارك سياسية غير منتجة.
معركة الميراث جعلت الحزب يجنح يسارا في مسألة الهوية، وهي لعبة يسارية يتقنها اليسار ويعيش منها، وقد عاش السيد عبو خارجها زمن ابن علي، فخفت أمام التموقع الهوياتي حديث
الديمقراطية الاجتماعية التي كانت خرجت في الديمقراطيات الغربية من معارك الهوية وتجاوزتها.
وتبين لاحقا أن ابتعاد السيد عبو عن موقع الأمين العام كان فترة كمون بعيدا عن التهرئة الإعلامية التي يمارسها إعلاميون محترفو تدمير على جميع الزعامات والشخصيات، فعاد إلى الموقع وتبينت نواياه الرئاسية بسرعة. وهنا بدأت تظهر علامات استعجال القيادة على المكسب قبل ترسخ أقدام الحزب في موقع الوسط الاجتماعي.
جاء السيد عبو متأخرا في ترتيب الرئاسيات، لكن الحزب جمع بقانون أكبر البقايا أكثر من 20 نائبا في البرلمان. فتجاوز الأثر النفسي لخسارة رئيسيه، وحول موقعه النيابي إلى ورقة تفاوض يستغلها بقوة حتى يمكن أن نقول إنه تحكم حتى الآن في
عمليات تشكيل الحكومة. وهنا مرة أخرى نجد الاستعجال السياسي على المكسب قبل ترسخ أقدام الحزب في السياسة.
فوّت الحزب على نفسه المشاركة في السلطة مع حزب النهضة، وهي المشاركة التي كانت ستسمح له بالتدرب على الإدارة كمرحلة ضرورية لمعرفة إدارة الدولة وإثبات الكفاءة وفرض البرنامج الاجتماعي من داخل العمل السياسي، في الحكم لا في المعارضة. وهي التجربة التي كانت ستنهي معركة الهويات في تونس. إذ نرجّح أن الانشغال بالدولة كان سيجعل صراع الهوية خارج السياق وينهيه، لينصرف الناس إلى المعارك الحقيقية التي فرضتها الثورة وهربت منها الأحزاب القديمة إلى صراعاتها المعتادة.. كانت هي المعركة التي ستجعل التيار حزبا جماهيريا بنخبة مثقفة معتدلة.
العودة إلى الصراع الكلاسيكي
نرجح أن الشق اليساري الذي تقوده السيدة عبو (محترف صراع الهويات) هو من جر الحزب إلى خلاف جذري مع حزب النهضة وأسقط حكومة الجملي، وهو من يواصل الضغط من أجل دفع حكومة الفخفاخ بعيدا عن تحالف مع النهضة، لكن هل تشترط الديمقراطية الاجتماعية العودة إلى صراع الهوية؟
موضوع الصراع الجاري الآن لا يجري تحت عنوان هوياتي، لكن باطنه كذلك. فالاشتراطات على النهضة ليست مصاغة على أساس هوياتي، بل على فعالية العمل الحكومي. لكن اختيار الحقائب في حكومة الجملي وفي حكومة الفخفاخ يبحث عن موقع تأثير سياسي مباشر (العدل والأمن)، ويجتنب مجالات الحكم التي يمكن فيها إبراز المشروع الاجتماعي للحزب، وهي الوزارات التنفيذية يمكن أن يتم من خلالها فرض خيارات اجتماعية حتى مع شريك ليبرالي، بينما لا يتجاوز العمل في الأمن والعدل محاولة التأثير السياسي الفوقي على جاري عمل النخب الحزبية غير ذات العمق الشعبي. ألا يوجد شيء مسكوت عنه في هذا النقاش الذي ظاهرة سياسي وباطنه غير ذلك؟
ما لم يُصَرَّح به ولكنه يكمن في خلفية الاختيارات؛ هو أن التموقع في الداخلية والعدل يمكّن حزب التيار من وضع حزب النهضة تحت معصار قوي. فالسيد عبو وزوجته خاصة؛ هما ممن بنوا دعايتهم الحزبية على نفس أطروحة الجبهة الشعبية القائلة بتورط النهضة في الاغتيالات السياسية والتحالف مع الإرهاب والتسفير لبؤر التوتر. ويروج هذا الطرح أن النهضة تحاول دوما منع التحقيق في ذلك. وعليه، فإن الاستحواذ هذه المواقع سيسمح بجر الحركة إلى المحاكم وتجريمها، ومن ثم القضاء عليها سياسيا بعد القضاء عليها أمنيا وأخلاقيا.
النقاش ليس في حق التيار أن يختار، ولكن قراءة طبيعة الاختيار تكشف طبيعة الخطة السياسية (التي كانت كامنة وظهرت لاحقا)، والتي تتخذ هدف تدمير خصم قبل بناء الذات أو بناء الذات على أنقاض خصم. إنها خطة كلاسيكية بعيدة كل البعد عن الشاغل الاجتماعي الذي قدمه الحزب في لحظة التأسيس وبني عليه هويته كحزب برامج قبل أن يسعى إلى الجماهيرية. وهي خطة لم تكن في لحظة الانطلاق، ولكن انحرف إليها الحزب بفعل شقه اليساري الذي يسعى بها إلى استقطاب فلول الجبهة وربما كل الجبهة في تحالف لاحق، واستقطاب كل محترفي الصراع الهوياتي.
خطة عجولة لم تأخذ بعين الاعتبار أن فرض خيارات سياسة اجتماعية يقتضي زمنا طويلا من الفعل في المؤسسات وفي الشارع، في
أفق انتخابات قادمة تسمح دوما بحيازة مكانة أكبر بشكل تصاعدي بناء على النتائج الظاهرة للناس كمكاسب حقيقية، وليس فقط الخطاب الجميل.
يقول بعض قيادات التيار مبررين الاختيار: إذا هذه المواقع تسمح بمقاومة الفساد، وهو برنامج أول عند الحزب. وهذه مغالطة، فمقاومة الفساد لا تقتضي أن يكون الحزب ممسكا بوزارة العدل أو الأمن، أولا لأن القضاء مستقل عن الوزير، ومهما كانت قوة الوزير فلن يُسمح له بالتدخل في سير القضاء الذي كان مطلبا سياسيا منذ ما قبل الثورة. وثانيا، توجد مؤسسات معنية بمقاومة الفساد منها الهيئة الوطنية التي يمكن تزويدها بالمعلومات عن الفساد من أي موقع كان. وهناك في كل وزارة وفي كل إدارة بؤر فساد تحتاج الرفع إلى القضاء. ولدينا حالة السيد عماد الدائمي رفيق السيد عبو في حزب المؤتمر ذات يوم، والذي يجر الفاسدين إلى المحاكم منذ سنة ولم يحتج إلى وزارة العدل ولا إلى الداخلية، بل يشتغل بجهد فردي أرعب الفاسدين. هنا تتضح نية الاختيار أكثر.. إنها نفس خطة الجبهة إخراج النهضة من المشهد بواسطة أجهزة الدولة للحلول مكانها في المؤسسات وفي الشارع. فكرة قديمة متكلسة استئصالية مفادها أنه لا يمكن منافسة النهضة انتخابيا، ولذلك يجب إبعادها بأية وسيلة.
هنا تقضي العجلة على التيار الذي يخوض حربا بالوكالة، معولا على التحاق أعداء النهضة بصفه، وينسى أو يغفل الحساب البسيط بأن مجموع من صوت للجبهة ولكل تيار الحداثة (على فرض استقراره الدائم على تصويت واحد) منذ الثورة لا يعادل نصف ناخبي النهضة في أسوأ حالاتها (انتخابات 2019).
لقد اختصر الحزب، وربما شق من قيادته، الطريق إلى المكاسب، وفكر ضمن خطة كلاسيكية بإمساك وسائل التغيير الفوقي لفرض الخيارات ليست بالضرورة ديمقراطية ولا شعبية، وهذه هي أمراض كل النخبة التونسية التي تتشرب روح بورقيبة ومنهج ابن علي.
كنا ننتظر أن ينتبه مفكرو الحزب إلى أن نجاح حزب القروي في استقطاب الفئات الشعبية المفقرة بوسائل غير ديمقراطية يعتبر مذمة لحزب التيار الاجتماعي قبل غيره، وأنه يمكن التوجه إلى نفس المحيط الذي اصطاد منه القروي أكثر من نصف مليون ناخب لاستعادة هذا الخزان الاجتماعي المفقر، وهو ما كان سيدلّ فعلا على حزب وسط اجتماعي، لكن الانحراف العجول إلى الأمن والداخلية أخرج حزب التيار من موقع الحزب الواعد إلى حزب خائب سيكتشف خيبته في مواعيد انتخابية قريبة.