على الرغم من صعود عدد من قادة الحركات الإسلامية إلى رأس السلطة في العديد من الدول العربية والإسلامية، إلا أنهم لم يتمكنوا من تقديم نماذج ذات خصائص محددة يمكن أن نطلق عليها مصطلح الدولة الإسلامية.
من إيران إلى السودان مرورا بباقي الدول العربية التي تنص أغلب دساتيرها على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، ظل هيكل الدولة الحديثة هو الوعاء الذي اندرجت فيه مختلف الاجتهادات السياسية.
ومع أن المكتبة الإسلامية تزخر بآلاف الكتب التاريخية التي توثق مختلف مراحل تطور المنطقتين العربية والإسلامية قديما وحديثا، إلا أنها في الجانب الدستوري والقانوني المتصل بالدولة ظلت في أغلبها أقرب إلى الترجمة والنقل من التجربة الغربية منها إلى النحت الإسلامي. كما هيمن عليها الاصطفاف الأيديولوجي الذي قسم المنطقة العربية والإسلامية، بين شق وطني يعتقد بثراء المكتبة الإسلامية وتقدمها عن غيرها من الاجتهادات الفكرية، وبين نخبة تعتقد بأن العلم لا وطن له، وأن التلاقح الفكري والثقافي من أهم أسباب التطور في مختلف المجالات.
ولكن الحاجة إلى مفاهيم وآليات دستورية وقانونية لإدارة الدولة لم تظهر بشكل جلي وواضح، إلا مع ثورات الربيع العربي، التي أعادت صياغة المشهد السياسي بالكامل، وفتحت الباب على مصراعيه أمام مختلف التيارات السياسية الوطنية للبروز وتصدر المشهد، وكان من بينها تيار الإسلام السياسي الذي ظل ينظر للدولة الإسلامية منذ مطلع القرن الماضي.
"عربي21"، في سياق متابعتها للحراك الفكري الذي تعرفه المنطقة العربية والإسلامية، تعيد فتح ملف الدولة الإسلامية كمفهوم وآليات، وتطرحه على قادة المجتمع السياسي والفكري في العالمين العربي والإسلامي.
وبعد أن ناقش أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة المنار التونسية الدكتور محمد الرحموني، في ورقته التي أعدها خصيصا لـ "عربي21"، فكرة الدولة في القرآن من خلال ثنائية الإيمان والكفر، ثم الأصل اللغوي والديني للدولة انطلاقا من ثنائية القرية والمدينة، يستمر اليوم في بسط نظرية الدولة في الإسلام من خلال مدنية الرسول صلى الله عليه وسلم.
المؤاخاة ركيزة الدولة النبوية
من أهمّ إنجازات الرسول بعيد هجرته إلى يثرب وتأسيس المدينة نواة للدولة المؤاخاة. وكان يرمي من وراء ذلك إلى إضعاف الرابطة العصبية حتى يسهّل انتماء أصحابه إلى جماعة أوسع من القبيلة. ذلك أنه من المستحيل الحديث عن الأخوة في المجتمعات البدوية القائمة على العصبية، لأنّ الأخوة تشترط الاجتماع في مكان واحد، في حين أنّ البداوة ترحال متواصل، وتشتت دائم، فلا توافق بين الأخوة والتباعد المكاني. بعبارة أخرى هناك تقابل تام بين منطق الاختلاف logique de la différence(مجتمع المدينة) ومنطق الهوية logique de l’identité (القبيلة المنغلقة على نفسها).
إذا نظرنا في هذه المؤاخاة، أدركنا دورها الكبير في إضعاف الرابطة الدموية والقبلية لفائدة الرابطة المدنية، فمن تبعات هذه المؤاخاة:
ـ تنازل بعض الأنصار عن قسم من أموالهم لمصلحة المهاجرين.
ـ استعداد بعض الأنصار لتطليق زوجاتهم ليتزوجهن المهاجرون.
ـ جعل رابطة الإيمان تحل محلّ رابطة الدم بشكل تام، بحيث يكون الميراث وهو العلامة الأبرز على القرابة، على أساس رابطة الأخوة الإيمانية.
المؤاخاة إذا هي وسيلة لكسر العصبية القبلية التي تمثّل العدو الأساسي لفكرة الدولة. إنها تعني كما تقول معاجم اللغة العربية ربط الفرد القبلي إلى المكان حتى تسهل عملية تأهيله لقبول فكرة الدولة ومنطقها: جاء في لسان العرب: "الآخية، بالمدّ والتشديد واحدة أواخي: عود يعرّض في الحائط، ويدفن طرفاه فيه، ويصير وسطه كالعُروة تشدّ إليه الدابة... وقال أعرابي أخّ لي آخيّة أربط إليها مُهري... وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري: مثل المؤمن والإيمان كمثل الفرس في آخيته، يحول ثم يرجع إلى آخيته، وإنّ المؤمن يسهو ثم يرجع. والآخية : الحرمة والذمّة: تقول لفلان أواخيٌّ وأسباب ترعى".
وفي علم الاجتماع السياسي تعني المؤاخاة أنّ "تنظيم السلطة يقتضي نوعا من التفريد individualisation الذي يؤسس لاستقلال الفرد عن الجماعات الصغيرة بإضعاف الرابطة العصبية، الأمر الذي يسهل انتماءه إلى جماعة أوسع، بما يمكننا تسميته بتصعيد الانتماء الاجتماعي أو رفع مستوى الانتماء.
أعداء الدولة النبوية
الأعراب
للأعراب في القرآن وسنّة الرسول صورة سلبية، فهم بحكم ارتباطهم بالفضاء الصحراوي، أبعد ما يكونون عن المدنية والحضارة. وقد جاء في تفسير الرازي للآية السابعة والتسعين من سورة التوبة: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، "أهل البدو يشبهون الوحوش لاستيلاء الهواء الحار اليابس عليهم وذلك يوجب مزيد التيه والتكبّر والنخوة والفخر والطيش عليهم".
وجاء في تفسير التحرير والتنوير: "فإنّ الأعراب لنشأتهم في البادية كانوا بعداء عن مخالطة أهل العقول المستقيمة، وهم لتوارثهم أخلاق أسلافهم وبعدهم عن التطوّرات المدنية التي تؤثر في النفوس البشرية... يكونون أقرب سيرة بالتوحّش وأكثر غلظة في المعاملة. وإنّما كانوا أجدر بعدم العلم بالشريعة لأنهم يبعدون عن مجالس التذكير ومنازل الوحي، ولقلة مخالطتهم أهل العلم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم".
الأعراب إذن هم الذين يعيشون في البادية بعيدا عن السلطة السياسية والدينية، ولذلك تميزت حياتهم بعدم الاستقرار وبضمور الوازع الديني، ومن ثم فهم في مرتبة دون المهاجرين والأنصار حتى وإن أسلموا.
يبدو من خلال التفسيرين السابقين، أنّ الفضاء هو الذي يحدد هوية الأعراب وعلاقتهم بالإسلام (الحدود)، فالأعرابي هو الممتنع عن التحيّز الفضائي لذلك يجهل الحدود بمعنييْها المادي (الأصلي) والقرآني (الشريعة والقيم)؛ وعلى النقيض منه يتميّز الحضري بوجود عقد يربطه بالمكان وبالفضاء. جاء في لسان العرب: "حَضْرَةُ الرجل قُرْبهُ وفِناؤه. وفي حديث عمرو بن سَلِمَة الجَرْمِيِّ: كنا بِحَضْرَةِ ماءٍ أَي عنده؛ الحاضر: المقيم في المُدُنِ والقُرَى، ورجل حَضِرٌ: لا يصلح للسفر. الحاضِرُ: القومُ النُّزُولُ على ماء يقيمون به ولا يَرْحَلُونَ عنه". أن تكون أعرابيا يعني أن ترفض السلطة.
هذه الصورة السلبية للأعراب هي التي تفسّر ذلك الكم الهائل من الأحاديث النبوية التي تعلم البدو كيف يغتسلون ويتغوطون ويجامعون نساءهم ويطرقون الأبواب... كما نجد أثرها في الفقه الإسلامي المبكر، إذ اعتبر حكم المتعرب كحكم المرتد؛ فالخروج عن المدينة هو في الآن نفسه خروج عن الدين وعن الدولة. فقد ورد في صحيح البخاري أنّ الحجاج قال لسلمة بن الأكوع وقد بلغه أنّه خرج إلى سكنى البادية: "ارتددت على عقبيك؟ تعرّبت" فقال: "لا، ولكن رسول الله أذن لي في البدو".
وقد صادقت اللغة العربية على هذه الصورة، فقد جاء في لسان العرب: "والأعرابي: البدوي. ورجل أعرابي: إذا كان بدويا صاحب نجعة وانتواء وارتياد للكلأ، وتتبع لمساقط الغيث، وسواء كان من العرب أو من مواليهم... ولا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنما هم عرب لأنهم استوطنوا القرى العربية وسكنوا المدن، سواء منهم الناشئ بالبدو ثم استوطن القرى، والناشئ بمكة ثم هاجر إلى المدينة، فإنْ لحقت طائفة منهم بأهل البدو بعد هجرتهم واقتنوا نعما ورعوا مساقط الغيث، بعدما كانوا حاضرة أو مهاجرة، قيل قد تعرّبوا أي صاروا أعرابا بعدما كانوا عربا... والمعرب من الخيل الذي ليس فيه عرق هجين".
الأعراب إذن هم الذين يعيشون في البادية بعيدا عن السلطة السياسية والدينية، ولذلك تميزت حياتهم بعدم الاستقرار وبضمور الوازع الديني، ومن ثم فهم في مرتبة دون المهاجرين والأنصار حتى وإن أسلموا. لذلك تميّزوا عن العرب بعدة صفات نجدها في جذر (ع ر ب) في لسان العرب:
ـ كون حياتهم مكشوفة لا منازل ولا أسوار تحميهم (الإبانة والإفصاح).
ـ كون الفساد منتشرا بينهم والمتمثل في غياب الثقافة الصحية (عربت المعدة، وتبرج النساء، المرأة العروب).
ـ كون عرقهم خالصا نظرا لعدم استقرارهم بالمدن، حيث تختلط الأعراق وتضعف العصبية القبلية بفعل التصاهر (المعرب من الخيل).
الخوارج والقرّاء
تربط المصادر القديمة بين الخوارج وقصة ذلك الأعرابي الذي اتّهم الرسول بأنّه لم يكن عادلا في أثناء توزيع غنائم غزوة حنين، فهي تلح على أنّ الخوارج قد خرجوا من ضئضئ هذا الأعرابي المسمّى ذو الخويصرة التميمي. بعض المصادر القديمة فهمت هذا الخروج بالمعنى البيولوجي (من سلالته)؛ ولكننا نذهب مذهب ابن كثير إلى أن المقصود "على شاكلته وصفته". وقد حددت الأحاديث النبوية أهم صفتين لهؤلاء الخوارج، فهم:
ـ يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم.
ـ يَمرُقُون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
وبالفعل فصفات الخوارج ومبادئهم وشعاراتهم وسلوكهم وأدبهم، كلّها تثبت أنهم النسخة الإسلامية من أعراب الجاهلية.
تقول المصادر التاريخية إنّ "القراء" قد شكلوا النواة الأولى لفرقة الخوارج، وهم مجموعة من قرّاء القرآن. وقد وفرت خلافة عثمان الإطار الملائم لتكثيف نشاطهم في الكوفة واتساع دائرة اهتمامهم، لتشمل بالإضافة إلى القرآن مسائل أخرى تهم الحياة السياسية. وفسّرت ثورة القراء على السلطة في خلافة عثمان بن عفان ورفضهم الدولة، بكون اختراق القرآن لبنى الفكر الديني وللحركة السياسية آنذاك هو الذي مكّنهم، بعدما صارت علاقتهم بالقرآن متينة، من تجاوز الدولة باعتبار امتلاكهم للمرجعية الأولى والأساسية، وهي القرآن الذي يفوق كلّ المرجعيات الأخرى.
ولكن المؤرخ المصري عبد الحي شعبان يقدّم تفسيرا آخر لظاهرة القراء، فهو لا يرى علاقة بينهم وبين قراءة القرآن، فمن الصعب، في رأيه، القبول بفكرة وجود ألوف قراء القرآن منظمين في فصائل مستقلة يحاربون في صِفّين بعد وقت قليل من ظهورهم. ومن ثم "فإنّ كلمة قرّاء يجب أن تفهم بأنها اشتقاق آخر من جذر (ق ر ى)؛ وهي تعني أهل القرى، مما يدل على مجال عملهم كأمناء. ولعل هذا الالتباس بشأن قرّاء القرآن أُدخل من قبل إخباريي القرن العاشر المسلمين الذين التبس عليهم أمر القراء السابقين في عقرباء"، وقد أحال شعبان على الفرزدق الذي استعمل عبارة أهل القرى في إشارة إلى القراء الذين قتلوا في ثورة ابن الأشعث. والمعنى نفسه استعمله أحمد المنيني في شرح "اليميني على تاريخ العتبي"، واستعمله المسعودي أيضا في "مروج الذهب" .
فكرة التكفير الخارجية تشبه فكرة العصبية: من لم يكن معنا فهو ضدنا بالقوة وبالفعل؛ وعلى هذا الأساس فمن لم يكن خارجيا فهو كافر. إنّ فكرة التكفير تختزل المؤمنين والصالحين كلاّ في جماعة منغلقة على نفسها.
وسواء قبلنا المعنى الشائع لعبارة القراء (قارؤو القرآن) أم المعنى الذي ذهب إليه عبد الحي شعبان (أهل القرى)، فهناك قاسم مشترك بينهما عبّرت عنه المصادر القديمة بصيغ عديدة تلتقي كلّها في معنى "قلّة درايتهم بالقرآن وتفسيرهم السطحي له". ظهر ذلك جليا في شعارهم الشهير "لا حكم إلا لله"، وقد ردّ عليهم علي بن أبي طالب بتذكيرهم أن هذا الشعار لا معنى له، وإنما ينم عن جهل بالدين والسياسة: "كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ! نَعَمْ إِنَّهُ لا حُكْمَ إِلاَّ للهِ، ولكِنَّ هؤُلاَءِ يَقُولُونَ: لاَ إِمْرَةَ، فَإِنَّهُ لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فَاجِر، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، وَيُبَلِّغُ اللهُ فِيهَا الْأَجَلَ، وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيءُ، وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ، وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ، وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِر". هذا الشعار يكشف عن البعد البدوي في تفكير الخوارج، فبضاعة البدو من الدين قليلة. ولعل خير ما يجسّد هذا الخواء الديني هو عقيدة التكفير التي اعتنقها الخوارج، وأصبحت من صميم فكرهم ومذهبهم، فهي تربطهم بالقبيلة الجاهلية أكثر مما تربطهم بالإسلام، ففكرة التكفير الخارجية تشبه فكرة العصبية: من لم يكن معنا فهو ضدنا بالقوة وبالفعل؛ وعلى هذا الأساس فمن لم يكن خارجيا فهو كافر. إنّ فكرة التكفير تختزل المؤمنين والصالحين كلّا في جماعة منغلقة على نفسها.
ولكن البعد البدوي لدى الخوارج ظهر جليّا في موقفهم من الدولة ومن المدينة، ذلك الموقف الذي عبّرت عنه الأحاديث النبوبة بصيغة: "يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية". وفي رواية أخرى: "يمرقون من الدين مروق السهم من الرميّة". والمراد بالدين الطاعة أي "إنهم يخرجون من طاعة الإمام المفترضِ الطاعة وينسلخون منها". هذا الخروج عن الدولة جسّده الخوارج كذلك في شعارهم الشهير "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وهو شعار مضاد لسلطة الدولة وقد عانت منه الدولة الإسلامية، حتى بعدما تم ضبطه في عهد المأمون كما هو معلوم. كما ظهرت بداوتهم في ما مارسوه من عادات جاهلية (أعرابية) مثل زيارة القبور، فقد كانوا يزورون، قبل الخروج، مصارع إخوانهم في النهروان فيبكون عندها ويطيلون البكاء، ومثل عملية حلق الرأس التي تدخل، كما في الجاهلية، في إطار التعبير عن الحزن العميق الذي يشعرون به.
اقرأ أيضا: باحث تونسي: "الدولة" مفهوم قرآني أصيل وهذه أسانيده
اقرأ أيضا: الدولة في القرآن.. قراءة دلالية في ثنائية القرية والمدينة
اقرأ أيضا: قراءة علمية ونقدية لفكرة الدولة في تجربة الرسول (1 من 2)