نحن في الداخل
الفلسطيني مجتمع ولسنا مجرد تجمع أفراد، فلنا حضارة وتاريخ وحاضر ومستقبل تربطنا مع كل ذرة تراب من أرضنا ومع كل ذرة تراب من أوقافنا، ومع كل موقع من مقدساتنا، ومع كل بصمة آثار من حضارتنا وتاريخنا في كل أرضنا، وهو رباط حق متين لا ينقطع ولا يضيع، ولا يقبل التعويض ولا المقايضة ولا المساومة، وهو رباط حي لا يموت يصوغ لنا هويتنا ويؤصّل فينا انتماءنا، ويثبّت فينا وجودنا في كل أرضنا وأوقافنا ومقدساتنا وآثارنا، سواء كانت في النقب أو في الجليل أو في المثلث أو في الساحل.
ولأننا مجتمع يقوم على كل هذه الأصول ويستمد منها سيرورة حياته وحياة أجياله جيلاً بعد جيل بلا توقف، فإن حدود هذا المجتمع لا تقف عند حد الحي الذي نعيش فيه أو الحارة التي نعيش فيها في مدينة أم الفحم على سبيل المثال، ولا نقف عند حد مدينتنا أم الفحم ولا عند حد لواء المثلث الذي تقع فيه أم الفحم، بل إن حدود مجتمعنا تضم كل ما ذكرت وتضم النقب والجليل والساحل، ولذلك فمجتمعنا ليس مجتمعاً فحماوياً ولا مجتمعاً مثلثياً، بل هو مجتمع فلسطيني يضم المجتمع الفحماوي والمجتمع المثلثي والمجتمع النقباوي والمجتمع الجليلي والمجتمع الساحلي، وهو كلٌّ في حقوقه وفي أصوله وفي روابطه اليومية وفي وجوده ومصيره ولا يقبل التقسي.
ويوم نقول نحن جزء من هذا المجتمع فهذا يعني أننا جزء من أم الفحم التي تقع في المثلث، وجزء من الناصرة التي تقع في الجليل، وجزء من رهط التي تقع في النقب، وجزء من عكا وحيفا ويافا واللد والرملة التي تقع في الساحل. وإن علاقة هذا المجتمع (المتجذر والممتد في النقب والمثلث والجليل والساحل) بالأرض تقوم على أصلين، الأصل الأول هو العلاقة الجماعية، بمعنى أن هذه الأرض الممتدة في النقب والمثلث والجليل والساحل هي وحدة واحدة، كُلٌّ لا يتجزأ، وأن كل مجتمعنا يملك كل أرضنا هذه ملكاً جماعياً، لأن هذه الأرض تعني لمجتمعنا التاريخ والحضارة والجذور والنمو والوجود والبقاء، ولكل فرد من مجتمعنا سهم في هذا الملك الجماعي لهذه الأرض. فلكل من ابن أم الفحم في المثلث وإبن الناصرة في الجليل وإبن رهط في النقب وابن عكا وحيفا ويافا واللد والرملة في الساحل لكل منهم سهم في هذا الملك الجماعي لهذه الأرض، سواء كانت تقع في المثلثأو الجليل أو النقب أو الساحل، لأنه في كل شبر من هذه الأرض تاريخ كل فرد من مجتمعنا وحضارته وجذوره ونموه ووجود وبقاؤه. فهي لكل أبناء مجتمعنا سواء بسواء بناء على الأصل الأول وهو العلاقة الجماعية.
ثم في تخوم هذه العلاقة الجماعية مع أرضنا هناك الأصل الثاني الذي يربط مجتمعنا بأرضنا، وهو العلاقة الفردية، وهو حصة مساحة الأرض التي يملكها كل منا ملكاً شخصيا من هذه الأرض بناء على أنه ورثها عن والده الذي ورثها عن جده، أو بحكم أنه اشتراها من أحد أفراد مجتمعنا كان مالكاً لها.
وهما أصلان يتكاملان ولا يتناقضان، فهناك الأصل الأول هو العلاقة الجماعية، وتعني أن كل مجتمعنا يملك كل أرضنا، وهي غير قابلة للتقسيم كما أن مجتمعنا غير قابل للتقسيم، وهناك الأصل الثاني وهو العلاقة الفردية، وتعني الحصة الشخصية التي يملكها كل فرد من مجتمعنا من هذه الأرض. وعلى سبيل المثال لو أخذنا مدينة أم الفحم لوجدنا أن لهم علاقة جماعية بكل الأرض، سواء كانت في النقب أو المثلث أو الجليل أو الساحل، وهي أرضهم على هذا الأساس لأنهم جزء من كل مجتمعنا في الداخل الفلسطيني.
وفي تخوم ذلك هناك حصة الأرض الشخصية التي يملكها كل فرد في مدينة أم الفحم، سواء كانت في حدود أم الفحم أو في تخوم النقب والمثلث والجليل والساحل، ولذلك لو نظرنا في العمق إلى بنية أهلنا في أم الفحم، لوجدنا أن البعض منهم وُلد في قرية اللجون، أو في قرية الكفرين أو في قرية إجزم أو في قرية المنسية أو في قرية خبيزة أو في قرية عين الغزال.. وهكذا. وعندما بدأت نكبة فلسطين التي لما تنتهي، بعد طرد هؤلاء من قراهم وسكنوا في أم الفحم كجزء من أهل ام الفحم، ولكن بقي لكل أهل أم الفحم العلاقة الجماعية مع أرض اللجون والكفرين وإجزم والمنسية وخبيزة وعين غزال... وفي تخوم ذلك بقيت الحصة الشخصية لكل فرد من الأهل في أم الفحم ممن كان قد وُلد في إحدى هذه القرى وعاش فيها ثم طُرد منها عندما بدأت نكبة فلسطين. ولنقس على حال الأهل في أم الفحم حال الأهل في كل مدينة وقرية في الداخل الفلسطيني على لمتداد النقب والمثلث والجليل والساحل!!
ومما يعمق قوة جدلية هذه العلاقة بين كل أرضنا في النقب والمثلث والجليل والساحل وكل مجتمعنا في النقب والمثلث والجليل والساحل؛ أنه في تخوم كل أرضنا هناك الأرض الوقفية التي هي موقوفة بريعها على كل فرد منا، سواء كانت هذه الأرض الوقفية في النقب أو المثلث أو الجليل أو الساحل، وسواء كان هذا الفرد في النقب أو المثلث أو الساحل.
وهذه العلاقة بين هذه الأرض الوقفية وهذا الفرد هي علاقة أبدية لا يمكن لمليون صفقة قرن أن تقطعها. ولذلك أنا الذي أعيش في أم الفحم تربطني هذه العلاقة مع كل شبر أرض من هذه الأرض الوقفية، حتى لو كانت في عكا أو حيفا أو اللد أو يافا أو الرملة أو أية بقعة في الداخل الفلسطيني. ومن الواضح أن ريع هذه الأرض الوقفية هو حق جماعي لكل مجتمعنا بالتساوي، ولا تقبل البيع ولا التوريث ولا التنازل ولا التبادل ولا التعويض ولا المقايضة، لأن لها نصيبا من اسمها، فهي أرض وقفية باسمها، ولذلك تبقى موقوفة بريعها على مجتمعنا جيلا بعد جيل حتى قيام الساعة.
وكما هي العلاقة بين كل أرضنا الوقفية وكل مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، كذلك هي العلاقة بين كل مقدساتنا وكل مجتمعنا في الداخل الفلسطيني. فالمسجد القائم على سبيل المثال في حيفا هو مسجد ابن أم الفحم كما لو كان أي مسجد في أم الفحم، والكنيسة القائمة في حيفا، هي كنيسة كل واحد من الأهل المسيحيين في الناصرة كما لو كانت أية كنيسة في الناصرة، وكذلك العلاقة بالمقابر الإسلامية والمسيحية.. والمسجد القائم في صفد أو طبريا أو صرفند أو الطنطورة هو مسجد ابن أم الفحم كما لو كان أي مسجد في أم الفحم، رغم أن أهلنا قد طردوا من كل هذه البلدات مع بداية نكبة فلسطين. فهم وإن طُردوا إلا أنه لا يمكن طرد حقي وحقهم في كل مسجد أو وقف أو مقبرة في هذه البلدات، كذلك الكنيسة القائمة في إقرث وبرعم أو في طبريا هي كنيسة كل واحد من الأهل المسيحيين في الناصرة كما لو كانت أية كنيسة في الناصرة، رغم أن أهلنا قد طُردوا من كل هذه البلدات مع بداية نكبة فلسطين، إلا أن حقهم وحق الأهل المسيحيين في كل كنيسة أو وقف أو مقبرة من هذه البلدات لا يمكن طرده.
لذلك نحن في الداخل الفلسطيني في لحمة واحدة بين كل أبناء كل مجتمعنا في النقب والمثلث والجليل والساحل، ونحن في لحمة واحدة بين كل مجتمعنا وكل أرضنا وكل مقدساتنا وكل أوقافنا وكل آثارنا في النقب والمثلث والجليل والساحل. هكذا نحن ولسنا قطعاً كقطع غيار السيارات حتى يتلاعب بوجودنا ترامب ونتنياهو وغانتس ومن دار في فلكهم.. هكذا نحن وهكذا نعرّف وجودنا في أرضنا، ولذلك ينبغي على كل واحد منا وبلا تردد أن يقول: نحن نرفض هذا الضم إلى السلطة الفلسطينية كما ورد توصيف هذا الضم في
صفقة القرن، ولكن إذا تقرر ضمنا إلى السلطة الفلسطينية كما نحن نصف مجتمعنا وكما نحن نصف جدلية العلاقة بين كل مجتمعنا وكل أرضنا وكل أوقافنا وكل مقدساتنا وكل آثارنا في النقب والمثلث والجليل والساحل، فلا بدّ من الترحيب بهذا الضم ونباركه ونفرح له.