مشيتُ كثيرًا..
طوال حياتي كنت قادرة على تجميد مشاغلي لأحصل على نصفِ ساعة من المشي.
في الأيام الأخيرة تفاقمت الحالة، صرتُ أمشي ثلاث ساعات في اليوم، حتى أشعر بأن ساقيّ ستنفصلان عن جذعي وتواصلان المشي إلى الأبد، لتكون لهما حياتهما الخاصة. الوصول لا يعنيني، الرحلة هي كل شيء، وأنا أمشي لكي أشفى ولكي أنسى أيضًا.
لا أعتقد بأن كتابة الروايات أمرٌ ممكن بالنسبة لي لو لم أكن مشّاءة. أذكر جيدًا كيف كنت أرتجف اضطرابًا بعد كتابة بعض الفصول، وأشعر بأنني على وشكِ أن أهوي داخل النص دون أن أتمكن من استرجاع نفسي. في تلك اللحظة كنت أكفُّ عن الكتابة، أضع حذائي "السكيتشر" وأخرج من البيت إلى أيّ مكان.
أحيانًا كنت أذهب إلى "الممشى"..
ممشى الحي السكني، أو أي ممشى آخر. ثم يزعجني أن يكون هناك مكانٌ مخصص للمشي في مدينة الزحف الإسمنتي هذه. في عالمٍ طبيعي، يكون المشي أمرًا عاديًا، لكن ليس هنا.
يحدث أن أذهب إلى "الديرة" لأعبر ماشيةً من شارعٍ إلى آخر. في ذلك المكان تكتشف أن خطوط المشاة نادرة، والجسور بالكاد موجودة، وأن قادة السيارات ينظرون إلينا - نحن الذين نطالب بحقنا في العبور مشيًا - كما لو كنا مجانين. الكويت ليست للمشاة، هذا واضح، ولكن على الأقل هناك البحر.
أحيانًا، أكتفي بالمشي بين البيوت، ويحدث كثيرًا جدًا أن يكون أحدهم خارجٌ من منزله وينظر إلي كما لو أنني أكثر المخلوقات شبهة على الأرض. شيخٌ في دربه إلى المسجد، أو طفل بدراجته ذات الثلاث عجلات؛ هناك امرأة تمشي في الشارع أمام بيتِنا، لا تبدو لصة، لكنها تمشي على قدميْها!
إذا لم تمشِ مع الماشين فأنت غريب. وأنا، على الأرجح، أرتاحُ في غرابتي وأريدها، ولا يضايقني أن يظنّ أحد بأنني "مجنونة الفريج". جانبٌ مني يريد أن يذكر العالم بحقنا في المشي في أي مكان. جانبٌ آخر يريد أن يمشي وحسب.
يتحدث كثير من الكتاب عن الفوائد العلاجية للكتابة. لا أتمتع في رصيدي الكتابي بنقاطٍ من هذا القبيل. الكتابة لم تشفِني، وأنا لا أميل لكتابة عني أصلا؛ لقد كففتُ عن ذلك منذ مدة. إنني أميل إلى ابتداعِ الأشياء فيما أكتب، إلى الكذب واختراع احتمالاتٍ لم تحدث. الكتابة لم تكن علاجًا بالنسبة لي، وإن شئت أن أكون أكثر دقة، فهي تفاقم الجرح عوضًا عن تخفيف وطأته.
لكن المشي.. المشي علاج. إنه المكان الذي أتخفف فيه من العالم عندما أدبُّ على سطحه مثل نملة. المكان الذي أشعر فيه بالتضاؤل وانعدام الأهمية. والمكان الذي تأخذ فيه أفكاري هذا الوضوح. ليس للكتابة وحدها، بل للحياة.
عندما كتبتُ الفصل الرابع من "حارس سطح العالم" كنت أظنني أكتب الفصل الأخير، ثم انتهى الفصل والرواية ما انتهت. حتى الآن أتذكر تلك الساعات الطويلة التي قضيتها أجوب الأحياء السكنية على قدميّ وأنا أفتش عن النهاية داخل رأسي. ثم عندما وجدتها تذكرت "أرخميدس" وابتسمت.
في الأيام الأخيرة صرت أمشي بمجرد أن أستيقظ من النوم. أفعل ذلك عادة عندما تصبح الحياة فوق احتمالي. إن المشي.. مجازيًا على الأقل، هو المكان الذي تضع فيه كل شيء خلف ظهرك. وأنا لا أمشي باتجاه شيء، بل هربًا من كل شيء.
المفارقة أنني مع المشي أرى تلاشي الحجاب الحاجز بين الكتابة والحياة، وأشعر بأن الفاصل بينهما وهمي ومُخترع، مثل خط الاستواء، فكل شيء هو استعارة، حتى حياتنا ذاتها، وإذا كانت الحياة قاسية حقًا، فالكتابة ليست بذات الحنوّ هي الأخرى. ولكن على الأقل لدينا الاستعارات..
أنا مشاءة، المشي عندي طقسٌ تطهيري. لا أمارسه لكي أحافظ على لياقتي، كما أنني غير مهتمة بتحويله إلى رياضة بدنية، بقدر ما أريد الإبقاء عليه هكذا؛ رياضة روحية. شعيرة للتخفف من الواقع وتسكين آلامه. أفيون، كرة كرستالية أرى فيها كل ما يمكن أن يحدث، بيوت، نخيل، ريحان، أعين مرتابة، دراجات ثلاثية العجلات، عجوز في طريقه إلى المسجد، عاملة منزل تكنس المدخل.. تفاصيل كثيرة بما يكفي لإلهاء القلب عن نكبته، نكبة وجوده الخالص.
كوستا غفراس.. تحويل السياسة إلى سينما
العثور على ديوان نادر مسروق لحافظ الشيرازي
رواية "ناقة صالحة".. محاولات السنعوسي للتمرّد على الشهرة