ولد وليام أوكام 1285 ـ 1347 في مدينة أوكام جنوب إنجلترا، وانضم لأتباع المذهب الفرنسيسكاني، وصار شخصية بارزة في ذلك المذهب الديني.
في عام 1324 استدعاه البابا يوحنا الثاني والعشرون إلى أفينيون بفرنسا للرد على تُم الهرطقة الموجهة إليه، وبقي في أفينيون لمدة أربع سنوات، وفي عام 1328م هرب منها إلى حماية لويس إمبراطور بافاريا، وقد كان إمبراطورا رومانيا، وعدوا للبابا.
ألف كتب عدة في الهجوم على البابا، منها، "سفر المئة يوم"، يذكره فيها بالفقر لدى المسيح، وكتاب في "عقائد البابا يوحنا الثاني والعشرين".
بقدر ما كان القرن الـ 16 يتقدم، كان الصراع الديني ـ السياسي يفيد الملوك القوميين، فالتحرر من التسلسل الكنسي كان يعني الخضوع أكثر للسلطة الزمنية.
وهكذا، بشر جون ويكليف بأن الملك، هو نائب الله وممثل مملكة المسيح، له الحق في الطاعة، سواء كانت أعماله عادلة أم جائرة، وأن كل مقاومة موجه ضده هي ضالة وتستحق الإدانة، وأن واجبه أن يحكم وفق العدالة والقانون، والجماعة ليس لها أي حق شرعي ضد في حال نكثه بهذا الواجب، وأن كل سلطة قضائية كنسية تتفرع منه، وأن كنيسة قومية تحكم باسم الحق التوراتي، يجب أن تحل محل الكنيسة التسلسلية.
الدولة / الكنيسة
ثلاث تيارات رئيسة ميزت القرنين الثالث عشر والرابع عشر في أوروبا:
الأول: تيار علمي طبيعي حاول أن يستمر على نهج خطي روجر بيكون، وكان مقره أكسفورد.
الثاني: تيار تأثر بالرشدية اللاتينية عند سيجر البرابنتي، وكان تياراً مبتدعا، وأكثر صراحة في تعبيره عن ذاته.
الثالث: تيار تميز بعدم إكتراثه بالناحية الدينية من حيث صلتها بالعقل، بعد أن يأس من التوفيق بين العقل والنقل، فانصرف بعض مفكريه إلى العلوم العملية، بينما لجأ البعض الآخر إلى التصوف للوصول إلى الحقيقة الدينية.
وكان طبيعيا أن يحظى موضوع الفصل بين الكنيسة والدولة ومسألة علاقة الكنيسة بالإمبراطورية باهتمام كبير بعد عام 1328 من قبل وليام أوكام أحد علماء اللاهوت الأكثر شهرة.
وإذا كان أوكام قد تلاقى مع مارسيل دوبادو في كثير من النقاط، فإنهما مع ذلك يختلفان كثيرا في نقاط أخرى.
سعى مارسيل إلى تأكيد تفوق الإمبراطورية على الكنيسة أولا، ثم إضعاف سلطة البابا داخل كنيسته ثانيا، أما أوكام الحريص على التراث المسيحي، فكان يحاول الحفاظ على المسيحية من بوابة السياسة، من بوابة الانفصال عن السياسة.
لم يفكر إطلاقا في إذابة الكنيسة في الدولة، أو جعلها كنيسة وطنية تتبع الدولة، بقدر ما كان يهدف إلى فصل المجالين الروحي والزمني عن بعضهما البعض، ومن ثم الانتقال إلى إصلاح الكنيسة ذاتها.
وترتب على هذا الموقف أن هاجم أوكام سعي البابوية إلى السيطرة الزمنية:
لا تمتد سلطة البـابا بحسب النظـام، إلـى
حقـوق وحريـات الغير، خصوصا تلك التــي
للأبـاطرة أو الملوك أو الأمراء، وغيرهم من
العلمــانيين، لأن الحقـوق والحريــات مــن
هذا النوع هي من جملة الأشيـاء الـزمنية
وأن البابا ليس له سلطان عليها.
شدد أوكام على استقلالية سلطة الإمبراطور والحكام العلمانيين عن سلطة الكنيسة، وجادل بأن الحكومة البشرية هي نتاج سقطة آدم التي منع الله بعدها قوتين من أجل تفادي دمار لا ينتهي: قوة تنصيب الحكام، وقوة الحصول على ملكية خاصة، وهاتان القوتان لا تستمدان من البابوية، وبالنسبة له، تستمد السلطة السياسية المشروعية من رضى الشعب.
كان أوكام يهتم بالدرجة الأولى، بالدفاع عن القيم الروحية، ويبدي عدم ثقة تجاه كل تركيز للقوة سواء في الدولة أو في الكنيسة.
يؤكد أوكام في كتابه "محاورات" أن السلطة الزمنية تستمد مصدرها من رضى الشعب الذي تعبر عنه هيئة ناخبين، لكنه أعطى للإمبراطور صلاحيات التدخل في الشأن الروحي.
وينتج عن هذا أن الإمبراطور مؤهل لتوقيع جزاء على البابا الهرطقي أو المثير للفضائح، وبهذا حاول أوكام أن يعيد للأباطرة والأمراء المسيحيين الوعي برسالتهم الروحية.
كان أوكام بحسب جان جاك شوفالييه، محافظا من الوجهة السياسية، ومدافعا عن المذهب الدستوري ضد النظام الملكي المطلق الذي كان للبابوية.
وبما أن الرؤية الدينية هي المصدر الوحيد للحقيقة المسيحية، فإنه يصعب تسويغ وجود نظام كنسي هرمي يكون فيه البابا هو الحاكم المطلق، أي أن القدرة على قراءة نصوص الكتاب المقدس والإيمان المسيحي، موزعان ديمقراطيا، أكثر من التعليم اللاهوتي.
لذا، عارض أوكام الأطروحة التي تفيد أن البابا يجب أن يكون له الفصل في المسائل الدينية، فاقترح تأسيس مجامع / مجالس لتقييد سلطة البابا ومراقبتها، غير أنه أدرك أن هذه المجالس ليست معصومة عن الخطأ.
أما من الوجهة الفلسفية، فكان أوكام أسميا، ومن القائلين بالاختيار، ومن منظور تاريخ الأفكار كان سلفا لـ مارتن لوثر والبروتستانتية.
المذهب الاسمي
يقوم هذا المذهب على نفي وجود الكليات / المفاهيم المجردة، واستبعد مشكلة الكليات عن مذهبه لكونها مجرد علاقات لغوية لا تستند إلى الحس والتجربة، وأعطى القيمة في منطقة للأفراد (الأشياء المشخصة الموجودة في الواقع).
ورأى بأنه لا يمكن البرهان بالمنطق وحده على أي قضية تؤكد وجود كيانات غير الأفراد، أو الجزئيات، والتعرف على الأفراد لا يتم إلا بالتجربة، وقد ترتبت على هذه الأفكار قضية إخراج اللاهوت من دائرة العقل، لأن العقائد الدينية لا يمكن إخضاعها للبرهان والتجربة، ولو كانت كذلك لآمن بها الكافر والوثني، وهما يتمتعان بذكاء لا يقل عن ذكاء النصارى.
بعبارة أخرى، يرى أوكام أن الأشياء الوحيدة الموجودة خارج وعينا هي الأشياء المحسوسة، أما التصورات فلا وجود لها إلا في عقلنا كظواهر خاصة، لذا، لا وجود لأساس للتفكير اللاهوتي القائم على الكليات، اللاهوت وعلاقتنا بالله قائمة على الكتاب المقدس.
وهكذا، فإن المذهب الاسمي يؤدي إلى تمييز بين العقل والإيمان، واستبعدت الميتافيزيقا واللاهوت الفكري، وهذا معناه أن النشاط الفكري ابتعد عن الفلسفة واتجه نحو العلوم الاختبارية.
يعتبر المذهب الاسمي خطوة جديدة في ظل هيمنة المذهب الواقعي في تلك الفترة، والأفكار بالنسبة للمذهب الواقعي لها وجودا موضوعيا واقعيا، فهي حالات جزئية من الأفكار الكونية الموجودة كعناصر في العقل الإلهي، ويتلقاها الإنسان في نوع من الإضاءات والحدس أو باستقصاء الطبيعة التي تعكس أفكارا قائمة، فالعقل والطبيعة يعكس أحدهما الآخر، ويمكن بذلك فهم العلاقات بين المخلوقات، كما يمكن فهم الله من مخلوقاته، ومن زاوية النظر هذه يكمل المنطق واللاهوت الطبيعي أحدهما الآخر.
كما قلنا، شكل المذهب الاسمي الجديد خرقا مبكرا للموقف التجريبي ضد القياس الأرسطي، الساعي إلى معرفة الجزئيات والأشياء، وقد حمله متدينون أصوليون انتقدوا تأثر اللاهوت بـ أرسطو وابن رشد.
وفي هذا الصدد، يكتب عزمي بشارة أن أصحاب الفكر الاسماني هم أصحاب المزاج اللاهوتي الفلسفي الذي أوصل الفكر لاحقا إلى ضرورة الاستقراء والبحث العلمي التجريبي في الجزئيات، واستبدال الأفكار المسبقة بالفرضية العلمية التي تحتاج إلى فحص.
أثرت أفكار أوكام الاسمانية التي أنكرت وجود الأفكار الواقعية خارج أفكارنا الذاتية في اللاهوت أثناء عصره والعصور اللاحقة، لأنها رفضت النقاشات في شأن إثبات وجود الله.
واعتبرت الموضوع إيمانيا بحتا يكشف بالوحي لا بالإثباتات المنطقية والمعرفة، فالإنسان يعرف الأشياء بأفكاره الداخلية ولا توجد أفكار خارجية موضوعية.
لكن من سخرية جدل الأفكار، أن الاسمانية هذه وجدت صدى في الكنيسة، فطالما أن الإنسان لا يعرف وحده معنى وجود الله، ومعنى قدرته ونعمته، يصبح الاعتماد على وجود كنيسة منظمة وقائمة فعلا عبر القرون أمر لا يجوز الاستغناء عنه.
إن الأمر الأكثر إثارة للدهشة في هذا الفكر الديني هو أنه إذا كان الله مطلقا وموصدا أمام العقل، ولا يمكن معرفته إلا بالإيمان، فالنتيجة ستكون أن الإيمان بالله كلي، أما العقل فيجب أن يدرك أنه لا أفكار واقعية في الدنيا.
وقبل وفاته بزمن طويل اعترف به كأقوى مفكر في عصره وارتجت الجامعات بالجدل حول فلسفته، وقبل كثير من علماء اللاهوت وجهة نظره في أن العقائد الأساسية للدين المسيحي لا يمكن إثباتها بالعقل وأن التمييز بين الحقيقة الفلسفية والحقيقة الدينية كان واسع الانتشار في القرن الرابع عشر.