نسفت
تسريبات قناة "مكملين" الأخيرة، الدعاية التي تم الترويج لها على مدى تسع سنوات عن الجيش الذي حمى
الثورة، فإذا بها هشيما تذروه الرياح، أو كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف!
فلم يكن
المجلس العسكري صادقاً، وهو يحيي الثورة والثوار في ليلة تنحي الرئيس مبارك، ولم يكن صادقاً، وهو يحيي شهداء الثورة في هذه الليلة، وهي التحية العسكرية الشهيرة التي وجهها المتحدث الرسمي باسمه، فأدخلت على الرأي العام الغش والتدليس!
ولا يعد السيسي صادقاً وهو يتحدث عن هذه الثورة بتقدير، فيبدو متناقضاً أمام الناس وهو يدينها، حتى توشك أن تصبح على لسانه "أم الكوارث"، و"أساس المصائب"، ورأس كل خطيئة، فقد عودنا على هذا الخطاب المزدوج، لكن الموقف السلبي من الثورة يأتي متسقاً مع السياق، على العكس من تصريحاته الإيجابية عنها، التي تشبه وعوده بالرخاء، لكنها وعود الشدة، وعندما كان يظن أن الجماهير معه على "الحلوة والمرة"، كان أصدق، وهو يقول إن جيلين سيتم القضاء عليهما بسبب سياساته الاقتصادية!
ذهبت السكرة:
لقد جاءت تسريبات "مكملين" في وقت كان ينبغي أن تكون قد ذهبت فيه السكرة وحلت الفكرة، واستيقظ الناس من وهم "الجيش الذي حمى الثورة"، وهي الدعاية التي بالعزف عليها تحولت إلى حقيقة، لا تقبل النقاش حولها، مع أن هذا لم يكن صحيحاً. وها هي تسريبات "مكملين"
تأتي كاشفة، وليست منشئة للموقف العدائي منها، ليؤمن من يؤمن على بيّنة ويكفر من يكفر بينة!
فها هو حمدي بدين، أحد قيادات المجلس العسكري الكبار عند قيام الثورة، يظهر في الصورة، مع قائد الشرطة العسكرية (عزله الرئيس مرسي) وهما في حالة تنمر بالثوار بميدان التحرير، ود لو يستطيع فض المظاهرات بالقوة، ثم إنه يشارك في توقيع كتاب وصف هذه الثورة بـ"الربيع العبري"، مؤلفته أحالتها نقابة الصحفيين للتأديب، لأنها ظهرت في أحد البرامج التلفزيونية وقالت إن الثورة من فعل الخارج، وكأن هذا الخارج كان في عداء مع مبارك، كنز إسرائيل الاستراتيجي، ليدعم الثورة عليه!
إن كل من شارك في الثورة قد رأى مواقف لقيادات الجيش تؤكد أن انحيازها الحقيقي هو لمبارك، وهذا طبيعي، ومن العبث تصور موقف غير هذا، فنحن لسنا أمام موقف لمجلس إدارة نادي الضباط المنتخب، كما كان الحال عليه قبل حركة الضباط الأحرار في سنة 1952، فالمجلس العسكري معين بقرار من رئيس الدولة، وهو الذي رقى أعضاؤه بالواحد، واصطنعهم على عينه، لكن الدعاية جعلت من المجلس العسكري كما لو كان تعبيراً عن الجيش وليس عن الرئيس، الذي يمكنه بجرة قلم أن يحيل من لا يروق له من بين الأعضاء إلى التقاعد، أو إلى السجن في حال انعقاد الرغبة لديه على ذلك، بعكس النظرة التي تم الترويج لها بأنه مجلس كهنوتي، يشبه قيادة الجيش في تركيا في سابق العصر والأوان!
ولم تكن قيادة الجيش عندما قامت ثورة يناير، أكثر وعياً من قيادة الجيش في عهد السادات، ولم يكن المشير طنطاوي أكثر اعتزازا بنفسه من المشير محمد عبد الغني الجمسي. ومع هذا، فعندما حدثت انتفاضة الخبز في كانون الثاني/ يناير 1977 وعجزت الشرطة عن قمعها، نزل الجيش للشارع في اليوم التالي وأنهاها، وسافر وزير الحربية إلى استراحة السادات في محافظة أسوان، ليعطيه "التمام"!
المجلس العسكري والتوريث:
ورغم ما جرى أمام الجميع، فقد كانت هناك رغبة بين أطياف الثورة على تصديق الدعاية الخاصة بالجيش الذي نزل لحماية الثورة، وأحيانا يكون اللجوء إلى إثبات هذا ولو بروايات تفتقر إلى الدليل. فمنهم من يكون أكثر تواضعاً، فيقول إن المجلس العسكري رحب بالثورة لأنها ستمنع التوريث، وكأنه كان صاحب قرار أو إرادة، وكأن أمر الحكم يدخل في اختصاصه الوظيفي، وكأنه يوجد من بين أعضائه من كان يجرؤ على رفض التوريث!
يقولون إن المجلس العسكري كان ضد التوريث، ونرد حسناً، كيف علمتم هذا؟!
لقد كان من بين الحرس المدني القديم لنظام مبارك من يمكن أن تلمس رفضهم للنفوذ السياسي لجمال مبارك، بكلمة أو بتصريح أو بموقف، ولو بحماية من ينتقدون جمال مبارك في صحفهم، فليس خافياً على أحد أن الصحيفة التي كانت تبدو من حيث الشكل ضد التوريث، وهي "الدستور"، قد تحول ترخيصها من أسبوعي إلى يومي، بالمخالفة للقانون، وبدون انتظار لاجتماع المجلس الأعلى للصحافة، وفي اللحظة التي كان رئيسها تحريرها يحتسي قهوته بمكتب رئيس المجلس صفوت الشريف!
وعندما صدر الحكم بحبس المذكور شهرين بتهمة إهانة رئيس الجمهورية. كان صفوت الشريف ممن بادروا بالطلب من رئيس الجمهورية أن يعفو وأن يصفح، حماية لإبراهيم عيسى من السجن، الذي لم تنقطع علاقته بالدكتور زكريا عزمي، رئيس ديوان رئيس الجمهورية، وهو المنتمي للحرس القديم أيضا.
فهل سمع أحد ولو في المنام تصريحا، أو وسوسة، لأحد قيادات الجيش يرفض فيه نفوذ جمال مبارك، أو في خلافته لوالده؟ وهل كان أحد يجرؤ على ذلك؟!
توظيف الدعاية للتبرير:
بيد أنها قوة الدعاية التي تتردد وكأنها بديهية من الإلحاح عليها، ولأنها كانت تبرر بالنسبة للشباب الذين شكلوا ائتلافات الوجاهة الاجتماعية، وتخطوا الرقاب وصاروا يتصرفون على أنهم أولياء أمر الثورة.. تبرر تقربهم للمجلس العسكري بالنوافل، ولا تنسى أن المجلس من مكنهم من هذه المكانة، إذ كانت الاستضافات التلفزيونية لممثلي الثورة تحددها الشؤون المعنوية، في قوائم ترسل للبرامج والقنوات التلفزيونية!
إنهم مع قادة الجيش الذين حموا الثورة، ولولاهم لضرب مبارك ميدان التحرير بالمنجنيق. لا تنسى أن الدعاية قد راجت أيضا بأن المجلس قد رفض أمر مبارك بضرب الثوار بالرصاص، وأنهم من حملوا مبارك على التنحي، وهو ما نفاه المشير محمد حسين طنطاوي جملة وتفصيلا!
والإخوان، وباعتبارهم قوة فاعلة في ميدان التحرير، فإنهم كانوا يعلمون تفاصيل كثيرة مثل التي شاهدناها في تسريبات "مكملين" للجنرال حمدي بدين وصاحبه، لكنهم مع ذلك كان يسلمون بصحة هذه الدعاية ويروجونها، ظنا منهم أنهم بها يحملون قيادة الجيش على كفوف الراحة، فلا يندفعوا للجهر بالمعصية ومعاداة الثورة أو الانقلاب عليها.. كانت لديهم خطة، ولم يكن لدى وجهاء الثورة (بالتعيين) أي خطة غير الحصول على المكانة بحضور اجتماعات المجلس ودعواته.
وكل هذه الدعاية، من أول الجيش الذي حمى الثورة، إلى طنطاوي الذي أمر مبارك بالتنحي فقال له: سمعاً وطاعة، تمت حياكتها في أروقة وزارة الدفاع، ونشرت في صحيفة "الأخبار" قبل أن تطبع في كتب. وكل له في مدح النبي غرام، كما يقول شاعر الربابة!
فقيادة الجيش، وباعتبارهم قد حموا الثورة، فإنه من حقهم أن يمتطوها ثمن هذه الحماية، وأن يكون المجلس العسكري في حكم "الولي الفقيه"، ومن حقهم أن ينقلبوا على الحاكم المنتخب ليستردوا حكمهم وثورتهم التي حموها!
والآن، هل نقول: علم كل أناس مشربهم؟!